سفراء الكلمة في الخارج مبدعون عرب بدرجة «أديب» و«دبلوماسي»
تتعاقب أجيال العرب، ومن نوابغهم دبلوماسيون وأدباء مرتحلون ومهاجرون، تحملوا أمانة الكلمة، وصاروا سفراء لها، سواء بعملهم الرسمي الذي كُلّفوا به، أو من خلال الإبداع الذي أفنوا فيه ذواتهم، تعبيرًا عن كينونتهم، وهويتهم العربية، وانشغالاتهم الذاتية، وقضاياهم الوطنية، والإنسانية. ولا تخفى على متابع للحراك الثقافي، العربي والعالمي، قوى التأثير التي أحدثتها وشكّلتها ارتحالات القامات العربية، الثقافية والدبلوماسية، إلى العالم الغربي، خصوصًا في أوربا والولايات المتحدة، على مدى أجيال وقرون خلت، منذ بداية ظهور ما سُمّي «أدب المهجر»، في بشائره الأولى، حتى لحظتنا الراهنة، الأمر الذي انعكس إيجابيًّا في الكثير من الأحوال لصالح القضايا العربية، وصورة العرب لدى الغرب.
وعلى امتداد خريطة العالم العربي؛ من محيطه لخليجه، ثمة نخبة من النابهين، الذين تمكنوا من الجمع بين التفجر الإبداعي، وبين العمل الدبلوماسي، في آنٍ. فاستحق هؤلاء القابضون على جمر الحروف وفنون القول أن يكونوا بجدارة دبلوماسيين وسفراء لأوطانـهم على الصعيد السياسي، وسفراء للعرب كلهم وللإنسانية جمعاء على صعيد الإبداع، والفاعلية الثقافية والحضارية.
ويُلاحَظ أن هؤلاء المبدعين العرب، جميعهم، تتفجر في كتاباتهم روح الثورية والتمرد على المألوف، ومن ثم، استطاعوا إشعال حرائق فنية واجتماعية بحروفهم المضيئة رغم طبيعة عملهم الدبلوماسي، الذي يتطلب الحكمة وضبط النفس والتريث.
د. غازي القصيبي
وعلى رأس هؤلاء العرب، المغرّدين في الخارج، الذين جمعوا بين القول الأدبي والقول الدبلوماسي، يقف الشاعر والسفير السعودي الدكتور غازي القصيبي (2 مارس1940- 15 أغسطس 2010) كاسم مؤثر في العصر الحديث. وقد تقلّد العديد من المناصب القيادية بجامعة الملك سعود والسكة الحديد ووزارة الصناعة والكهرباء ووزارة الصحة، وعمل كسفير للسعودية في البحرين، ثم كسفير في بريطانيا حتى عام 2002، وبعدها عاد إلى السعودية للعمل كوزير للمياه.
وتمثل تلك الروح المتقدة، بل الانفجارية، لدى القصيبي مفتاحًا لفهم شخصيته، فالرجل قد تضعه كلماته الإبداعية في مأزق، حينما تتعارض قصائده مع مقتضيات الدبلوماسية من حكمة وضبط للنفس. وكان القصيبي قبل استدعائه من عمله كسفير للسعودية في بريطانيا قد كتب قصيدة أثنى فيها على الشهيدة الفلسطينية آيات الأخرس، التي نفذت عملية استشهادية في أحد الأسواق بالقدس الغربية، ما أثار بعض الأوساط الغربية والصهيونية. يقول القصيبي في هذه القصيدة التي كتبها في أبريل 2002: «يشهد الله أنكم شهداءُ... يشهد الأنبياء والأولياءُ/ متّمُ كي تعز كلمة ربي... في ربوع أعزها الإسراءُ/ قل لآيات: يا عروس العوالي... كل حسن لمقلتيك الفداءُ».
وقد شهدت بداية السبعينيات من القرن الماضي صدور ديوانه «معركة بلا راية»، ذلك الديوان الذي هوجم وقتها، وسعى البعض إلى مصادرته، ولعل عنوانه يمثل ما شكله القصيبي في الوعي الثقافي السعودي من أثر، فهو قائد معركة دائمًا، لكنه أيضًا، ربما بحكم عمله، دبلوماسي، يتعامل مع المعارك بحساسية تكثر من أصدقائه، وتقلل من أعدائه، وتلك هي المعادلة الصعبة التي استطاع القصيبي حلها ببراعة.
