قراءة في رؤية طه حسين النقديَّة 

قراءة في رؤية طه حسين النقديَّة 

يقول د. طه حسين  في مقدمة كتابه «الشعر الجاهلي»: «أحبُّ أن أفكِّر، وأحبُّ أن أبحث، وأحبُّ أن أعلن إلى الناس ما أنتهي إليه، بعد البحث والتفكير...».  هذا الحبُّ هو ما نشعر به لدى كتابة هذه المقالة، ونحن نقدِّر مكانة «عميد الأدب العربي»، ومعرفة أنَّه علم كبير من أعلام النهضة العربية والتنوير، ويمتلك مشروعًا في هذا الشأن. وما نريد بحثه هو جزئيَّة تتمثل في رؤيته النقدية إلى العالم، وخصوصًا نحو النَّصِّ الأدبي.

 

 

بدأ د. طه حسين نشاطه الثقافي في مرحلة النهضة، وهي مرحلة عرفت تيارات فكرية - سياسية... وهي: 1  - التيار الديني الإسلامي، بتوجهاته المتنوِّعة. 2 - التيار الليبرالي - كبار الملَّاك. 3 - التيار الوطني - الطبقة المتوسطة وعامَّة الشعب. 4 - التيار الاشتراكي. في الانتماء إلى أحد هذه التيارات برزت إحدى ثنائيات طه حسين، فهو، من نحو أوَّل، ينتمي إلى أسرة ريفية متواضعة، وإلى انتماء طبقي يمثله الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل، ومن نحو ثان ينتمي فكريَّا إلى التيار الليبرالي الذي يمثله حزب الأمة، ثم حزب الأحرار الدستوريين، بزعامة أحمد لطفي السيد، فقد ارتبط بالمدرسة الفكرية الليبرالية، وليس بالحزب السياسي. 

ينطوي هذا الانتماء على الفصل بين المعرفة/الرؤية إلى العالم والواقع المعيش وسياقه التاريخي. هذه الثنائية رافقت د. طه حسين طوال نشاطه الثقافي، ففي رسالة له لأندريه جيد، في 5 يوليو 1946، كتب أنَّ أوربا تقدمت بفضل إعادة صياغة تاريخها وحضارتها، اعتمادًا على الحضارات: الإغريقية والرومانية والعربية والدِّين المسيحي، وفعل العرب الأمر نفسه من قبل، فاعتمدوا على الحضارات الفارسية والإغريقية والهندية وغيرها...، ونحن الاَن، لماذا لا نمضي في الطريق نفسه؟ وهذه رؤية تعتمد القياس الذي يرى النتائج، ويغفل العوامل التاريخية التي أنتجتها. 

 

الرؤية النقدية الأدبية

غادر د. طه حسين الأزهر، والتحق بالجامعة المصرية سنة 1908، وحصل على شهادة الدكتوراه منها سنة 1914، ثم تلقى العلم في الجامعات الفرنسية. وعند المقارنة بين التجربتين قال، في مقدمة كتابه: «تجديد ذكرى أبي العلاء»: «أنا مدين بحياتي العقلية كلِّها لهذين الأستاذين العظيمين: سيد علي المرصفي الذي كنت أسمع دروسه وجه النهار...، وكارلو نالينو الذي كنت أسمع دروسه اَخر النهار...». وهذه إحدى ثنائيات طه حسين: علَّمه المرصفي قراءة النص العربي القديم وفهمه وتمثُّله وتذوُّقه، وعلَّمه نالينو كيف يستنبط الحقائق من ذلك النص، وكيف يصوغها علمًا يقرأه الناس، ويفهمونه.

