من هم حاملو الجبل

من هم حاملو الجبل

لا يمكن اختزال الأدب في كونه مجرد حكايات لطيفة نستمتع بقراءتها أو اختلاقًا لقصص خيالية، ولكنه أعمق من ذلك بكثير، هو تجارب ثرية حقيقية شاهدة على الزمان والمكان، معها نحيا في فترات مختلفة، حتى لو فصلتنا عنها فجوات زمنية. بفضل الأدب، ننفتح على فكر مختلف، وننظر للأمور بنظرة مغايرة. باختصار، الأدب دنيا أكثر رحابة مما نتصور، وخاصة عندما يكون قادمًا إلينا من بلد بعيد. 

 

 

تجولت في جبل تاي في الصين، رغم أنني لم أزره ولو مرة واحدة. ولكن كيف حدث ذلك؟. كان بفضل نص بديع وثري للكاتب والفنان الصيني الكبير والأديب المحبب إلى قلبي فنغ جي تساي. فهو لم يبرع فقط في جمال السرد، بل أيضًا في روعة وعبقرية الوصف. كتب فنغ جي تساي نصًا حول زيارته لجبل تاي، والذي يُعرف بـ«أبو الجبال الخمسة» الأشهر في الصين، كما أنه جبل تاريخي ومقدس يقع في مدينة تاي آن بمقاطعة شان دونغ، يبلغ ارتفاعه 1545 مترًا عن سطح البحر، وكذلك به 6000 درجة حجرية. يستفيض فنغ جي تساي في وصف المكان، فتشعر وكأنك لا تقرأ نصًا، بل تتجول معه، وترى رأي العين، هيبة الارتفاع المديد لجبل تاي، وأدخنة السحب التي تطوق قمته، وروعة مناظره الخلابة، والأشجار والنباتات المتناثرة على جانبيه، والينابيع الصافية المتدفقة، والأحجار الفريدة الأثرية الضخمة- والمنقوش عليها العديد من الرموز- والطريق الجبلي المؤدي إلى السفح، والذي يبدو وكأنه يشق الأفق، وستطأ قدماك أماكن مختلفة في الجبل: كبوابة السماء الجنوبية، والمعابد، والفنادق الموجودة على سفحه. ولكن في الحقيقة أن النص يتحدث بشكل أساسي حول أشخاص علمت بوجودهم للمرة الأولى، ويطلق عليهم «حمَّالو الجبل». 

 

الكاتب والأديب الصيني فنغ جي تساي

«حَمَّالو الجبل» هم أبطال جبل تاي، ورمز للمثابرة والجلد، يبدأون رحلة الصعود من أسفل الجبل إلى قمته، بخطى متأنية، ولكنها مفعمة بالعزيمة والصبر، حاملين على أكتافهم عصا الحمل (عصا تُستخدم في الصين، لحمل البضائع والمنتجات المختلفة، وأحيانًا يتدلى منها سلتان)، المربوط بها البضائع- ثقيلة الوزن- بحبل سميك، فتجعل المرء يقف مشدوهًا، تُنسج في خاطره تساؤلات شتى على رأسها: أي قوة خارقة يملكها هؤلاء؟ وأي مهارة فريدة يتمتعون بها، تجعلهم يعاندون مشقة الصعود، وتحدي المسافات الطويلة؟! 

فقد وصف فنغ جي تساي هيئة، وملابس، وشكل، وملامح هؤلاء الرجال، والأكثر من ذلك نقل لنا عزيمتهم وإصرارهم، وكأنك تراهم أمام عينيك. وذكر أن هذه المهنة من الأصل موجودة منذ الأزل، فكل مواد البناء التي استخدمت في بناء المعابد القديمة على قمة جبل تاي، حُملت على أكتاف «حَمَّالي الجبل». 

 

صورة لحَمَّال الجبل

ويطلعنا فنغ جي تساي على طريقة «حَمَّالي الجبل» الخاصة في تسلق الجبل، للمعادلة بين طول الطريق، وشدة ارتفاعه، والأثقال التي يحملونها؛ فهم عادة ما يضعون عصا الحمل على كتف ممسكين بها بيد، أما يدهم الأخرى فتتمايل في الهواء، متناغمة مع وقع خطواتهم، مما يحفظ لهم توازنهم. ثم بعد السير لوقت، ينقلون عصا الحمل على كتفهم الأخرى، ويواصلون طريقهم في هدوء. كما أنهم يمشون في خط مائل، لا مستقيم؛ وذلك لتوفير الجهد، وتخفيف الشعور بحدة ارتفاع درب الجبل، وكذلك لكي لا ترتطم الأشياء التي يحملونها في درجات السلم أو السور.