نزار قباني
ومن أبرز الشعراء العرب، الذين توهجوا في العالم الغربي وعملوا كدبلوماسيين في مرحلة من حياتهم، وجمعوا بين القولين؛ الإبداعي والدبلوماسي، الشاعر السوري نـزار قباني (1923-1998)، أحد أشهر الشعراء العرب في القرن العشرين وأحد علامات الريادة في قصيدة الشعر الحر والقصيدة الفصيحة المغناة. ولد نزار قباني في دمشق، وتخرج في كلية الحقوق بالجامعة السورية في عام 1944. وعمل نـزار في السلك الدبلوماسي بعد تخرجه، وشغل عددًا من المناصب الدبلوماسية في القاهرة وأنقرة ولندن ومدريد وبكين وبيروت.
كان نـزار بعد إتمام الوحدة بين مصر وسورية في عام 1959 قد تم تعيينه سكرتيرًا ثانيًا للجمهورية المتحدة في سفارتها بالصين. وبعد أن رأى نـزار قباني أنه يريد أن يتفرغ تمامًا للشعر وأن يسقط عن كاهله قيود «الدبلوماسية» استقال من العمل الدبلوماسي في ربيع عام 1966 وأسس بعدها دارًا للنشر في بيروت تحمل اسمه.
وكان رجال الدين في سورية قد طالبوا بطرده من الخارجية وفصله من العمل الدبلوماسي في منتصف الخمسينيات في القرن الماضي بعد نشر قصيدته الشهيرة «خبز وحشيش وقمر»، وقد أحدثت هذه القصيدة ثورة ضده وصلت إلى البرلمان السوري. عن تلك الواقعة يقول نـزار نفسه: «ضربتني دمشق بالحجارة والبندورة والبيض الفاسد حين نشرتُ في عام 1954 قصيدتي (خبز وحشيش وقمر)، وكانت هذه القصيدة أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة».
وقد اتسم شعر نزار السياسي بالنبرة التهكمية اللاذعة، وكان من الصعب أن يقول مثل هذا الشعر وهو في منصبه الدبلوماسي. يقول في «متى يعلنون وفاة العرب»: «أحاول بالشعْرِ أن أُمسِكَ المستحيلْ/ وأزرعَ نخلا/ ولكنهم في بلادي، يقُصّون شَعْر النخيلْ/ أحاول أن أجعلَ الخيلَ أعلى صهيلا/ ولكنّ أهلَ المدينةِ يحتقرون الصهيلْ».
محمد الفيتوري
ومن المرتحلين العرب كذلك، الذين ذاع صيتهم كشعراء كبار فضلًا عن النجاح في العمل الدبلوماسي، الشاعر السوداني محمد الفيتوري (1936-2015)، الذي حمل أيضًا الجنسية الليبية، وعمل في سفارة ليبيا. ولد الفيتوري في عام 1930، وتلقى تعليمه في الإسكندرية، ثم تخرج في كلية العلوم بجامعة الأزهر، وعمل محررًا وكاتبًا بالصحف المصرية والسودانية، كما عين خبيرًا إعلاميًّا بالجامعة العربية ما بين عامي 1968 و1970، وبعدها عمل مستشارًا ثقافيًّا بسفارة ليبيا في إيطاليا، ثم مستشارًا وسفيرًا بسفارة ليبيا في بيروت، ثم مستشارًا سياسيًّا وإعلاميًّا بسفارة ليبيا بالمغرب وغيرها من الدول.
ويعد الفيتوري من رواد الحركة الشعرية الحديثة في السودان والوطن العربي، وتتجلى في أشعاره قضايا إنسانية تنال اهتمام العالم أجمع، من قبيل العنصرية وسوء معاملة الزنوج. وقد خصص الشاعر لإفريقيا دواوين كاملة، منها «أغاني إفريقيا»، «عاشق من إفريقيا»، «أحزان إفريقيا»، وغيرها، فضلًا عن اهتمامه بقضايا العروبة والقومية العربية.