وإذ غدا طه حسين موسوعي المعرفة، وبخاصة المعرفة النقدية الأوربية/الفرنسية الحديثة، راح يعتمد مناهج هذا النقد في مقالاته ودراساته، وهذه المناهج متباينة، وقد تكونت في سياق تاريخي أنتجته عوامل كثيرة: اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، فمن سانت بيف (1804-1869)، صاحب «طريقة الصورة الأدبية»، إلى هيوبلت تين (1828-1893) الذي كان يركز على عوامل ثلاثة في الدراسة الأدبية، وهي: العرق والبيئة والزمان، إلى الانطباعيين: أناتول فرانس (1924-1944) الذي رأى أن «الأدب الأفضل هو الأكثر إمتاعًا»، وجيل لومتر (1853-1914) الذي رأى أن الناقد الأدبي يكتب الانطباع/ الأثر الذي تركه في نفسه نصٌّ أدبي، كما هو في حال حدوثه، إلى غوستاف لانسون (1857-1934) الذي رأى أنَّ التأثرية تمكِّننا من الإحساس بقوَّة المؤلَّفات وجمالها، لكن ينبغي أن نعرف كيف نجعلها وسيلة مشروعة للمعرفة. 

تفيد قراءة كتب طه حسين النقدية أنَّه اعتمد هذه المناهج والطرق النقدية جميعها. ويبدو أنَّ نقده هذا لم يكن توفيقيًا وقد ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، الأمر الذي لم يكن تلفيقيًا، كما ذهب باحثون آخرون، وإنما كان تكامليًا، أي أنَّه كان يعتمد المنهج الذي يوصله إلى الهدف الذي يريد تحقيقه. 

ويجد الباحث، في نقده، ثابتين: أوَّلهما ما يمكن تسميته بـ«نظرية المرآة»؛ فالأدب، من منظوره، هو مرآة عصره وصاحبه، وثانيهما الذوق الأدبي المرهف، المتمثل في «القارئ الضمني/الأنا» الأعلى الأدبي، فهو يقول، على سبيل المثال، في «خصام ونقد»: «ليس يعنيني من الأدب إلا أن يُحدث في نفسي ما يُحدثه الأثر الفني من هذا الشعور الرفيع بالجمال». 

تكتمل «نظرية المرآة» عندما يرى أنَّ النقد هو مرآة أيضًا، تعكس صورة الأديب والمجتمع والناقد؛ ذلك أنَّ الأدب، موضوع النقد، يعكس صورة المجتمع والأديب، والنقد يعكس إحساس الناقد بجمال الأدب، أي بالأثر الذي يخلِّفه الأدب في ذات الناقد، بذلك يغدو النقد نوعًا من أنواع الأدب، إذ يعتمد على الإحساس واللفتة الجمالية التي يحدثها الأدب في ذاته. 

 

الرؤية النقدية في كتاب الشعر الجاهلي 

حكمت هذه الثنائية رؤية د. طه حسين النقدية في كتابه «الشعر الجاهلي». وإن كان الكلام قد كثر على هذا الكتاب، فإنَّنا سنكتفي بالتحدُّث عن هذه الرؤية النقدية فحسب، معتمدين نصَّ كتاب الشعر الجاهلي، كما ورد في مجلة القاهرة، العدد الخاص، رقم 159، فبراير 1996.

الكتاب، في الأصل، محاضرات ألقاها مؤلِّفه على طلَّابه في الجامعة المصرية، حين عُيِّن أستاذًا لتاريخ الأدب العربي فيها، وقد اعتمد فيه المنهج الفلسفي الذي استخدمه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء، والقاعدة الأساس لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كلِّ شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل خلوَّا تامًا. 

يقرِّر د. طه حسين، في كتابه هذا، «... أنَّ الكثرة المطلقة، ممَّا نسمِّيه شعرًا جاهليًا ليست من الجاهلية في شيء، وإنَّما هي منتحلَة، مختلَقة، بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثِّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر ممَّا تمثِّل حياة الجاهليين» (ص 393).

الأدلَّة التي يعتمد عليها، في تقريره هذا، تنطلق من نظريته «المرآتية»، فهو يقول:

 1ـ الشعر الجاهلي الذي وصلنا لا يمثل الحياة الدينية والاقتصادية والاجتماعية الجاهلية.

