المصريون يتخذونه نموذجًا لنقد الحياة الاجتماعية والسياسية جحا ونوادره حقيقة أم خيال؟
امتلأت كتب التراث العربي بالعديد من نوادر «جحا» ونكاته التي تعبر عن عِبَر أو حكم نُسجت داخل قوالب إبداع شعبي جعلته في مرتبة الحكيم أو فيلسوف البسطاء... حتى أضحت هذه النوادر أو حتى النكات تؤلف من وحي اللحظة، إذ يكفي المتحدث أن يحكي نادرة ذات طابع مرح، إلا ونراه ينسبها إلى «جحا»، مهما كان الدور الذي يلعبه جحا في هذه النوادر... وأكثر من ذلك فقد يكون أمام المتحدث موقف فيه شذوذ أو عوج في السلوك أو القول إلا وتراه يقول، «مثل جحا» و«على رأي جحا» و«مرة جحا» و«قال جحا»، وعندئذ يتلقف المستمع الاسم بابتسامة عريضة ويتهيأ للضحك... حتى غدا «جحا» بالفعل في وجدانهم مشجبًا أو رمزًا لكل عجيب أو طريف أو نادر أو شاذ من القول والسلوك.
لقد أضحت شخصية «جحا» علمًا لعدد لا يحصى من الحكايات والمفارقات التي تبرز معاني الغفلة أو الحكمة أو العبرة من الأمور الشائعة بين الناس، وبعبارة أخرى تعبير عن الكبت السياسي... مثلها مثل شخصيات أخرى معروفة ومشهورة في الحكايات الشعبية لدى الشعوب نالت شهرة واسعة على تعاقب الزمن حتى صار كل منها عنوانًا على عدد ضخم من الحكايات التي تحمل طابع هذه الشخصية «النمطية» ويبرز المعنى الذي يتمثل فيها، ففي المجتمعات العربية ظهرت شخصية «قراقوش» لدى الوجدان الشعبي علمًا لعدد كبير من الحكايات التي تعبر عن الكبت السياسي في المجتمع الذي يعيش تحت وطأة حكم جائر غاشم لا يستند إلى عقل أو عدل... وكذلك شخصية «النواسي» الشاعر الإباحي الماجن التي أضحت في المجتمع الشعبي علمًا على مئات من الحكايات والنوادر المكشوفة، والتي يغلب عليها طابع الاندفاع نحو المجون والخلاعة والسكر والجنس والعبث كنزعة من نزعات التمرد على الواقع والهرب منه والاستعلاء عليه والسخرية منه، وكلما امتد بها الزمن على هذا النحو كلما زادت شهرتها بزيادة المرويات عنها أو على لسانها من الحكايات والمفارقات.
وبشكل عام إذا ما وضعنا في الاعتبار أن النوادر أو الحكايات الشعبية المرحة تنزع إلى التجمع حول شخصية أو نموذج معبر عن معنى من المعاني الشائعة في المجتمع - وتكون الشخصية في هذه الحالة لها نصيب من الواقع التاريخي في الأغلب، وتشتهر عادة بين الناس بصفة من الصفات - فلا غرو أن يستغل الناس هذه الشهرة ويجعلون من الشخصية التي تتمثل فيها نمطًا أو رمزًا محوريًا ينسبون أو ينسجون حوله ما شاءوا من الحكايات والمفارقات التي تعبر عن روح المجتمع وحقيقة رغباته وميوله المكبوتة.
حقيقة أم وهم؟
فمَن هو «جحا» وما هي حكايته... هل هي قصة وهمية خرافية أم حقيقية؟... وفي أي زمن كان؟ كتب الأدب والتراجم، والمعاجم، تبين أن «جحا» شخصيّة تاريخيّة حقيقيّة، وهناك اختلافات في نسبه إلى عرق بعينه، فمنهم من يقول بأنه عربي يدعى «أبو الغصن العربي الفزاري»، ومنهم من يدعي بأنه تركي اسمه «نصر الدّين خوجه»... وقد ورد عن الجاحظ أن اسم «جحا» هو نوح وكنيته أبو الغصن وأن عمره قد تجاوز 100 عام، وفي كتاب أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي ورد أن جحا هو «مكي بن إبراهيم»، وورد في كتاب القطب الشعرانيّ وعنوانه المطهر للقلب والفؤاد أن «عبدالله جحا» هو من التابعين الذين غلبت عليهم صفاء السريرة، ويجب على من يسمع منه الحكايات المضحكة والفكاهات ألّا يسخر منه وإنما يطلب من الله أن ينفعه ببركاته.
