عبدالعزيز البابطين رحلة المجاورة بين الشعر والفكر

عبدالعزيز البابطين رحلة المجاورة بين الشعر والفكر

منذ إحداثها في الثمانينيات من القرن الماضي، وضعت مؤسسة البابطين لنفسها هدفًا رئيسًا تمثل في جعل الثقافة لبنة داعمة لنشر قيم السلام والوئام في جميع أنحاء العالم. وقد اختار رئيسها، الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين، رفع هذا التحدي على أساس ثلاث مرتكزات تسمح بالانفتاح على الآخر والاعتراف باختلافه وهي: الشعر، وحوار الحضارات، وتعزيز مقومات التداخل والتفاعل الثقافي.  إن عودة العنف إلى العالم، الذي شجع الكثير على الانغلاق واعتماد مواقف وطنية متصلبة، لم يقلل من إيمانه بمشروعه ومصداقية مراميه. لذا بادر إلى ريادته بعزيمة لا تلين، انطلاقًا من قناعة راسخة تستند إلى الثقافة باعتبارها السبيل الناجع لضمان السلم عبر العالم. فبقدر ما جعلنا منها جسرًا للتواصل والتآلف بقدر ما استطعنا تعزيز المساهمة في بناء نظام حضاري عالمي متوازن.

 

وباعتباره صاحب رؤية ثاقبة، لم يكن يخفى عن عبدالعزيز سعود البابطين أن مشاكل عصرنا لا تتطلب استخدام القوة، بل نهجا «إتيقيا» شاملا يسري على كل الدول. كما أنه كان على وعي حاد بأن غياب فضاء جاذب للحوار، يتجاوب مع القضايا العالمية، سيدفع بالصراعات إلى توسيع فجوة الكراهية التي تؤدي إلى الصدام بين الشعوب والدول. إن تحقيق هذا الفضاء هو ما سعى إليه البابطين بدون هوادة. فأينما حل وارتحل، في أوربا وأمريكا وإفريقيا وآسيا، كان يحمل معه رسالة واحدة: التحسيس بأهمية السلام والعمل بمقوماته ومبادئه.

تكمن أصالة رؤية عبدالعزيز سعود البابطين في حرصه على ترسيخ مشروعه خارج جميع أشكال التحالفات والتجاذبات السياسية أو العقائدية، معتمدًا في ذلك على من يمثلون ضمير المجتمع الإنساني الحي من بين قادة المنظمات الدولية والمجتمع المدني والكتاب والشعراء والمفكرين ورؤساء الدول والدبلوماسيين المعروفين بالدفاع عن التقارب بين الشعوب. فمن أجل تحقيق هذا السعي تمكن من تطوير علاقات متينة كفيلة بخلق جسور الحوار الهادف بين من ينتمون لمختلف الثقافات والأديان والجهات الفاعلة، بغض النظر عن انتماءاتهم وحساسياتهم وتوجهاتهم.

ولكونه شاعرًا ومثقفًا يتميز بخاصية الإصغاء للآراء المختلفة، فقد استطاع أن يحسس في أكثر من موقع بأهمية القيام بقراءة نقدية للمعوقات والتناقضات الذاتية عوض التسرع في الحكم على الآخر أيًا كان. وذلك لأن التجربة قد أثبتت عبر التاريخ بأن هذه القراءة للذات وللآخر هي التي تساعد على الخروج من دائرة الصراع المبني على الحقائق المسبقة، والمضي باتجاه إعادة ابتكار المستقبل وفق المثل العليا التي تعود بالنفع على الجميع.

وتحقيقًا للغاية ذاتها، سعى عبدالعزيز سعود البابطين إلى إنشاء مجموعة من المراكز والهيئات والبنيات التي يتمثل دورها في تهيئة الظروف الموضوعية لصقل مواهب الشباب كي يساهموا في مشروع نشر مقومات الإبداع وثقافة الحوار والسلام. يكفي أن نذكر هنا بالدورات التكوينية وكراسي اللغات والثقافات التي أسسها بالتعاون مع عدة جامعات في كثير من البلدان في آسيا وأوربا وأمريكا الشمالية وإفريقيا، مما سمح لمئات الطلاب من:

أ- تحصيل معرفة مصادر فلسفة السلم.