 2ـ هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنَّه قيل فيه (ص 398).

1ـ تبدو رؤية طه حسين «المرآتية» إلى الشعر الجاهلي الذي وصلنا أفقية، تفصل النص عن واقعه التاريخي؛ وذلك لأنَّ الواقع التاريخي يفيد بأنَّ الشعر الجاهلي الذي وصلنا هو مختارات من هذا الشعر، رُويت، ودُوِّنت من منظور إسلامي، فهذا الشعر استُخدم في تأديب أبناء المسلمين، أي في تربيتهم وتعليمهم، كما استُخدم في تأسيس علوم العربية، وبديهي أن يختار المسلمون النصوص الشعرية التي تمثل بديهيًا قيمهم، وليس قيم الجاهلية الوثنية، في تأديب أولادهم، ولهذا أُهملت نصوص كثيرة، وفُقدت، ولم تصل إلى المسلمين في عصورهم المتتابعة، وقد نجد في إهمال شعر أمية بن أبي الصلت ما يؤيد رأينا هذا، وطه حسين نفسه يقول في هذا الشأن: «وقف أمية بن أبي الصلت من النبي موقف الخصومة، فنُهي عن رواية شعره، وضاع هذا الشعر، كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هُجي فيه النبي وأصحابه» (ص 417). ويضيف: «وقد سلك المسلمون، في شعره، مسلكهم في غيره من الشعر الذي أُهمل حتى ضاع» (ص 418). 

تبدو رؤية د. طه حسين «النقد نصِّية» لغوية بلاغية ذوقية، كما هي قراءة المرصفي والناقد الانطباعي، فلم تتح له تبيُّن حقيقة أدبية، مفادها أنَّ القصيدة الجاهلية، وخصوصًا القصيدة/المعلَّقة تمثل القضية الجذر في الحياة الجاهلية، وتنطق برؤية إليها، وهي قضية مقاومة الفناء، والبقاء. 

يبدو واضحًا أن هذه القصيدة، بوصفها كلًّا كاملًا، لا ينفصل فيه الشكل عن المضمون، تمثل سعي الإنسان الجاهلي إلى البقاء واقفًا منتصرًا في ظروف حياتية تهدِّده بالفناء؛ إذ كانت جميع مكوِّنات القصيدة تنتظم في وحدة محورها الشاعر، وعلاقته بأشياء عالمه تتحدد من حيث جدواها له، وبقاؤه منتصرًا وواقفًا غير منحنٍ، فهذه الأشياء جميعها، وسائله لهذا البقاء.

وقد تمثلت هذه الرؤية في بنية تنطق بها، وتؤدِّي وظيفة مقاومة الفناء، فالتجويد الممتدُّ حولًا كان من أجل فرض حفظ الشعر ورايته على الرواة، والجرس العالي للمعجم اللفظي كان من أجل إسماع الخطاب، والوضوح كان من أجل سرعة فهم الخطاب، وكذلك كانت بساطة تركيب العبارة، أمَّا وحدة البيت واستقلاله بالمعنى، فكانت من أجل أن يبقى لهذا البيت وجود، ولو فُقدت القصيدة كلها ماعداه. 

2ـ في ما يتعلق بلغة الشعر الجاهلي، والقول إنَّها بعيدة عن أن تمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنَّه قيل فيه، ينبغي، أولاً، التمييز بين اللغة واللهجة، فاللهجة هي مستوى من مستويات اللغة، واللهجات تختلف، وتبقى اللغة واحدة، والسؤال ثانيًا، هل كان لدى العرب، قبل الإسلام، لغة واحدة تختلف لهجاتها، أو لغات مختلفة؟ يثير د. طه حسين هذا السؤال، فيقول: «فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية، وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أو بعده؟». ليس، في هذا السؤال تمييز بين اللغة واللهجة، لكن ما يفهم من الإجابة هو أنَّ المعنيَّ بما وحَّدته قريش هو لهجة اللغة الواحدة، وليس اللغة، لأنَّ اللغة كانت واحدة، وإن لم تكن واحدة، فإن توحيدها يقتضي مرور زمن طويل من العيش المشترك، وهذا ما حدث للعرب الذين كانوا يتوجهون في أواخر العصر الجاهلي إلى تشكيل أمة واحدة، وبهذا الوصف خاطبهم القرآن الكريم. 

