القياس على التراث
انطلاقًا من فهومات العلاقة مع التاريخ، فإنّ الأفق الحضاري لأي تراث إنساني يحلّ على منزلة من المنزلتين: مادي ونعني به العمران بأشكاله المختلفة، وفكري وهو مجاميع ما تواتر إلينا من المعارف والآداب بأجناسها المختلفة، تتفاوتان في حساسية التفاعل معهما بين باحث مهتمٍّ وآخر، لكنهما تتحدان في حِجاجية المقول بأنّ التاريخ والتراث كيانان لا ينفصلان.
لنا في مثل هذا التصور أن نسوق أدناه ما يتعالقُ الحيّز الفكري، لا المادي، للموروث، بما هو مدونات ومواقف وآراء ومقولات ونظرات وحكايا وقصص وأساطير أيضًا، وجدت لها مكانًا، مع التراكم الزمني، في سيرورة الحضارة العربية حتى اليوم، إنما مع استشكال ما يبدو أنه لا يصلح لاتّخاذه، كُلِّه، ركائز فكرية/ معرفية/علمية يمكن توظيفها بما يرفد نهضة أمتنا اليوم فكرًا وممارسة؛ فكما تواتر إلينا الجيد من التراث، وصلنا الرديء أيضًا، بل ربما الفاسد والمُفسد، مما يقتضي إعادة القياس عليه بشكل صحيح، لا قراءته فحسب، حيث لا ننكر أن كلمة قياس تقترب من رصيد فكري عربي معاصر، كبير وغني جدًا، توزعته مفاهيم ومناهج ومصطلحات عديدة أعادت تأويل التراث، كما فعل الطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري أو نصر حامد أبو زيد وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، إلى آخرين ممن ائتلفوا ضمنًا على جوهر الخوض في إشكاليات هذه المسألة، وإن اختلفوا في ظاهر الأسلوب واللغة، مع التذكير بأن جلّ ما غاصوا على كوامنه هو التراث الديني من تفاسير القرآن الكريم والسنة النبوية. نقول إننا لا نبتعد من أهداف كل هذه التصورات، إنما بطروحات ميسرة مباشرة وواقعية، تشخص التراث لتأخذ منه ما نعي به حاضرنا كحاجة ملحّة، بعيدًا من المواجهة الدينية، بعدما تبين وللأسف أن المعارك الشجاعة التي خاضها المفكرون أعلاه لفتح طريق التنوير صبغت بمعاداة الدين فجاءت مواجهة عقيمة لم تتصل بنهاياتها السعيدة لأسباب كثيرة لا علاقة لهم بها، أهمها تقاعس الأجيال اللاحقة عن تلقف رؤاهم والمضي بتطبيقها، وكأنها صرخة في واد، بل وتوقف اشتغال الفكر التنويري في قضايا التراث بشكل كبير اليوم، وهذا أمر مؤسف حدَّ الغضب الذي يطرح السؤال الكبير: أين نحن اليوم من كل تلك القراءات المعاصرة للتراث، وما مصيرها؟ إذن، من الأفضل لنا ألا نتعارض والدين الوسطي الحنيف إذا ما أردنا الوصول حقًا إلى نتائج ملموسة، نتعامل مع التراث بمنهجية علمية، تنهض على مستويين: الأول هو الآليات التي نتبعها في سبيل ذلك، أما الثاني فهو النوعية أو ماهية الموضوعات التي يجب أن نتقصاها فيه للإفادة، مع إيماننا بأن ربط التراث بواقعنا من منظور علمي هو أولوية مطلقة.
