البابطين... نموذج العمل الثقافي المستقلّ أضواء على مكتب مؤسسة البابطين الثقافية بالقاهرة
في أوائل عام 2000م، كنت أترددُ على مكتب مؤسسة البابطين الثقافية في شارع جامعة الدول العربية بالقاهرة، للتزود ببعض المطبوعات. كنتُ كشاعر قد بدأت النشر في الدوريات العربية منذ خمسة عشر عامًا، وأصدرت حتى ذلك الوقت ثلاثة دواوين. تقدمتُ للمكتب بسيرتي الذاتية والأدبية لتحديث عضويتي في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين؛ والذي صدرت طبعته الأولى عام 1995. عُرض عليّ الترشح لإدارة مكتب المؤسسة بالقاهرة، ووصلت الموافقة من إدارة المؤسسة. حصلتُ على إجازة دون أجر من عملي الهندسي بإحدى شركات الأدوية، وبدأت العمل بالفعل في المكتب أول مايو من العام نفسه.
فجأة وجدتُ نفسي مسؤولاً عن جمع مادة الطبعة الثانية من معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين التي تخصّ مصر، ومسؤولاً عن إدارة العمل في تحرير المعجم؛ والذي كان يقوم بتحريره اسمان كبيران هما: د. أحمد مختار عمر - رحمه الله - لتحرير السير الذاتية للشعراء، ود. محمد فتوح أحمد لتحرير المادة الشعرية لكل شاعر. كنت أحضر اجتماعاتهما وأستمع بشغف شديد لآرائهما وأسانيدهما العلمية في مسارات العمل. كما كان يحضر إلينا الشاعر الكبير الراحل فاروق شوشة، عضو مجلس أمناء المؤسسة، حين يستدعي الأمر استشارته حول عقد أية فعالية للمؤسسة.
إنسان ودود
في تلك الفترة تعلمتُ الكثير حول معنى العمل المؤسسي، والذي كان يتم في كل تفصيلة صغيرة أو كبيرة بدقة واحترافية. وبدأتْ واستمرتْ مشاركتي في تلك المنظومة. وفي العام نفسه دُعيت للمشاركة في الدورة السابعة للمؤسسة بالجزائر: دورة أبي فراس الحمداني والأمير عبدالقادر الجزائري. كانت تجربة فريدة بالنسبة لي؛ فبالإضافة إلى مشاركتي الأولى خارج مصر، كان اطلاعي على أسلوب العمل وإدارة الفعاليات الكبيرة بدءًا من التخطيط واختيار المشاركين وتوفير المطبوعات المهمة والخريطة الزمنية والمكانية لكل أمسية وندوة، وحتى ترتيب المداخلات في اللقاءات النقدية ومساحتها الزمنية ومساحة التعقيب عليها، والتسجيل الدقيق لكل ما يدور، لأنه سيتوفر مطبوعًا بعد ذلك. كان أيضًا لقائي الأول بالأستاذ عبدالعزيز سعود البابطين الذي رأيته إنسانًا ودودًا بشوشًا واسع الصدر دقيق الملاحظة إلى درجة ربما مخيفة، وأيضا خفيف الظل؛ يرحمه الله.
وهنا يجب ألا أنسى الدور الكبير الذي كان يقوم به المبدع القاص والمسرحي الكبير: عبدالعزيز السريع، المدير العام لمكتب المؤسسة بالكويت، والذي كان يتابع خطوات العمل على كل الأصعدة، ومطمئنًا أقول إن لهذا الرجل يدًا بيضاء لا تُنكر في مسيرة نجاح المؤسسة وتحققها في الواقع الثقافي العربي. ومن المؤكد أن صداقته للبابطين وإيمانه بأهدافه لخدمة اللغة العربية وحفظ الذاكرة الثقافية والإبداعية وراء تفانيه في عمله، فضلا عن ذكاء اختياره لذلك الموقع.
تغيير الصورة
كنتُ حريصًا أشدّ الحرص على أن يكون حضورُ الشعراء المصريين في الطبعة الثانية من المعجم يعكس الصورة الحقيقية للحراك الشعري في مصر. خضتُ حواراتٍ طويلة مع الأستاذين الكبيرين اللذين يحرران المادة. وقد نجحتُ إلى حد ما في دفع شعراء متحققين - كانوا يعزفون عن المشاركة في المعجم - للتقدم والتواجد بعد ذلك. فالصورة العامة لدى بعض الشعراء هي أن المؤسسة ذات توجّه مُحافظ، ومن الصعب أن يكون للأشكال الشعرية الحديثة - قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر - مكانٌ بين صفحات المعجم. عملتُ بكل جدّ على تغيير تلك الصورة، وأشهد بأن ما دار بيني وبين الأستاذ البابطين من حوارات - في مناسبات مختلفة - كان يدل على رغبة الرجل في حضور الشعراء الحقيقيين ومشاركتهم في المعجم وفي التنافس على الجوائز وفي تمثيلهم بالفعاليات، على الرغم من تحفظه النسبي فيما يخص قصيدة النثر؛ ذلك التحفظ الذي لم يمنع مَن تحقّقَ من شعرائها وأصبح له مشروعُه المشهود به من الانضمام للمعجم؛ حتى لو تأخر ذلك قليلاً (صدرت الطبعة الثالثة عام 2014).
