الراوي ودوره في السرد الشفهي في ضوء مُنمنمات مقامات الحريري
الراوي لُغةً: ذكر الفيروز آبادي لفظ الراوي بقوله «القاصّ هو من يأتي بالقِصّة»؛ وفي التنزيل العزيز {فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا} (64 سورة الكهف)
أي رجعا من الطريق الذي سلكاهُ يقُصّان الأثر؛ وقوله تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3 سورة يوسف) نُبين لك أحسن البيان.
وعند ابن منظور في لسان العرب يُقال «رويتُ على أهلي ريّةً؛ قال والوعاء الذي يكون فيه الماء إنما هي المرادة؛ وسُميّتْ راوية لمكان البعير الذي يحملها، وقال بن السكيت يُقال رويت القوم أرويهم إذا استقيت لهم».
وفي المُعجم الوجيز الراوي تُقال لراوي الحديث أو الشعر أو القصّة الشعبية: حامله وناقله، والرواية: القِصّة الطويلة؛ والروّي: الشُرب التام؛ والراوية: من كثُرتْ روايته؛ والروّيةُ: النظر والتفكير في الأمور.
الراوي اصطلاحًا: ورد مُصطلح الراوي في المُصطلحات الأدبية «هو الذي يروي الأحداث التي شهدها أو سمِع عنها، وهو الذي يروي سيرّة حياته كما عاشها، وكما يراها في زمن الكتابة»، وهو من يروي الشعر، والأدب، والأحاديث النبوية. أيّ أنّ الراوي هو كُلّ من يقوم بسرد الأخبار على اختلاف أجناسها. والراوي هو المُتكلّم الذي يكون داخل القصّة أو الحكاية أو الرواية، ويقوم برواية الأحداث سواء حقيقية أو خيالية، وينقلها للمُتلّقي عن طريق السرد.
الدراما بين الشفهية والمكتوب في سينوغرافيا المقامات الأدبية
إن القول بأن المسرح العربي نشأ في القرن التاسع عشر كنتيجة للتأثير الأوربي يبدو محفوفًا بالمخاطر عندما ينظر المرء إلى أشكال ما قبل الحداثة التي لا حصر لها للفن الدرامي العربي في الداخل؛ عوالم كل من التقاليد الشعبية والآداب؛ وليس من قبيل المصادفة أن يستخدم العديد من المسرحيين العرب المعاصرين، ولا يزالون حتى يومنا هذا، موضوعات وتقنيات وذكاء من الماضي، يستمدون إلهامهم دون تمييز من الثقافة الشعبية وأدب النخبة. وقدّ أثبتت عملية استعادة الجذور الثقافية الأصلية بأنها مسألة ذات أهمية أساسية: أولًا، من أجل تأكيد الاستقلال العربي في مواجهة الحجج السائدة بشأن التأثير الأوربي؛ وذلك لإحياء بعض الأمثلة على التراث الثقافي السابق، وبالتالي منع اختفائهم التام وإظهار حيويتهم المستمرة وأهميتهم أيضًا في العصر الحديث؛ وأخيرًا، لتسليط الضوء على العناصر الدرامية أو الدراما الزائفة الواردة في الأعمال التي تنتمي إلى الأنواع الأدبية التي قد لا يكون لها صلة مباشرة بها. بلّ دراما حقيقية، لكن عناصرها الدرامية القوية افترضت مسبقًا تقليدًا مسرحيًا عربيًا من العصور القديمة.