سوء القياس
في ضوء ما تقدم، لنا نمذجة هذه المطالعة ببعض التطبيق، حيث يتبيّن بوضوحٍ واتّساق أن أخطر ما في المورث تبنّيه العبثي أولاً، ثم بعد ذلك سوء القياس عليه ونحن ندرسه، كما حصل مع كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي وإن دخل في جدل تداولي باعتباره تراثًا عربيًا/ إسلاميًا بين مؤيّدٍ ومُعارض، إلا أنّ تراكم احتفاء الكتّاب والباحثين به لقرون مديدة، شكّل أرضيةً تاريخيةً شرعنتْ تبنيه في غياب أية مواجهة مقابِلة نخبوية، مطلقة وعريضة، دينية أو اجتماعية إلا في حدود النصح بالابتعاد من المفسدة، وما تبع ذلك من ضبابية الفصل بين ما ينفع أو يخالف عقيدة المسلمين فيه، ما أتاح طغيان التفاعل الطبقي على مستويَي النخبة والعامة معًا في تفسير وضعية هذا الكتاب بوصفه منجزًا لا يتعارض والدين، جرى في الأمة مجرى المورث الثقافي الذي استنسخ قيمًا وأفكارًا عربية/إسلامية هي في صلب التصور الإسلامي الشرعي والصحيح لعلاقة الرجل بالمرأة، ما يؤكد سوء نية الناسخ في ظل انتفاء أية حاجة وحُجّة لعلة النسخ.
بنفس زاوية الرؤية، ولأننا أهملنا حقيقة أن التراث لمن يحرص على صونه وتعهده، فلم يكن غريبًا أنّ محققي وعلماء الأمم الأخرى (مستشرقون، أكاديميون زائرون في الجامعات، رحّالة... إلخ) سارعوا إلى الحلول محلّنا متصرفين خائضين فيه، ليعيدوا استغلاله وتفسيره وتزيينه للأمة وفاق نظراتهم ونواياهم الثقافية الخاصة التي أنتجت حزمة آراء ومفاهيم منتشرة جدًا ليست واقعية بالضرورة ولا تمتّ حقًّا إلى تراثنا كما يجب أن تكون الصلة به؛ فأعجب العجاب أن يتحول كتاب «ألف ليلة وليلة» إلى أحد روافد استقراء التراث العربي/ الإسلامي، ومُحدِّدًا فكريًا معياريًا لتألقه، لا سيما أن جلّ ما جاء فيه تعالق الخليفة هارون الرشيد ومجالسه وحاشيته بالسوء من سيرته التي تضج زورًا بالنساء والغلمان وليالي العشق والعشاق وملذات الدنيا، وهو الذي كان يحج عامًا ويغزو عامًا ويصلي مئة ركعة في اليوم والليلة، محبًا للعلوم مجلًا للمعارف، وغير ذلك كثير من صفاته العظيمة التي أغفلها هذا الكتاب، في حين لم تغادرها كتب أئمة التراث العربي/الإسلامي عندنا وأجمعوا عليها، كالصفدي والذهبي وابن الفرات والسيوطي وابن كثير وابن العماد وابن الجوزي والقرماني وغيرهم كثير.
أما أعجب العجاب فهو بالنظر في حكايا هذا الكتاب التي هي في أصل نشوئها قصة خيانة نساء لأزواجهن، فأخو الملك تخونه زوجته، والملك نفسه ضبط زوجته متلبّسة مع أحد عبيده، ما ولّد فيه عقدة نقص تجاه النساء كافة، وما تداعى عن ذلك من قراره بقتل عذراء في كل ليلة! ما يجب التركيز عليه هو إنسانية شهرزاد وتضحيتها وحنكتها في حكايات لياليها المعروفة ليتوقف الملك عمّا هو فيه من قتل وإعدام بحق النساء!
سردية مخادعة
أما المفارقة التاريخية في أدب العصر الحديث، فهي أن بعض الأدباء والمثقفين العرب تورطوا في هذه السردية المخادعة التي نشرها المستشرقون، فلم يكونوا أكثر إنصافًا لتراثنا بل ربما لم يعلموا أنهم قسوا عليه حقًا؛ فانظر إلى توفيق الحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ والطيب صالح وغيرهم وهم يتورطون في إحياء هذا المصنف إعجابًا وتقريظًا وتوليفه مجددًا في أعمالهم الروائية التي لا ننكر جمالياتها الفنية كنصوص على الرغم من المعطى الخرافي في وقائعها، ثم الدفع به إلى صدارة المشهد الثقافي للأمة متغافلين عن تمركزه الخفي والمخيف في لاوعي أجيالها بالتعاقب والتراكم.