وقد دفعته طبيعة عمله السياسي والدبلوماسي إلى تخصيص كل قصائده لصالح أمته وهويته الإفريقية والعربية، وفي هذا الصدد يقول الفيتوري: «لم أكتب عن طفولتي وأمراضي النفسية، بل سخرت كل شعري لأمتي». ومما قاله الفيتوري في المسألة الإفريقية: «جبهة العبد ونعل الســيد... وأنين الأسود المضطهـدِ/ تلك مأساة قرون غبـرت.. لم أعد أقبلها لم أعـدِ/ كيف يستعبد أرضي أبيض... كيف يستعبد أمسي وغـدي؟/ أنا فلاح ولي الأرض التي... شربت تربتها من جسـدي».
ولم تغب القضايا العربية والإسلامية أيضًا عن الحضور بقوة في قصائد الفيتوري، الذي يمثل دولتين عربيتين في آن واحد، هما السودان وليبيا. فالرجل الدبلوماسي المحنك، والشاعر الثائر، أعلن أن ما حدث في حرب العراق «هجمة شرسة على الحضارة العربية الإسلامية وقيمها»، وربت على كتف الشهيد العراقي والعربي قائلًا له: «دعونا نعلِّقْ على مشجب الشمس أكفاننا/ ونهزُّ بيارقنا/ أو دعونا نصلي/ فقد تُخْصِبُ الصلواتُ التي يبِستْ في حناجرنا/ ثم سالتْ نُعوشًا عراقيةً/ ومدائنَ مكسوةً بالحرائقِ، مزدانةً بالدماءْ/ دعونا نُغَنِّي لمن يستحـــق الغناءْ/ ونبكي لمن يستحِقُّ البكاءْ».
د. عبدالعزيز محيي الدين خوجة
ومن أجيال العرب المرتحلين إلى خارج أوطانهم، الشاعر السعودي السفير الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة، المولود في مكة المكرمة عام 1942. وقد حصل على الدكتوراه في الكيمياء العضوية من بريطانيا عام 1970. وتدرج الدكتور خوجة في العمل الدبلوماسي حتى شغل منصب سفير السعودية في كل من تركيا وأوكرانيا وروسيا والمغرب. وقد صدرت له مجموعة دواوين شعرية مهمة، منها: «الصهيل الحزين»، «في حضرة النور»، «الوصية»، «حلم الفراشة».
ومن جملة آراء الدكتور خوجة، التي أدلى بها في حواراته بشأن العلاقة بين الشعر والدبلوماسية أنه «من الخطأ تصنيف الشعر في خانة المهن، فأن تكون شاعرًا لا يعني أنك موظف في بلاط الشعر، فالإنسان قد يولد شاعرًا، لكنه قطعيًّا لا يولد سفيرًا. والشعر قد يقودك للسفارة، لكن السفارة لن تصنع منك شاعرًا». كما يرى أن العمل الدبلوماسي يتيح للشاعر اقتحام حدود جغرافية وآفاق حضارية، ويجعله يعايش عن كثب تجارب ثقافية وإنسانية مختلفة. كما يفتح أمامه أبوابًا وفرصًا للالتقاء برموز سياسية وفكرية وثقافية كبيرة، ومعايشة أحداث تاريخية مهمة، وهذا كله يسهم في إثراء مخزونه الثقافي وتجربته الحياتية».
حسن عبدالله القرشي
ومن أبرز المرتحلين أيضًا كسفراء للكلمة العربية، الشاعر السعودي السفير حسن عبدالله القرشي (1934-2004)، وتعد «البساطة» مفتاح شخصية القرشي الشاعر والإنسان والسفير، فهو يؤمن بأن البساطة تخلص بصاحبها من الظنون وتنجو به من الإسراف وتنأى به عن المشكلات، وتـجعلـه قريبًا من قلوب البشر، حميمًا في علاقاته مع الآخرين.
ولد حسن عبدالله القرشي في مكة، ودرس بها في المرحلتين الابتدائية والثانــوية، ثم حصـــل على ليسانس الآداب قسم التاريخ من جامعة الرياض. وشغل وظائف متعددة، منها عمله بوزارة المالية، وفي الإذاعة كرئيس للمذيعين، كما انتدب في الإذاعة المصرية. وعمل وزيرًا مفوضًا بوزارة الخارجية السعودية، وسفيرًا بالديوان العام، وسفيرًا فوق العادة بالسودان وموريتانيا، كما شغل غير ذلك من المناصب الراقية، فضلًا عن عضويته بالمجامع العربية اللغوية في كل من القاهرة وعمان ودمشق.