المقامات وأصول الدراما
تحتلّ المقامة بلا شك مكانة مهمة بين تلك الأنواع الأدبية المعترف بها على نطاق واسع في العصر الكلاسيكي والتي استمرت في القرون اللاحقة، وعرضت بدرجات أكبر أو أقل، علامات درامية. عناصر، دون أن تكون رسميًا جزءًا من نوع أدبي مخصص للمسرح. نمت شعبية المقامة خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين/ العاشر والحادي عشر الميلاديين، لكن الفنانين والشعراء استمروا في تكريس اهتمامهم لها دون انقطاع حتى عصرنا تقريبًا. والحكاية بنفس القدر من الأهمية، وهي سابقة محتملة لظهور المقامة، والتي استلهمت من حيوية حوارات الأولى وهيكلها السردي، والتي تهدف في الغالب إلى إثارة الفضول والتوتر في الجمهور الذي كان مخصصًا له. ومع ذلك، فإن المقامات تنفصل تدريجيًا عن الحكاية بسبب القصد التعليمي الأساسي للأدب الذي تنتمي إليه المقامة؛ وذلك على خلاف الحكاية؛ والتي تتطلب استخدام الفصحى حتى في الأعمال الواقعية، وتتطلب اهتمامًا كبيرًا لإعطاء شكل مثالي من الناحية الأسلوبية. اكتسبت المقامة موقعًا مهيمنًا في العالم الأدبي في ذلك الوقت لاحقًا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى سماتها المميزة: عدم التسامح مع الارتجال، واشتراط استخدام اللغة الأدبية، والأسلوب التفصيلي والبلاغي في الصياغة. ولا شك في أن هذا العامل الأخير قد جذب إعجاب المجتمعات الفكرية والدينية التي تقدر جمال اللغة المثقفة. لكن هذا لم يمنع المقامة من أن تصبح في نهاية المطاف نوعًا من التلاوة الجماعية في تجمعات المثقفين.
والأصل الدلالي للفظ «الحكاية» يشير إلى فكرة التقليد، ويُشير بشكلٍ خاص إلى اللغة المكتوبة والشفهية، وهو أيضًا معناها الحالي. وكان المصطلح مستخدمًا بمعناه الأصلي في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، كما يتضح من كتاب البيان للجاحظ؛ والذي يتحدث عن مقلّدين قادرين على تقليد ليس فقط آداب الناس وإيماءاتهم، ولكن أيضًا الأصوات المختلفة وطرق الحديث للأجانب، وصيحات أكثر الحيوانات شيوعًا. من التقليد الخالص إلى الحكاية المبنية على تقليد الواقع. نصوص مختلفة حملت التسمية «الحكاية»، غير أنّ المواد الوثائقية المتعلقة بمثل هذه النصوص إلى حدٍّ ما تكون محدودة.
وتُعرف المقامات بأنها أكثر الكُتب المُصورّة في العالم العربي في العصور الوسطى في أوائل القرن 7هـ/ 13م. وهي تعرض أسلوبًا مُتقنًا ومحتواه الشعبي يمنح القارئ الفُرصة للاستمتاع بالأجواء التي ينقلها السرد والمُنمنمات، وتدور أحداث القصص حول البطل الساخر أبوزيد السروجي، والذي يتكسّب رزقه بالتسول أو الخداع، مُستخدمًا الذكاء والبلاغة لأغراضه (لوحة 1).
ووفقًا لِما ذكرته دوريس أبو سيف «إن النجاح الهائل الذي حققته المقامات يدل على التوجه الفنّي للمُجتمع العربي في العصور الوسطى».
ويرى حسن الشامي أنّ المقامات رُبّما تكون مسرحيات مكتوبة للأداء المسرحي، ويتم تأليفها كأدب درامي لأغراض تعليمية، وبذلك فإن المقامات تُشير إلى مشاهد المسرحية، وحقيقةً يتضح من خلال المنمنمات أنها تنقل إحساسًا بالسرد الشفهي، ويكون الجمهور هو القارئ نفسه، وذلك عن طريق الرسائل، وعبر النصّ المكتوب. وكان الشائع بين العلماء ومُؤرخي الفنون أنّ إعدادات تكوين المقامات من المفترض أنها مُستمدة من العروض المسرحية مثل مسرحيات الظلّ في تلك الفترة.