ولا مناص من القول إن الدورات التاريخية للتراث الفكري هي في الواقع تجارب ورؤى وآراء تتوافر على دروس وعبر جوهرية قد تتكرّر هي نفسها من عصر لآخر، إلا أنها تختلف في فائدتها بالنسبة إلينا، لأن المستفيد منها الذي هو الإنسان متغير حكمًا وليس هو نفسه في كل عصر، مثال ذلك الأحاديث والحكم المأثورة التي تدعو إلى صلاح الفرد والمجتمع؛ فعندما نقول «إنما الأعمال بالنيات» فهذا يعني أن سيرورة التراث تراكميًا عبر الزمن أثبتت أن النية، حسنة كانت أو سيئة، هي أساس العمل، أو نقول «اطلب العلم ولو في الصين»، فلأن طلب العلم هدف مُلحّ لا حدود له جهدًا ومثابرة عبر تاريخ الأمم، أما إذا قلنا «العدل أساس الملك» فمعناه أن الحاكم ينجح ويستمر بعدله، لكنّ كل ذلك ليس حصرًا بالمسلمين في زمن ما فحسب، فالعدل - مثلاً - قد يقوم تامًّا في الدولة المسلمة وغير المُسلمة، ولهذا قيل اجتهادًا «إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة». فالعِبرة في كيفية تفاعلنا مع هذا المورث والإفادة منه على أرض الواقع توًّا في المكان والزمان، نموذجًا تنويريًا عربيًا متجددًا يمكن القياس عليه لدعوة الآخرين إلى تبنيه والاحتفاء به كبديل حضاري ولو لم يكونوا مسلمين.
خسران مبين
في نفس السياق، من المفيد حقًا تقصي تحولات استنباط الأحكام الفقهية والمجادلات في آيات القرآن وأحاديث السنّة النبوية بين المسلمين أنفسهم اليوم، وهي صحيّة إذا ما اقتصرت على اختلاف وجهات النظر بوصفها رحمة للمؤمن في حل أزمات خلقية/ اجتماعية/ اقتصادية تتعالق حياته أمس واليوم، أما أنْ تتخذ نهجًا شعبويًا يُفسد الودّ ويقطع الحوار الهادئ بالتي هي أحسن، ويوقع أبناء الأمة في مشادات واتهامات الفتنة والتفرقة بين أبناء الأمة فهذا هو الخسران المبين. ولذلك فنحن نقيس إيجابًا على ما وصلنا من الموروث الديني في مواقف مَن سبقنا من أهل الهمّة والدين الحنيف منذ حياة الأولين السابقين كأمثولة نافعة؛ فبعد واقعة أُحُد التي قُتِل فيها حمزة عم الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - وهُزم فيها المسلمون مع ما اقترفه الكفار من تمثيل وتقتيل بأجسادهم، ثار المسلمون غضبًا وحُميّا متوعدين كفار قريش بالثأر والمعاملة بالمثل، ولكنهم عادوا وهدأوا بعدما أنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (سورة النحل - الآية: 125)، ثم ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ (سورة النحل - الآية: 127)، وهي آيات لا تدعو إلى الصبر والتعالي على الجراح في الشدائد فحسب، بل تمضي في إبانة أنه لا يليق بالمؤمنين أن يتصرفوا كتصرف كفار قريش الهمجي، ما يحيلنا بالتساؤل والاستغراب إلى ما عاناه أشهَر أئمتنا بعد ذلك خلال فترات دولة الخلافة ثم الممالك اللاحقة من مِحَن السجن والتعذيب وحتى الصَّلْب بتهمة الكفر والردة أو الزندقة في مسائل لم تكن ذات أهمية أصلًا في ثبات العقيدة من عدمها، كالإمام ابن حنبل وابن تيمية أو ابن عقيل الحنبلي وابن نصر الخزاعي وغيرهم ممن لا تزال الأمة تتبعهم بإحسان في مسائل الشريعة والفقه، في جحودٍ فج للقياس الإيجابي على مواقف ومآثر المسلمين الأوائل، حيث لنا أن نسأل هنا سؤال العارف المُنكِر: إذا كان أمرُ الله مع قريش ممن قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثّلوا بأصحابه في أُحُد هو الدعوة إلى الموعظة والصبر والجدال الحسن ودفع الحزن والضيق، فكيف لا يكون هو نفسه أمرُ ولاة أمور المسلمين مع أئمتهم المُعتبَرِين؟!
