اللبنة الأولى في صرح البابطين للشعراء العرب المعاصرين

اللبنة الأولى في صرح البابطين للشعراء العرب المعاصرين

عبدالعزيز سعود البابطين حالة استثنائية في تاريخ الحب للقصيدة العربية الرصينة، أعطاها من عاطفته وماله في الوقت الذي تخلى عنها الكثيرون.

جاء البابطين ليعتني بالقصيدة العربية وينفض عنها الغبار ليظهر بريقها الذي يعيدها إلى سالف عهدها وهي تزهو بمفاتن صباها.

 واختار مصر لتكون حصنه المنيع في الدفاع عنها، ومن القاهرة أعلن عن جائزته لتقدير المبدعين من الشعراء والنقاد العرب، وفيها تضاعفت قيمتها المالية وتوسعت مجالاتها بعد أن قرر وزير الثقافة المصري الأسبق الفنان فاروق حسني أن يضعها تحت رعايته، ويعبر عن فرحة كبرى العواصم العربية بأن يقصدها البابطين ناشدًا التواصل ورد الجميل حين قال: «سعدت بكم القاهرة وأعطيتموها قيمة فوق قيمتها، مثلما أعطت هي قيمة لهذه الجائزة».

 

 

والبابطين صاحب «بوح البوادي» - الذي عشق الشعر وتغنى به وساند الشعراء واحتفى بهم - حوّله الحب والشعر إلى قصيدة، والرجل الذي أصبح قصيدة أهدى نفسه للمعنى والقيمة، وقدَّم الشاعر الذي بداخله على كل الشخصيات الكريمة التي تعيش فيه، فاشتهر ذكره في كل المحافل مقترنًا بالشعر والشعراء، وراح كبار المبدعين يتمنون نيل جائزته بعد أن تأججت فيهم روح المنافسة، فتقدم لنيلها فرسان الكلمة بينما كان رنين الحدث في كل مكان... تنقله الألسنة... وتتلقاه الأذن... وتراه الأبصار بعد أن اتفق الجميع على تفرده وأهميته فتسابقت على تغطيته معظم وسائل الإعلام العربية... مسموعة ومقروءة ومرئية، ورحب به شيوخ الكلمة ورجالاتها ومبدعوها ومن يحرص على إعلائها، وفي مقدمتهم: يحيى حقي والطيب صالح، كما اجتمع فيه السفراء والعلماء وكبار الشخصيات من كل قطر عربي.

لا يمكن تكرار ظاهرة «أبو سعود» مرتين، ولو تكررت لنهضت ثقافة هذه الأمة.

من هنا كان كتابي الذي أصدرته في مراكش عام 2014 بعنوان «أسرار جائزة وذكريات البدايات» لتسجيل وقائع البدايات وإرهاصاتها، وبيان كيفية ولادة الجائزة ونمت حتى اعتلت القمة بين جوائزنا العربية، وصاحبها لا يألو جهدًا أو يدّخر مالًا حتى فاق واقع البابطين كل الأحلام، فامتدت إليه أيدي ملوك العالم العربي وزعمائه لتصافحه مهنئة ومباركة وألسنتهم تلهج بالعرفان، بينما ترمقه العيون بالغبطة، وتفتح له القلوب أبوابها ليحل ضيفًا على موائد الحب.

 

القيمة والمعنى

استنَّ البابطين سنة هي الأجدى والأبقى لرجال الأعمال في واقعنا العربي، ولسان حاله يقول لهم إن ما سيبقى إنما هو القيمة والمعنى، ومن سيخلده التاريخ هو من يمد يده لينهض بثقافة هذه الأمة.

ومِنْ هنا كانت الدعوة التي ينبغي أن يلتفت إليها أصحاب رؤوس الأموال ليعطوا مما أفاء الله عليهم بالخير للخير. 

وفي ظننا أن هذا الطرح الاستثنائي، الذي قدمه هذا الرجل، يحتاج من الإعلام مزيدًا من الضوء ليصبح هو القاعدة، فنرى رجال الأعمال وقد شحذوا هممهم، وتسابقوا في هذه المجالات، لأن ذلك هو ما سيبعث من جديد: شوقي وحافظ والعقاد والبارودي وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل والشابي ونازك الملائكة ومطران وجبران والسياب والبياتي وفدوى طوقان وغيرهم من الكبار.