إلا أن دراسة حديثة - للدكتور محمد رجب النجار صدرت من أعوام قبل رحيله - تؤكد أن جحا شخصية حقيقية ذات واقع تاريخي وأن نسبه ينتهي به إلى قبيلة فزارة العربية، إذ ولد - على حسب قوله - في العقد السادس من القرن الأول للهجرة، وقضى الشطر الأكبر من حياته في الكوفة، وما يشتهر به من نوادر وحكايات هو صاحبها... وعلى الرغم من اضطراب أخباره أحيانًا في أغلب المصادر إلا أنه تجمع في النهاية على وجوده «التاريخي» بسمته وملامحه المعروفة بيننا... مستشهدًا بما رواه ابن النديم صاحب الفهرست الذي انتهى من تأليفه سنة 377هـ عن كتاب قائم بذاته اسمه «كتاب نوادر جحا» وضعه في أول قائمة كتب النوادر ضمن «أسماء قوم من المغفلين، ألف في نوادرهم الكتب، ولا يعلم مؤلفها»... وهو ما يعني أن نوادر جحا باتت في القرن الرابع الهجري من الشهرة والذيوع، بحيث وجدت من يحفل بجمعها وتدوينها وتصنيفها وتسويقها.
ولكن لم تقتصر شخصية «جحا» على العرب فقط، فقد حوت بعض كتب التراث التركي على شخصية مماثلة تحت اسم «جحا»، قالت المصادر إنه يدعى «نصر الدين خوجه أو خوجه نصر الدين الرومي»، وهو البطل الأشهر لقصص الذكاء والغباء عن الأتراك بغير منازع، وإليه تعود نوادرهم وحكاياتهم المرحة... إلا أن «جحا التركي» هذا أيضًا لم يسلم من الخلط والاضطراب الذي لمسناه لجحا العربي، فالرأي الأول يراه رجلًا متعلمًا عاش في زمن هارون الرشيد متفقًا بذلك مع الرواية التي تؤرخ لجحا العرب، وهو رأي متأثر بالرمز العربي تاريخيًا... بينما الرأي الثاني يراه معاصرًا للسلطان علاء الدين في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الميلاديين.
إلا أن الخلط بين الشخصيتين «العربي والتركي» - وفقًا للمؤرخ الفرنسي رينيه باسيه - فقد نشأ من خلال أن كتاب نوادر جحا الأولى قد تُرجم إلى التركية في القرن التاسع الهجري أو العاشر الهجري، وأن هذه النسخة التركية التي اقتبست وتوسعت قد تُرجمت بدورها إلى اللغة العربية في القرن الحادي عشر الهجري.
تقول دائرة المعارف الفرنسية (Universalis): «إن خوجه نصر الدين اشتهر في جميع أنحاء تركيا وإيران وأفغانستان، وهو معروف باسم مُلا نصر الدين... وقد نُشرت نوادره أول مرة باللغة التركية في نهاية القرن الخامس عشر، وهي مستوحاة من قصص جحا العربية».
ويصف عباس محمود العقاد في كتابه «جحا الضاحك المضحك» جحا التركي فيقول: «خوجه نصر الدين المشهور بكراماته وكرامات ضريحه في مقبرة (آق شهر) بعد وفاته بزمن طويل، يذكر الناس أضاحيكه منها ومنهم يحيلونها إلى حالات أهل الجذب بين عالم الأسرار وعالم العيان، أو يحيلونها إلى حب التقية والاحتيال في الموعظة الحسنة بالأسلوب الذي يؤدي إلى مرماه، ويعفيه من عقباه».
جحا المصري
ورغم أن شخصية جحا تاريخيًا لم تكن لها علاقة بمصر من حيث النشأة... إلا أن النموذج الجحوي لم يلق من الذيوع والانتشار في العالم العربي مثلما لقي في البيئة المصرية على الرغم من أنه شخصية غير مصرية ليس لها واقع تاريخي على غرار «جحا الفزاري العربي» أو «جحا خوجه التركي»... وهنا يرجع الدكتور رجب النجار هذه العلاقة إلى المزاج المصري الذي تلقف شخصية «جحا» في إطار السخرية والتندر والفكاهة لتعكس من خلاله - إلى جانب أنماط الإبداع الأدبي - جانبًا رئيسيًا من جوانب المقاومة والتعبير عند هذه الشخصية... كما أن للشعب المصري ولعًا كبيرًا باتخاذ النماذج الإنسانية والرموز الفنية والشخوص المعبرة - باعتبارها جميعًا أقنعة أدبية شأنه شأن كثير من الشعوب - فينطقها بما يريد متخفيا وراءها ليعلن من خلالها - كلما عزت حرية القول والتعبير - آراءه في نقد الحياة والأيام، ولاسيما نقد الهيئتين الاجتماعية والسياسية.