ب - استيعاب مكونات فكر التناظر والجدل الرفيع.

ج - ربط الصلة بجذور تراث الإنسانية الناتج عن تعاقب الحضارات التي شيدت عبر التاريخ.

لقد كان الغرض النبيل من وراء تلك الدورات تمكين الجيل الصاعد من تملك الموروث الإنساني المشترك، والتشبع بثقافة السلام وحسن الجوار الرافضة لكل نزعة صدامية كالتي أراد سمويل هنتنغتون التنظير لها وتبريرها. فعلى عكس ذلك كان عبدالعزيز سعود البابطين يعتقد أن المراهنة على تكوين الشباب في حضن ثقافة السلام، هي في مضمونها ومراميها مراهنة قوية على ظهور عالم آخر جديد، يجسد الإيثار القادر على الارتقاء إلى التكامل المتكافئ من منظور المساواة.

 

التحدي الحقيقي

إن منجزات عبدالعزيز سعود البابطين في هذا الاتجاه، يجعل من الطلب على ثقافة السلام مجالاً أوسع بكثير مما يسمح به الحراك السياسي. ذلك لأن التحدي الحقيقي يكمن في مواجهة المخاطر التي تقوض مستقبل البشرية، ما يعني أن ثقافة السلام المنشودة لا تهدف فقط إلى تجنب الحروب والفوضى، التي يمكن أن تنتج عنها، بل التصدي بقوة إلى ثلاثة شواغل:

1 - كبح تجاوزات أيديولوجيات الهوية وتوجهات العولمة المتوحشة.

2 - تقوية روابط التضامن بين الشعوب والمجتمعات في عالم مهدد بالاغتراب القاتل، سببه الاكتساح الهائل لمنصات الذكاء الاصطناعي والصناعة الرقمية. داخل مختلف المجتمعات على اختلاف مستوى تنميتها. 

3 - تهيئة الظروف الفكرية الملائمة لإدارة أكثر عقلانية وحكمة للخلافات والأزمات والصراعات.

أليس بسبب غياب ثقافة فاعلة من أجل السلام العادل تبدو مجتمعاتنا اليوم أكثر تسرعًا في إثارة القطيعة والعنف، عوض التشبث بفضائل المصالحة، ونشر الأحقاد والضغائن بدلًا من جعل صوت الحكمة مسموعًا ومقبولًا؟ ولكون أن مجتمعاتنا تكرس القليل من الجهد لهذه الثقافة، فقد جعلها عبدالعزيز سعود البابطين همه الرئيس، والمعنى الأساس لالتزامه في حقل ممارسة الثقافة والإبداع. وبالنظر لهذا الاعتبار فإن ما حققه برأس ماله الخاص جدير بكل تقدير، لأن من ينتصر لثقافة السلام ينتصر لإرادة خدمة تطلعات الشعوب وطموحها في العيش الكريم. وبالتالي لا بد من تخليد اسمه في مدونة ذاكرتها.

ولعل من بين الأمثلة الدالة على دعم عبدالعزيز سعود البابطين لهذا التوجه، تشجيعه للأعمال الإبداعية الرفيعة بمختلف الجوائز التي تشرف عليها مؤسسته. أعمال تحظى فيها على العموم عناصر الشغف بالقيم الإنسانية، والافتتان بالجمال الروحي، والحفز على ما يجمع الذات بالآخر. فكلما كانت تزداد الظروف سوءا في العالم كلما استعجل البابطين الاحتفاء بالشعر، كنقيض لما يهدد الإنسان في حريته ووجوده وتوقه إلى الخلود في تناغم مع الحياة والكون.

ولابد من التأكيد على أن العمل الشعري كما الفكري للبابطين موسوم بنفس المعاني والبصمات. ففي جميع دواوينه ينفرد شعره بروحانية الصحراء التي هي موطن شجرة أنسابه، بقوة روح العطاء التي هي من صميم تعاليم النصوص المقدسة، بحسن الضيافة التي تميز القامات الإنسانية النبيلة، بخصال الحوار المرتبط بمنطق التسامي، بالحب والتسامح الحضاريين. أما فكره فإنه يتسم بإجماع النقاد والمختصين بنكران الذات، ويعكس تعطشه الكبير لثقافة محبة السلام العادل: أي السلام الذي لا يفرق بين الغني والفقير، ولا بين القوي والضعيف. إن هذا ما يمنح التزامه بمشروعه تميزًا فارقًا وثقة عالية خارج جغرافية الوطن العربي.