تقاليد السرد الشفهي
إنّ التقليد الشفهي في العالم العربي هو خيال جماعي وانعكاس للوعي. وقد كان للحكايات غرضان مزدوجان: من ناحية فهي تُوفر الترفيه والتسلية للجمهور، وهو الذي اعتاد منذ زمنٍ بعيد على الشفهية في السرد، لدرجة أنّه طورَّ ذوقًا خاصًا به، وتقديرًا كبيرًا للصور اللفظية. ومن جهةٍ أخرى فإن الحكايات تُعدّ انعكاسًا لمجموعة متنوعة من الاحتياجات الثقافية والاجتماعية والدينية، وهي التي تنشأ باستمرار من تفاعل الفرد مع محيطه، وكذلك من تأثير المجتمع على الفرد.
ومن الواضح أنّ تقاليد السرد الشفهي والأداء المحلّي كانت ذائعة الصيت والنشاط في مجتمعات غرب العالم الإسلامي وشمال إفريقيا؛ وكانت هذه التقاليد موجودة جنبًا إلى جنب مع أساليب الأداء الأكثر تقليدية، مثل الأغاني، والرقص، والطقوس، والاحتفالات. وكان الراوي الشفهي يُعبر عن هوية اجتماعية في سياق المنطقة؛ وترتبط وظائف الأداء بالراوي الشفهي، والتقليد الشفهي، ونجد مجموعة من العناصر الأساسية تُشكّل التقليد المؤسسي الشفهي، وهي: النص المروي شفهيًا، والراوي (العنصر البشري متمثلاً في الجسد، والصوت أو الإيماءة والكلمة)؛ ثم يتم نقل النصّ الشفهي من خلال الوسيط البشري في الحوار (لوحة 2).
أدوات الراوي
يستخدم الراوي الشفهي الصوت ليروي سلسلة من الأحداث؛ سواءً كانت واقعية أو أسطورية أو خيالية، وقد أُضيفت الجودة المسرحية للسرد عن طريق التقليد والمُحاكاة، وانتقال الشخصية من أجل تكوين الصورة اللفظية. ومن خلال هذه الصور والمسرحيات أنشأ الراوي الشفهي مكانًا أو مساحة خيالية أو مسرحية دُعِيَّ الجمهور للتفاعل فيها. وتظهر في الإيماءات والكلمات التي يُلقيها الراوي على مسامع المُشاهدين مُستخدمًا الرمزية الثقافية والمُستمدّة من مجموعة مُشتركة من المصادر مثل العادات الاجتماعية والممارسات السياسية أو الدينية. وينخرط كلٌ من الراوي الشفهي والجمهور في حوار كما لو أنهم جميعًا جزء من المسرحية. وقد لعب المُتفرّج في التقليد الشفهي العربي الإسلامي دورًا مُميزًا، حيث اعتاد الجمهور لعب دور تشاركي في تلقّي القصيدة أو السرد.
الراوي أبوزيد السروجي أمام حاكم مرو
في (لوحة 3) تُمثل المُنمنمة أبوزيد السروجي يُناشد كرم حاكم مرو من مخطوط مقامات الحريري؛ نُسخة ليننغراد، ويُعطينا تلميحات مُفيدة لتحريك a السرد الشفهي الخيالي. فنجد في المنمنمة حاكم مرو يجلس التربيعة على كرسي العرش، ويقف أمامه الحارث بن همّام، وهو يتحدث باهتمام بالغ يتجلّى ذلك من خلال حركات يديه الاثنين، وقد رفعهما في اتجاه الحاكم، في حين ذكر ريتشارد ايتينجهاوزن أنّ الحارث بن همّام الراوي يقف خلف الحاكم.
وقد جاءت الخلفية عبارة عن إطار معماري تظهر فيه قُبتان عن يمين ويسار في أوج السيماترية، وفي المُنتصف شكل الشُرافات Crestings بهيئة الورقة النباتية الثلاثية. والمشهد يُشبه تمامًا مسرح الظلّ مع التسطيح؛ وهذا المشهد ينقل إحساسًا بالسرد الشفهي، ويظهر ذلك في الحركات والإيماءات.