من القاهرة اختار البابطين أن يوجه كلمته لتحملها حضارة سبعة آلاف عام لتنطلق منها في كافة المسارات تدعو الناس من كل الأقطار الشقيقة إلى التضامن والتآلف تحت لواء الشعر لتعيد للأذهان أهمية الشاعر في القبيلة، ودوره في الدعوة لها.

وأضحى البابطين رمزًا من رموز الحضارة، وروحًا طيبة تستقطب إليها هامات المبدعين تحت مظلة عربية وارفة تمجد الوحدة وتلغي كل الفوارق؛ فالناس سواسية في شرع الأدب.

هل كان يخطر ببالي أن هذه الجائزة التي أسهمتُ - قبل نحو خمسة وثلاثين عامًا - في وضع لبنتها الأولى ستحقق هذا الذيوع كله، وسيصبح لها هذا التأثير الواسع في الساحة الشعرية العربية والغربية أيضًا؟

في عام 1989م زارني شيخي المرحوم الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي، رئيس رابطة الأدب الحديث بمكتبي بدار أخبار اليوم، وقدَّم لي ورقة واحدة تضم شروط جائزة جديدة، وطلب مني أن أستقبل أمينها العام الذي سيحضر إلى القاهرة خلال أيام كي نسهم معًا في الإعداد لأولى دوراتها.

 ولم أجد غضاضة في أن ألتقي بالشاعر الكويتي الراحل عدنان الشايجي ليلقي لي مزيدًا من الضوء على هذه الجائزة الوليدة.

وعندما أدركت مصداقيتها طلبتُ موعدًا من صديقي الفنان فاروق حسني، وزير الثقافة في مصر، آنذاك، لأطلعه على الفكرة، واقترحت عليه أن يضعها تحت رعايته فلم يتردد قط في الموافقة، وعلى امتداد أسبوعين تفرغت تمامًا لوضع التصور الكامل الذي يمكن أن تخرج عليه احتفالية منح «جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري والأدبي»، بدءًا بتصميم واعتماد شعار الجائزة، وتصميم شهادة التقدير التي ستمنح للفائزين، وطبع بطاقات دعوة الضيوف، واختيار القاعة التي ستدشن فيها احتفالية منح جوائز دورتها الأولى، وإعداد قائمة بالضيوف الذين سيحضرون هذا العرس، وقد راعيت ألا يقتصر الضيوف على السفراء والرسميين ووجوه حياتنا الثقافية في العاصمة، بل يمتد إلى المبدعين من مختلف أقاليم مصر ليشاركونا الفرحة، وصولًا إلى بثّ أخبار هذا الحدث عبر وكالات الأنباء وصفحات الأدب بالجرائد والمجلات.

كانت مسؤولية النجاح تضاعف بداخلي مشاعر التوتر يومًا بعد يوم، لكن الإيمان بنبل الفكرة هو الذي بدد العقبات كلها التي كان يمكن أن تعرقل المسيرة.

 

أول لقاء

وفي فندق «ماريوت» المطل على نيل القاهرة، التقيت لأول مرة بابتسامة الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين، وحنو شقيقه عبدالكريم، بحضور الشاعر الدكتور علي الباز.

 كان البابطين وهو يحدثني يتوقف لينظر إلى نقطة ما جعلتني أفكر كثيرًا في ماهيتها، ربما الآن فقط أدركت أنه لم يكن ينظر إلى مكان بعينه، بل كان يتطلع إلى لحظة بعيدة تحرز فيها الجائزة هذه النجاحات كلها. 

وبعد أن استقبل الفنان فاروق حسني ضيفيه؛ عبدالعزيز وعبدالكريم البابطين والأمين العام للجائزة عدنان الشايجي، وكاتب هذه السطور، اقترح علينا ضرورة تطوير الفكرة وتحويل الاجتهاد الفردي إلى عمل مؤسسي، فكان تشكيل أول مجلس للأمناء ضم مجموعة من الأسماء الكبيرة الدكاترة: محمود علي مكي، محمد زكي العشماوي، يوسف خليف، محمد مصطفى هدارة، علي الباز، ومحمد عبدالمنعم خفاجي، فضلًا عن عبدالعزيز السريع الذي تولى مسؤولية الأمين العام خلفًا لعدنان الشايجي، وهو المجلس الذي ضمَّ فيما بعد: علي عقلة عرسان (سورية)، والدكتور إبراهيم عبدالله غلوم (البحرين)، وأبو القاسم محمد كِروِ (تونس).