جاء، في الإجابة عن السؤال الذي طرحه 

د. طه حسين: «إنها (اللغة) سادت قبيل الإسلام، حين عظم شأن قريش، وحين أخذت مكَّة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة...» (ص 402). والسؤال الذي يُطرح هنا هو: هل كان العرب يفهمون القرآن الكريم لو لم تكن لديهم لغة واحدة هي لغته، وتاليًا لغة الشعر الجاهلي؟ يقول د. طه حسين نفسه في هذا الشأن: «وليس من اليسير أن نفهم أنَّ العرب قد قاوموا القرآن، وناهضوه، وجادلوا النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلا أن يكونوا قد فهموه، ووقفوا على أسراره»، ويقرِّر: كان القرآن كتابًا عربيًا لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره، أي في العصر الجاهلي (ص 396). في هذا التقرير، كما يبدو، نقضٌ للقول إنَّ لغة الشعر الجاهلي بعيدة كلَّ البعد عن أن تمثل اللغة العربية في العصر الجاهلي.

 أمَّا في شأن اختلاف لغة أهل الجنوب عن أهل الشمال، فطه حسين نفسه يقول: فمما يُروى من أخبار قبائل يمن وربيعة أنَّها «كانت تعيش في نجد والعراق، أي في هذه البلاد التي تتصل بالفرس اتصالاً ظاهرًا، والتي كان يهاجر إليها العرب من عدنان وقحطان على السواء». وقد أحدث هذا العيش المشترك، كما أضاف، «في عصور مختلفة لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح نهضة عقلية وأدبية، لما كان من اختلاط هذين الجنسين العربيين في ما بينهما، ومن اتصالهم بالفرس» (ص 448). وإذ يقرأ الباحث هذا الكلام، يسأل: كيف يرى 

د. طه حسين ما رآه في لغة الشعر الجاهلي، وهو يتحدَّث هنا عن عيش مشترك أفضى إلى قيام نهضة عقلية وأدبية؟ كما يسأل: أيُّ لغة كانت لغة هذه النهضة؟ 

وإذ يقرِّر نحل الشعر، من دون أن يلتفت إلى تضمُّن سياق بحثه ما ينقض ما يذهب إليه، يقرِّر: «ما نقرأه أنَّه شعر امرئ القيس، أو طرفة، أو ابن كلثوم، أو عنترة، ليس، من هؤلاء، في شيء، وإنما هو انتحال الرواة، أو اختلاق الأعراب، أو صنعة النحاة، أو تكلُّف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين» (ص 394). 

السؤال الذي يُطرح، هنا، هو: هل كان هؤلاء الذين ينسب إليهم انتحال الشعر الجاهلي، شعراء كبارًا مبدعين، قادرين على تمثُّل تجربة الشعراء الجاهليين وتمثيلها شعرًا يعدُّ من أجمل الشعر العالمي، أو كانوا نظَّامين ليس في الشعر الذي يُروى لهم ما يرقى إلى مستوى أيِّ نصٍ شعري جاهلي؟ ثم لماذا يؤثر راوية، مثل حمَّاد، أو خَلَف، شاعرًا جاهليًا بإبداعه؟ ولمَ لمْ يُعرف أيٌّ منهما بأنَّه شاعرٌ مجيد؟

في الختام، كانت هذه محاولة في تبيُّن رؤية د. طه حسين النقدية، اتبعنا فيها طريقته في التفكير والبحث والحوار، ووصلنا إلى نتائج تمثل وجهة نظر نقدية نرجو أن تكون أصابت الحقيقة ■