ونجد في التصويرة السابقة أبوزيد السروجي يجلس خلف الحاكم، في حين تصدرّ الحارث بن همّام مشهد الراوي، وأخذ يتفاعل بكلتا يديه، وهو يعرض أمرًا ما على الحاكم. ونجد الجمهور في الجزء السفلي في يمين التصويرة، وهو يُشارك في الحدث بإنصات شديد، وقد نجح الراوي في خلق مساحة مسرحية، ونجد الجمهور هنا جُزءا من التفاعل. وقد نجح الواسطي في نقل وتنفيذ السرد الشفهي على المنمنمة كتصوير بصري بالفعل.
ولأن الجمهور هو مُنتِج المعاملة التفاعلية، فمن المُهمّ خلق جو من الترفيه بشكلٍ صحيح، وذلك للحصول على الاهتمام اللازم، وتوفير الأداء التفاعلي والذي يُؤدي في النهاية إلى خلق الأداء المسرحي نفسه، ويعتمد ذلك على قُدرة الراوي، ومهاراته في الترفيه، وتلقّي الاهتمام، وهو ما يُحققه على الأرجح من خلال الإيماءات الجسدية.
وفي الحقيقة نجد أنّ الواسطي مُنفذّ تصاوير مقامات الحريري قد تمكن من ربط هذا الجهد الذي يبذله الراوي بمشاهد تُظهر إيماءات واضحة، ونوعًا من لُغة الجسد.
والسرد الشفوي تُكمله تضافر العناصر الاجتماعية (من خلال ديناميكيات الراوي، والجمهور، والأداء)؛ لذا فالنصّ المروي شفهيًا يُصبح مُرتبطًا بمفهوم الهوية الاجتماعية والتمثيل. ويتمتع النصّ المروي شفهيًا ضِمن التقاليد الشفهية بالقُدرة على العمل إمّا بالاستمرارية أو التوقف، ويكون قادرًا على التغيير والتعامل مع العناصر الغريبة أو الأجنبية التي يُواجهها المجتمع. وفي مواجهة العناصر الأجنبية، يُولّد السردّ الشفهي حلولًا بديلة تكشف عن آليات المواجهة عن طريق تقنيات الأداء الشخصي، مما يخلق حِوارًا نفسيًا وجسديًا مع الجمهور المُشارك. ويعمل كأداة للبقاء والتنظيم أو التكيّف مع القيم والأعراف والمُمارسات الاجتماعية، فهو يُحِدّد القِيم الإجتماعية والثقافية للمجتمع.
ومقامات الحريري مجموعة من القصص القصيرة ذات طابع خاص تحكي كل منها بعض مغامرات هذه الشخصية بأسلوب أدبي رائع. وتُصور المقامات أبا زيد السروجي شيخًا شُغِف بالأدب، وكان مُولعًا بدراسته؛ ولمّا ضاقت به السُبل، وحدث رُكود في سوق الأدب، خرج من بلده سروج في أعلى الفُرات مُتنكرًا يجوب الآفاق، وانطلق ينتقل من مدينة لأخرى سعيًا وراء رزقه، مُعتمدًا في ذلك على علمه باللغة والأدب، ومُستغلاً ما تحلّى به من خِصال ومواهب.
وأبو زيد في كل أحواله ومقاماته أديبٌ لا يُشقُ له غُبار، يعتمد في حِيله على براعته في اللغة، وتمكُنِه من الحديث والحوار، يستطيع أن يفحم منافسيه بحججه القوية، وأن يأسر مُستمعيه ببيانه الساحر، ومنطقه الخلاب، ونجده يزهو بنفسه في المقامة السابعة والأربعين:
بالله يا مُهجة قلبي قل لي
هل أبصرت عيناك قط مثلي
يفتح بالرقية كل قفل
ويستبي بالسحر كل عقل ■