وكان «معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين» هو أول مشروع تبحثه هذه الأمانة بالتوازي مع الإعداد لأول دورة تحتفي بواحد من شعراء العربية الكبار: محمود سامي البارودي التي عقدت بالقاهرة قبل أن توزع أمانة الجائزة دوراتها على باقي المدن العربية والغربية أيضًا: فاس والجزائر وبيروت وأبوظبي والمنامة والكويت وقرطبة وباريس، وكانت هذه هي أول جائزة عربية يضعها وزير الثقافة المصري تحت رعايته، إذ لمس مدى صدق البابطين في أن يجعل من مصر مقرًّا لها وساحة للقاء الشعراء والمثقفين العرب.

وتطورت حدود رعايته من مجرد حضور الحفل الأول لمنحها مساء يوم الخميس 17 مايو 1989 في قاعة عايدة بفندق ماريوت القاهرة إلى التفكير في مستقبل هذه الجائزة الوليدة لتصبح - في أقرب وقت - جائزة نوبل عربية.

هكذا قال الوزير للبابطين في لقائهما الثاني بحضوري عقب نجاح حفل التدشين، واتفقا معًا على استمرارية تستند عليها الجائزة الوليدة الطامحة إلى الإعلاء من قيمة فن العربية الأول، وتشجيع مبدعيه ونقاده للاستمرار على دربهم الصعب. 

وقد أكد الوزير للبابطين على أهمية توفر أسس علمية دقيقة تضمن الحيدة والموضوعية في الحكم على الأعمال المقدمة لنيل الجائزة حتى ولو أدَّى هذا إلى حجبها في فرع أو أكثر، بدلًا من منحها لمن لا يرقى إلى مستواها.

وأوضح الوزير أن رعايته لهذه الجائزة إنما تأتي من منطلق تقديره لمانحها الذي سجل شهادة في حق مصر عندما قال: «هذا المهرجان الأدبي بالقاهرة يعتبر تحية ود وإخاء من الكويت وأهل الكويت وفاءًا لكنانة العرب، وعرفانًا بالجميل لأدباء مصر ومثقفيها ومعلميها الذين قدموا للكويت ولغيرها من بلدان الخليج العربي - منذ أكثر من نصف قرن - الكثير ليسهموا في دفع عجلة التعليم تحت ظل ظروف معيشية كانت صعبة، بينما القاهرة عروس الشرق، والعيش بها رغدًا».

 

وفاء لكنانة العرب

وكان الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين قد استهل كلمته في الحفل الأول لمنح الجائزة بوصف مشاعره أثناء وقفته بين يدي جموع الأدباء العرب في اللحظة التاريخية مستشهدًا بقول الشاعر: 

لو قيل لي تملك الدنيا بأجمعها 

ولا تكون أديبًا يُحسن الأدبا

لقلت لا أبتغي هذا بذاك 

ولا أرى إلى غيره مستدعيًا إربا

لجلسة مع أديب في مذاكرة 

أنفي بها الهم أو استجلب الطربا

أبهى إليّ من الدنيا وزخرفها 

وملئها فضة أو ملئها ذهبا

كانت حلمًا يدغدغ مشاعري منذ صباي وقفتي هذه بينكم، فيشهد الله بأن لكم في نفسي، وملء جوانحي، ولمن سبقوكم من الأدباء الأفاضل، كل الإجلال والتقدير والاحترام والمحبة.

إذ كنت أمني النفس، فعلًا ومنذ صغري، وأنا أقرأ للزيات والعقاد والرصافي والمازني وفهد العسكر والبارودي والمنفلوطي والأخطل الصغير والشابي، وغيرهم من شعراء العروبة وأدبائها، كنت أمني النفس أن أقف بينهم أو بين من يرثونهم لأسهم بوضع لبنة على مرآي منهم ليرتفع صرح الأدب عاليًا في وقت انحسر فيه المد الأدبي، بكل أسف، إلى أدنى مستوياته.

ولعل هذا الانحسار هو الذي جعلني أقارن بين حاضرنا الذي يؤكد جهلنا التام بتراثنا العظيم وتجاهلنا المحزن له، وما كان يحدث منذ عهد قريب.

ففي بداية هذا القرن (يقصد القرن العشرين) كانت القاهرة تعج بمنتديات الأدب والثقافة؛ وتحدثنا مجلة «الهلال» بأن رقاع (بطاقة) الدعوة وزعت لحضور حفل إلقاء القصيدة العُمَرية للشاعر حافظ إبراهيم... قصيدة واحدة... فكان عدد الواقفين أكثر من عدد المدعوين والجالسين على المقاعد، كان هذا عام 1917 رغم انشغال الناس - آنذاك - بمعرفة نتائج الحرب العالمية الأولى.