 وأكثر ما أدهش فنغ جي تساي، هو سرعتهم، رغم خطواتهم وحركتهم التي تثقلها الأوزان. ففي كل مرة يسبقهم، كان يفاجأ بهم- بعد وهلة - يسيرون أمامه، ماضين قدمًا. ويكشف لنا سر ذلك، والذي يكمن في مثابرتهم، وتفانيهم في عملهم دون الالتفات إلى أي شيء، ويقينهم بأن مواصلة السير بخطى صغيرة ستؤدي حتمًا إلى الوصول. 

تأثر فنغ جي تساي كثيرًا بمثابرة، ودأب، وطاقة «حَمَّالي الجبل»، حد أنهم أصبحوا مصدرًا لإلهامه، ليس فقط لكتابة نص: «حَمَّال الجبل»، بل للرسم أيضًا، فيقول إن بعد عودته من زيارته لجبل تاي، رسم لوحة لحَمَّال جبل قد التقى به هناك، وتجاذب معه أطراف الحديث، وعلقها على الجدار أمام مكتبه لسنوات، دون أن يغيرها؛ لأنه كما قال «طالما احتاجت إليها».

نص «حَمَّال الجبل»، يعرفه جيدًا العديد من الصينيين، إن لم يكن من خلال المناهج الدراسية الصينية، سيكون لأنه من أبرز النصوص النثرية التي كتبها فنغ جي تساي، بل إن العديد من زوار جبل تاي عرفوا سلفًا عن حَمَّالي الجبال من خلال كتاباته. في الحقيقة، تأثرت بهذا النص كثيرًا، حد أنه دفعني للبحث أكثر حول حَمَّالي الجبال، فشاهدت بعض الأفلام الوثائقية والبرامج الصينية التي تصور رحلة جنود جبل تاي. ومن هنا انطلقت مجددًا.

«هم يحملون جبل تاي على عاتقهم»، ألهمتني هذه الجملة بعنوان المقال، والتي كتُبت في بداية برنامج عُرض على قناة CCTV 12، تناول حياة «حَمَّالي الجبل»، وطبيعة عملهم الشاقة، ومدى إعجاب زائري جبل تاي بهم. قد تبدو - للوهلة الأولى - عبارة «هم من يحملون جبل تاي على عاتقهم»، أنها عبارة مجازية، ولكن بالتدقيق فيها، وجدت أنها تجسد باختصار أهمية هذه المهنة، ودور «حَمَّالي الجبل»، فهم ينقلون كل شيء إلى سفح جبل تاي، حاملينه على أكتافهم، بداية من الطعام، والشراب، والهدايا التذكارية والمشغولات اليدوية التي تباع في المتاجر، مرورًا بكل ما قد تحتاج إليه دور الضيافة والمطاعم، والسياح والعاملون، فكل شيء لو توفر على سفح جبل تاي، يكون بفضلهم. يبدأون عملهم عند اضمحلال عتمة الليل، وصبغ الشفق للأفق.

أكثر ما استوقفني، هو قدرة «حَمَّالو الجبل» البارعة على حمل أشياء أثقل وزنًا من المنتجات. فقد أنشئ أول خط للتلفريك في جبل تاي عام  1983، وهذا بفضل جهودهم، فثمة مُعدات ثقيلة الوزن ما كانت ستصل إلى هناك بدونهم. فقد سبق وحمل 150 رجلًا من «حَمَّالي الجبال»، على مدار أربعة أيام، آلة يصل وزنها إلى 4 طن تقريبًا. فهم رجال المهام الصعبة، وذلك ما يظهره فيلم وثائقي آخر، عندما حدث عطل في مضخة الماء، وبدونها كانت ستنقطع المياه عن المطاعم والفنادق الموجودة على سفح الجبل، لكن «حَمَّالو الجبل»، نقلوا مضخة جديدة، لمسافة 2 كم. هم أيقونة جبل تاي، وخطاهم محفورة على طرقاته، بل وفي كل مكان فيه.

أُصدق أن القدر يحمل لي بعض الأشياء، لا لكي أتوقف عندها، بل لأنطلق منها. ثمة مساحات شاسعة من الثقافة الصينية، أتطرق إليها من خلال الأدب الصيني، والتي بدونه لظل جزء منها غامض، ومبهم بالنسبة لي؛ لذلك أنا ممتنة جدًا للأدب الصيني، وللغة الصينية رغم صعوبتها. 

 أتطلع إلى أن تكون محطتي القادمة هي مقاطعة شان دونغ حيث جبل تاي، وأبطاله ■