دفعني العمل بعد ذلك إلى اتجاهات مختلفة؛ إذ نظمتُ - بتكليف من الأستاذ البابطين - مشاركة الشعراء والنقاد المصريين في فعالية كبيرة بالرياض لافتتاح مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة؛ ذلك المركز الذي تضمُّ مكتبته آلافًا من المخطوطات العربية والوثائق النادرة.
اضطررتُ لترك العمل كمدير لمكتب القاهرة في نهاية ديسمبر 2003م وعدت لعملي الهندسي. لكنني نجحتُ في الحصول على إجازة جديدة والعودة لإدارة المكتب من أبريل 2007م وحتـى منتصف عام 2011م. كنتُ قبلها قد تلقيت أجمل هدية من مؤسسة البابطين الثقافية؛ وهي اختياري كمحرر مساعد في معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فتركّز عملي في تلك الفترة البينية على هذا المعجم. عملتُ مع د. محمد فتوح أحمد في تحرير المادة الشعرية، بينما كان
د. محمد حسن عبدالله يقود فريقًا من الباحثين لتحرير سيَر الشعراء. وغلبتني الحماسة فأضفتُ نفسي كباحث عندما اقترحت عددًا من الأسماء وجمعتُ مادتها بالإضافة لعملي التحريري.
أهمية المعجم
يجب أن أذكر هنا الأهمية الشديدة لهذا المعجم، الذي يضمّ كل من كتب شعرًا عربيًّا في أي دولة في العالم خلال مائتي عام (وهو مخصص للشعراء الراحلين). لم تكن الصعوبة كبيرة فيما يخصّ نسبةً قليلةً من الشعراء الذين أصدروا دواوين بها سير مختصرة ولها متابعات نقدية وصحفية. كانت الصعوبة الحقيقية في أسماء الشعراء الذين نشروا قصائد متفرقة في الصحف والدوريات ولا توجد تقريبا أية معلومات عنهم، وكذا الشعراء الذين تركوا مخطوطات فحسب لدى أسرهم؛ الأبناء والأحفاد وربما أبناء الأحفاد. كانت مهمة فِرَق الباحثين في مختلف الدول والتي شكّلتها إدارة المؤسسة هي تقديم كل ما يمكن من معلومات موثقة عن هؤلاء الشعراء المجهولين.
أيةُ فكرة هذه؟ وأية خدمة للحياة الثقافية وللذاكرة الأدبية والشعرية أن تضمَّ مطبوعة بين دفتيها كلَّ من كتب شعرًا عربيًّا في أي مكان على الأرض؟ والأهم: مَنْ يستطيع أن يدير هذا العمل وينفق عليه بسخاء وأناة حتى يخرج إلى النور؟ لا شك أن الأستاذ البابطين كان يتمتع بهذه الصفات ومعها الحُلم وروح المغامرة.
وهكذا تعيّن عليّ أن أشارك في هذا العمل الضخم، وأن أشارك في تحرير ما يقارب الـ60 في المئة من المادة الشعرية لهذه المجلدات الخمسة والعشرين التي صدرت في طبعة قشيبة عام 2008. أمدّني العملُ التحريري في هذا المعجم - مع أستاذ كبير - بخبرات كثيرة، وأطلعني على مادة شعرية كثيفة لم أكن لأصل إليها وأطالعها وأدقّقها في غير ذلك الموقع.
رأيت بعيني خريطة التأثيرات الثقافية المتنوعة، وهي تنتقل من مكان لآخر، وطبيعة الروح الثقافية التراثية وطرائق نفاذها، وصراعها مع روح المعاصرة، وكذا اختلاف المذاقات الشعرية من قطر لآخر، والمزاج الديني والصوفي والفلسفي والحداثي وهو يمتد ويتجذر أو ينحسر ويذوي، كل هذه المظاهر تتعانق وتنطق بين سطور الشعراء.
ومن أجمل تجاربي مع مؤسسة البابطين الثقافية؛ مشاركتي في الدورة العاشرة: دورة شوقي ولامارتين، والتي عُقدتْ في مقر مؤسسة اليونيسكو في باريس عام 2006م، وأيضًا دورة تدشين وإصدار معجم شعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين في الكويت عام 2008م.
لم يتوقف تعاوني مع المؤسسة بتركي لإدارة مكتبها في القاهرة منتصف عام 2011، إذ عملتُ مستشارًا فنيًّا للمكتب حتى عام 2017، وخلال تلك الفترة أشرفتُ على إصدار الطبعة الثالثة من معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، وقد نجحت - بشكل أكبر هذه المرة - في ضم عدد كبير من الشعراء المعاصرين يكتبون أشكالاً شعرية مختلفة بينها قصيدة النثر، وأيضًا من كتبوا الفصحى من شعراء العامية المصرية.
بصمة كبيرة
إن عبد العزيز سعود البابطين كشاعر ومثقف وإنسان قد ترك بصمة كبيرة في حياتنا الثقافية، وفي نموذج العمل الثقافي المستقلّ والاستثمار فيه، وترك صرحًا نتمنى أن يستمر عطاؤه، وأن تتنوّع الأفكار وتتجدّد فيه لتتسق مع التغير الثقافي المتلاحق ■