ويواصل عبدالعزيز البابطين قائلًا:

وهذا هو ما جعلنا نفكر في هذا الإسهام المتواضع من خلال هذه الجائزة علَّنا نعيد بجهدنا بعض أمجاد الأدب العربي.

 

عن مشمول نفعها

أما الأديب السعودي عبدالله بن خميس، عضو مجمع الخالدين بالقاهرة، فقد اختار أن يستهل كلمته في الاحتفالية بهذه الأبيات بالغة الدلالة:

إذا جادت الدنيا عليك فجُد بها 

وبادر بها من قبل أن تتفلت  

فلا الجود يغنيها إذا هي أقبلت 

ولا البخل يبقيها إذا هي وَلَّت

هذا شاهــــد على ما يقــدمه السادة «آل البابطيـــن» وعلى رأسهــــم الأستــــاذ الفاضل عبدالعزيز سعود البابطين في مجالات متعددة في الوطنية والثقافة والأدب والبِر والإحسان، وهم أسرة - إلى جانب أنهم من بيت عَلم وفضلٍ ونبلٍ - لهم قدم في الباقيات الصالحات.

وتحدث كل من المؤدِّب الأستاذ عثمان الصالح، والدكتور فاروق العمر، الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت (وقتها) والمفكر الكويتي عبدالرزاق البصير، والشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، والدكتور عبدالهادي التازي، عضو الأكاديمية الملكية المغربية وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضو لجنة تحكيم الجائزة في أولى دوراتها.

أما صوت المرأة العربية في هذا الحفل الثقافي فقد عبرت عنه الأديبة السعودية بدرية عبدالعزيز السعيد التي أكدت أن هذه الجائزة التي خصصها الشيخ عبدالعزيز البابطين بمنزلة «قدوة حسنة» ومثال من الأمثلة الحية للمعولين والأثرياء في الأمة العربية كي يعطوا في هذا المجال من أنفسهم ومن أموالهم ما يفتح الأبواب لتشجيع الفكر والأدب والثقافة.

أما الشاعر السكندري الدكتور على الباز، الذي يعيش في الكويت منذ سنوات، فقد أنشد على الحضور قصيدة بعنوان «عاشق كابدة» وهي تلقي الضوء على علاقة البابطين بالعراق، وقد أشار فيها إلى شقيقه عبدالكريم وما يتسم به من خلق نبيل، وكذا حيا الشاعر عدنان الشايجي، أول أمين لهذه الجائزة، وقد حرص الباز على أن يستدعي في قصيدته روح شعراء مصر الكبار: شوقي، وحافظ، والعقاد، وناجي.

 

أولى المفاجآت

كانت قيمة الجائزة عند الإعلان عنها لأول مرة 43 ألف جنيه مصري، وأثناء الحفل فاجأ مانحها الحضور بمضاعفة قيمتها المالية لتصبح 86 ألف جنيه.

وقد منحت في دورتها الأولى على النحو التالي:

أولًا: جائزة الإبداع في الشعر، مناصفة بين: الشاعر الكويتي محمد الفايز عن مجموعته الشعرية الكاملة، والشاعر المصري إبراهيم عيسى عن ديوانه «حبيبي عنيد»... وحصل كل منهم على 15 ألف جنيه.

ثانيًا: جائزة الإبداع في النقد الأدبي: وفاز بها مناصفة أيضًا كل من: الدكتور محمد زكي العشماوي عن كتابه «قضايا النقد الأدبي»  والناقد الراحل مصطفى عبداللطيف السحرتي عن كتاب «الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث» وقيمة الجائزة 15 ألف جنيه لكل فائز.

ثالثًا: جائزة التفوق في الشعر: فاز بها مناصفة: الشاعر العراقي محمد جواد الغبّان عن ديوانه «أنت أحلى»، وقد تسلمها عنه الأديب العراقي عبدالستار ناصر، والشاعر المصري خليل فواز عن ديوانه «قلبي أنا» وحصل كل منهما على 10 آلاف جنيه أيضًا.

رابعًا: جائزة التفوق لأفضل قصيدة، مناصفة، بين: الشاعرة علية الجعار، من مصر، عن قصيدتها «لا تقلق»، والشاعر المغربي محمد الحلوي عن قصيدة «في رحاب سبتة»، وقد نال كل منهما 3 آلاف جنيه ■