ومن الأمور الثابتة قطعًا في حقيقة نوادر جحا أنها لا يمكن أن تصدرَ عن شخصٍ واحد فقط؛ بسبب أن بعضها يتحدث عن أشخاصٍ في صدر الإسلام، ومنها يتحدث عن أشخاص من العصر العباسي وخصوصًا في عهد الخليفة المنصور، كما أن مجموعة من النوادر تتحدث عن عصر تيمورلنك وما تلاه من العصور الأخرى، ومن الأسباب الأخرى التي تستدعي التفكر في النوادر ومصدرها هو اختلاف الشخصيات التي صدرت عنها، فمثلًا هناك بعض المواقف التي يظهرُ جحا فيها مغفلاً، ويظهر بمواقف أُخرى ذكيًا فطنًا، ويكون في بعضٍ منها ساخرًا يكشف عن الغفلة والبلاهة... ومن المؤكد أنه لا يمكن صدور جميع النوادر والحكايات المنسوبة إلى جحا من شخص واحد فقط؛ حتّى إن كانت متناسقة في زمانها ومكانها أو دلت على مزاج واحد وعقل واحد، حيث اتسعت نوادر جحا في المراجع المتأخرة لتشمل الكثير من المواقف التي نُسبت لأشخاص آخرين من قبل، كما جمعت الصفات التي تتسم بها النوادر العربيّة، مثل الحماقة الزائدة، والغفلة، والسرقة الماكرة، والطمع، والفضول، والبخل الشديد، والخداع، وغيرها من السمات المميّزة للنوادر العربيّة... ومهما تكن حقيقة جحا فهو يظهر في كلّ مكان وزمان على أنه صاحب الأضاحيك والنكتة، ومُبدّد الأحزان، وراسم البسمة على شفاه النّاس، وهو صاحب الحكمة وصانع الأمل.
أمثلة ونوادر جحوية
لقد ذابت شخصية «جحا» في الذاكرة الشعبية حتى أصبحت مضربًا للأمثال، تُستحضر كأداة للتعبير في لغة الحياة اليومية المعاصرة، لوصف حالة نفسية مستوحاة من نوادر تحمل دلالة فلسفية، تناقلتها الأجيال عبر قرون في مخزونها اللغوي المتوارث، نذكر بعضها في لغة الحياة المصرية على سبيل المثال:
- «جحا أولى بلحم ثوره»... للدلالة على أحقية شخص في شيء ما بعد اجتهاد.
- «زي مسمار جحا»... للدلالة على الشخص المتطفل دون وجه حق.
- «قالوا ودنك (أذنك) منين يا جحا»... للدلالة على المراوغة والمماطلة في شيء.
- «عد غنمك يا جحا، قال واحدة قايمة وواحدة نايمة»... للدلالة على وضوح عدم توافر شيء بكثرة.
ورُويت عن جحا العديد من النوادر والحكايات، منها على سبيل المثال:
● في يوم من الأيام كان جحا يملك عشرة حمير، فركب على واحد ثم عد الباقي فإذا هي تسعة، فنزل من الحمار العاشر فإذا هي عشرة، فقال: أمشي وأكسب حمارًا بدلًا من أن أركب وأخسر حمارًا!
● سأل الوالي جحا يومًا وكان الوالي متسلطًا وجائرًا: في العهد العباسي كانوا يلقبون رؤساءهم بألقاب كثيرة، مثل الموفق بالله، والمتوكل بالله، والمعتصم بالله، فلو كنت أنا واحدًا منهم فبماذا كانوا سيلقبونني؟ فأجاب جحا على الفور: (العياذ بالله) يا سيدي.
النوادر هي حكايات شعبية مرحة، فهي ضرب من الحكايات الممتعة في القصر ويدور غاليا حول الحياة اليومية... وإذا كانت الشخصيات البارزة في هذه الحكايات تتسم ببطء الاستجابة الشرطية لوقع الحياة وتتخذ هيئة الحيوان وسلوكه جينًا فهي إنسانية الشخوص والأحداث في معظم الأحيان، وتغلب على هذه الحكايات المفارقات التي يستحدثها الغباء أو البلادة أو الخدعة، وقد يكون موضوعها ماجنًا، وهي خالية من التعقيد ولها محور (حدث أو موتيف) رئيسي واحد، وقلما تتجه إلى الخارق، وهي تنزع إلى التجمع حول شخصية واحدة أو مجموعة محددة من الناس، وتعرف في الحياة العربية بالنوادر مثل نوادر الظرفاء، السكارى، البخلاء، المغفلين... إلخ، كما تعرف النوادر أيضًا في الحياة الشعبية - وبخاصة إذا كانت موغلة في القصر، وثمرة مواقف معينة أو ظروف معينة - بالنكتة.
وأمثال هذه الحكايات سريعة الانتشار والحفظ لما فيها مفارقة تثير الانتباه والضحك معًا، ومن هذا النوع من النوادر نوادر جحا وحكاياته ونكاته، وهي معروفة بين عامة الناس بهذه الأسماء جميعًا، وكذلك نوادر أبي نواس ونظائرها، وتضاف صفة «المضحكة» إلى هذه المسميات جميعًا... وكثير من عامة الناس لا يفرقون بين جحا وأبي نواس عند سرد هذه النوادر والحكايات والنكات... بل إن بعض الرواة كانوا يحكون النادرة الواحدة مرة منسوبة إلى جحا، ومرة أخرى منسوبة إلى أبي نواس.
جحا هو شخصية خيالية من التراث الشعبي العربي وفي كثير من الثقافات القديمة، ونسبت إلى شخصيات عديدة عاشت في عصور ومجتمعات مختلفة. نسخة مصغرة لنصر الدين جحا من القرن الـ 17 وهي حاليًا في متحف قصر الباب العالي. وفي الأدب العربي، نسب جحا إلى أبو الغصن دُجين الفزاري الذي عاصر الدولة الأموية ■