ولنا على هامش هذا التوجه أن نقيس بشكل علمي على ما تواتر إلينا من خطرات ونظرات العلامة الشهير ابن خلدون في بحث ظواهر الاجتماع والعمران، نعني مصنفه الشهير «ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومَن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر» أو ما عُرف بمقدمة ابن خلدون التي لا يكاد يُذكر العرب فيها إلا مع صفات «الوحشية والتوحش والانتهاب والعبث»؛ فهم يعيشون «بطبيعة التوحش الذي فيهم» وهم «أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار خلُقا وجبلّة»، كما أنهم «لخلق التوحش الذي فيهم أصعبُ الأمم انقيادًا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعدِ الهمّة والمنافسة في الرئاسة» وهم «أكثر بداوة من سائر الأمم». (انظر الفصول من الرابع والعشرين إلى الثامن والعشرين من الباب الثاني من مقدمته) فلم يترك مثلبة إلا وألصقها بهم ولو فسّر البعض قصده أهل البادية منهم. ابن خلدون تحدث عن تقاليد ومعارف شعوب لم يرها في حياته، بعيدة منه آلاف الكيلومترات، فيما لا شاهد فيه ولا دليل، كبلاد خراسان وخوارزم وقاشان وجرجان وطوس وخليج القسطنطينية ومقدونية وأرمينية وغيرها، وابن خلدون طبعًا يفهم في كل شيء حتى الحياكة والخياطة، وعمل القابلة في التوليد، والطب والفلاحة والسحر والكيمياء واللائحة تطول، مع العلم أنه لم يصدر في كل ما جاء به عن مدرسة أو نظرية تاريخية استلهمها في كتابة مقدمته، أو فسّرها بها، وهو ما يضفي سببًا آخر للتعامل مع أجزاء كبيرة منها كمجموعة ملاحظات وآراء لا تستند إلى قواعد علمية واضحة تؤكد ما ساقه بالشواهد والأدلة، عطفًا على سيرته الذاتية مستوزرًا دائمًا في خدمة السلطان ومجاملته، وأحد المتآمرين غير مرة على قلب نظام الحكم بالقوة أو بالخدعة والدسائس هنا وهناك، وهذا بالمناسبة متفقٌ عليه بين كامل مؤرخي ودارسي التراث العربي دون استثناء، وإن لجأ بعضهم إلى التخفيف من مسألة التآمر وتقديم تبريرات غير مقنعة لسلوكياته تلك، تضعه في خانة الضعيف والمجني عليه أو الموشيّ به وأنه ليس وحيد زمانه فيما أتاه من أخطاء في عصر سوء وفساد أخلاقي ومؤامرات والقوي يأكل الضعيف، وغيرها من الأعذار التي هي أقبح من الذنوب.
تحديات حضارية
إن ما أوردناه أعلاه من نماذج الأدب والدين والاجتماع لهو قضايا من صلب الموروث العربي/ الإسلامي الذي يحتاج إلى أن نحسن القياس عليه بميزان الصائغ الدقيق، إما سلبًا بالابتعاد عن الفاسد منه، وإما إيجابًا باستلهام الجيد منه لما فيه خير عصرنا، مع الإشارة إلى أننا لا نتمتع بترف الوقت ونحن نقف بوجه التحديات الحضارية للنهوض بواقع الإنسان العربي ■