وللشاعر القرشي حصيلة من الدواوين الشعرية، منها: الأمس الضائع، سوزان، ألحان منتحرة، النغم الأزرق، لن يضيع الغد، زحام الأشواق، رحيل القوافل الضالة، عندما يترجل الفرسان، وغيرها. وقد تمكن القرشي من التعبير بشعره عن مكنوناته الداخلية وعذابات ذاته، فضلًا عن الهموم والقضايا القومية والعربية المشتركة، وكان يرى نفسه بالقرب من شاطئ الأحزان في معظم الأحوال، يقول في إحدى قصائده: «إني نهلت من عصارة الألم/ نهلت حتى عفني الندم/ ثملت حتى لم أعد... أستشعر الوجود/ ولفني في ركبه الفراغ والعدم/ وجف في قيثارتي اللحن والنشيد».
ويشغل الشعر الوجداني الحيز الأكبر من إنتاج الشاعر القرشي، بالإضافة إلى اهتمامه الواضح بما يدور في محيطه الوطني والقومي، فالشاعر لا ينسى أنه سفير ودبلوماسي. وعن معنى الالتزام يقول الشاعر القرشي في كتابه «تجربتي الشعرية»: «إنني شاعر أعيش ـ ما أتيح لي ـ هموم النفس البشرية، كما أنني شاعر أحب ـ ما استطعت ـ هموم قومي في هذا العالم المتناقض المضطرب والمغلف بالضباب، الرازح تحت كابوس الذل والنفاق والجريمة، والواقع تحت سيطرة الاستعمار والظلم والاستبداد. وما من ديوان من دواويني إلا وفيه نبض لهذه الهموم القومية المتفاقمة، ومحاولة لتحريك الطاقات الإنسانية نحو عالم أفضل، ونحو مثل عليا، كما أن ثلاثة من دواويني تكاد تكون شعرًا قوميًّا محضًا».
سيد أحمد الحردلـو
ومن أجيال العرب، الذين شكلت إبداعاتهم وكلماتهم تأثيرًا لافتًا في أثناء ارتحاله إلى العالم الغربي، الشاعر السوداني السفير سيد أحمد الحردلـو (1940-2012)، وهو أيضًا أحد الدبلوماسيين البارزين. هو شاعر بدرجة ثائر، ودبلوماسـي بدرجة سفير. مثّل بـلاده من خلال عمله الرسمي لسنوات طويـلـة بدأت بعمله في القسـم الإعلامـي للسفارة السودانية بلندن، واختتمت ببلوغه التـقاعـد وهو سفيـر السودان في دولة اليمن فـي أواخر الثمانينيات من القـرن العشريـن.
خاض الحردلو في الحياة أكثر من معترك، وشهد أكثـر من انقلاب، وذاق مرارة الاعتقال والطـرد من الوظيفة أكثر من مرة، ونال حق اللجوء السياسي في فترة من الفترات. وهو يرى أن أهدأ سنوات عمره وأخصبها هـي السنوات الأخيرة من حياته، حيث صار أكثـر حريةً وتفرغـًا للأدب، وسقطـت من على كاهله أعبـاء الوظيفة وتبعات العمل السياسي وقيوده.
وكثير من قصائد الحردلو سياسية في طابعها، وعادة ما تأتــــي متفجرة بمشاعر الغضب، فهو إذا خاطب الزعماء العرب مثلاً قبيل انعقاد قمة عربية ينسى أنه دبلوماسي، فيقول: «ماذا إذن تنتظرون؟/ فإسرائيل في مجلسكم هذا على مرمى حجر/ وإسرائيل من قمتكم هذي على مرمى قرار/ فقرروا وأعلنوا ونفذوا القرار!».
ويتصور الشاعر والدبلوماسي سيد أحمد الحردلو أن الشعر يصل إلى درجة عالية من النبل والمسئولية حينما يعبر عن قضية كبرى أو يلفت الأنظار إلى مهمة جسيمة، فالشاعر العربي مثلًا قد ينجح في إيجاد صيغة لرأي عام عربي مشترك أو كلمة عربية واحدة في لحظة تاريخية بعينها، وقد لا تنجح خطب الزعماء العرب مجتمعة في ذلك، فالكلمة الإبداعية قد تكون أبسط وأكثر تلقائية وحرية من الكلمة السياسية، وقد تكون أكثر ثورية وحدة بما لا يتسق مع طبيعة الحنكة السياسية التي تقوم على ضبط النفس ووزن العبارات ■