إن المصداقية الدولية التي حظي بها عبدالعزيز سعود البابطين لقت صدى واسعًا، تجلى لعدة مرات وبشكل رسمي وواضح عندما كانت تجتمع من حوله، بمناسبة المنتديات والندوات الدولية، نخب من مختلف آفاق العالم للاحتفال بقيم السلام في باريس، والكويت العاصمة، وبروكسل، وأوكسفورد، ودبي، وسراييفو، وفاس، ومراكش، ولاهاي، ولافيتا... فليس غريبًا أن كان يحظى بأرفع استقبال في مقر المجموعة الأوربية، وبأسمى تقدير من أعلى منصة الأمم المتحدة.

لقد أكّد السياق الدولي الراهن مرة أخرى، حيث تتعدد الأخطار المحدقة بالأمن العالمي، دقة رؤية عبدالعزيز سعود البابطين بخصوص الحاجة إلى بناء ثقافة الحوار من أجل تهيئة الظروف لسلام عادل طويل الأمد.

فمن أجل بناء هذه الثقافة كرس البابطين كل جهوده، لأنه كان يعتبر بأن قضية السلام لا يمكن أن تكون حكرًا على السياسة والسياسيين، وأن التحدي الحقيقي ليس هو محاولة إخماد النار في كل مرة ينشب فيها نزاع هنا أو هناك. من البديهي أن تلعب - طبعًا - جميع آليات القانون الدبلوماسي والدولي دورها في حل النزاعات، وإنقاذ البشرية من ويلات الدمار والمجازر التي هي في غنى عنها. غير أن لا شيء يساوي ثقافة تقوم بالدرجة الأولى على تملك قيم السلام، والتعالي على الحسابات الأيديولوجية الضيقة التي لا تمت لخدمة الإنسانية بأية صلة.

 

الاستثمار الثقافي

وبالتالي فإن الدرس الذي يجب استخلاصه من المنجز العالمي للبابطين، هو بسيط جدًا رغم أبعاده المعقدة، مفاده التالي: علينا أن نقتنع بأن أفضل ما في واقع الإنسان والمجتمعات لا يتم بناؤه إلا بواسطة الحوار الفكري والإبداعي. لذلك لا مناص من الاستثمار في الثقافة التي تجعل الآخر حليفًا محتملاً لعالم يتقاسم فيه الكل نفس المصير. فمع تصاعد النزاعات أصبح هذا الدرس الآن مطلبًا ملحًا، خاصة بالنسبة للشباب الذين هم في أمس الحاجة إلى المعرفة التي تمكنهم الاستفادة بشكل أفضل من إنجازات الماضي دون تكرار أخطاء آبائهم. فاليوم يبدو لي أن السؤال الملح أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأن مستقبلنا على المحك، هو كيف العمل على تمكين الشباب من ثقافة قد نسميها «بابطنية»؟ ثقافة تتعارض مع النهج الذي يقوم على قواعد إرادة السلطة والهيمنة، منتصرة لمبادئ التحاور والتعاضد والتشارك. فمهما بلغت درجة الاختلاف بين الشرق والغرب، لا أحد بإمكانه أن ينكر أهمية هذه الثقافة كسبيل كفيل لجعل الزمن الآتي أكثر ملاءمة للعيش المشترك.

هنا يكمن المعنى الكامل للمشروع الذي تبناه عبدالعزيز سعود البابطين، مند انطلاقه حتى اليوم، في حواره مع الغرب الأمريكي والأوربي كي تشع ثقافة السلام وتنتشر. مشروع قاده بلا كلل ولا ملل دفاعًا عن الإنسان والإنسانية، بعيدًا عن الضوضاء والضجيج من خلال الموقع الوحيد الذي أحبه كثيرًا: موقع الجوار الحميمي بين الفكر والشعر ■