عصارة السعادة في فيلم Perfect Days
أي سعادة تغمرك حين يكون آخر ما تغلق عليه عينيك كلمات في صفحات كتاب ممتع؛ تجلب الكلمات لك النعاس الجميل، تتغلغل كلمات الكتاب داخل خلاياك فتصيبك بالارتخاء الرائق، ثم حين تستيقظ تفتح عينيك على آخر الكلمات التي قرأتها فتبعث في روحك النشاط الحر، أي سعادة أن تبدأ يومك بالنظر للزهور وتروي عطشها بماء شفَّاف فتزهر أمامك في التَّو وتبتسم لك شاكرة صنيعكَ الجميل معها، أي سعادة تجدها حين تفتح عينيك وأنت تخرج من باب بيتك فتنظر للسماء الصافية، تبتسم لها فتبتسم لك وترسل نورها الحنون على وجهك، أي سعادة أن يكون أول ما يدخل أذنك في الصباح البكر أغنية لصوت رقيق مميز؛ فتتفتح مسامك وتشعر أنك تمتلك العالم، لحظات سعادة مجانية تمنحها لنا الحياة دون مقابل حتى لو كنت تعمل منظِّف مراحيض، ستشعر بقلب السعادة ومكنونها الصافي حين تشاهد فيلم Perfect Days (الأيام المثالية) أخرجه: ويم فيندرز، بطولة: كوجي ياكاشو.
طلَّة الفيلم رهيفة حد الشعرة، فنحن نستمع لصوت مكنسة يدوية مصنوعة من سعف النخيل لرجل ينظف المدينة النائمة في سكينة الهدوء، تنتقل الكاميرا مع صوت المكنسة فنرى الصوت يدخل أذن هيراياما النائم في عمق وبراءة، وما إن يشعر بالصوت داخل أذنه حتى يستيقظ وحده في هذا العالم الغارق في النوم، والنافذة تشي بظلام يكاد يَنْفَك، وصبح يقاوم للخروج من الظلمة.
يستيقظ هيراياما وكأن أعصابه خيوط حرير تهتز حين يلمسها صوت المكنسة، يطوي هيراياما فراشة من فوق الأرض ويضع جانباً فتصبح مساحة الغرفة الضيقة وسيعة، وكأنه يرسل رسالته البسيطة بأن كل ما تحتاج إليه في هذا العالم هو فراش تستلقي عليه ثم تطويه.
يمارس هيراياما حياته باعتيادية وتكرارية قد نظنها حياة مملة، لكن هذه التفاصيل البسيطة تمنحه سعادة رائقة بدت على ملامح وجهه، عبَّر عنها الممثل كوجي ياكاشو، والذي قام بدور هيراياما، ببراعة فائقة، ومقدرة عالية من التوحُّد مع الحالة التمثيلية، مما يجعل المُشَاهد يعرف أن بين يديه سعادات هو غافل عنها، يمارسها هيراياما بمحبة فائقة لكل شيء في الحياة حتى المراحيض التي ينظفها.
بدا هيراياما منظماً ومنسقاُ وصامتاً لا تفلت منه هفوة، وبدت أجمل لحظات الفيلم حين رش هيراياما أزهاره ونباتاته بالماء الرائق، فإضاءة المشهد ساحرة، خليط من السماوي والوردي تبعث في القلب البهجة والصفاء، يرش هيراياما الأزهار والنباتات ويسقيها بمحبَّة خالصة، ثم يبتسم ابتسامة رضا عن الحياة كأن الزهور تشكره، ستحب هيراياما حين يرتدي ملابسه المكتوب عليها حَمَّامات طوكيو، وستحب المتعة السعيدة التي يحصل عليها من ممارسة حياة بسيطة كعامل تنظيف للمراحيض، متعة خالصة تنبع من داخله، لقد أوجد لحظات سعادة من أعماقه، أنتجها عبر تفاصيل الحياة البسيطة التي تمر علينا ربما بمعاناة، سعادات رائقة في غرفة وحيدة ضيقة ليس بها إمكانيات الرفاهية، سعادات خالصة حتى لو كان العمل منظف مراحيض.
انحناءة للسماء
منذ البدء وهيراياما يعشق النباتات، فهو يطل عليها حين يستيقظ، وينظر إليها في حضن الطبيعة ويبتسم لها، يمر بالسيارة من تحت الأشجار ويبتسم، حين يتناول طعامه لا يتناوله إلا وسط الأشجار، يحتفظ بكاميرا داخل جيبه يلتقط بها صوراً للأشجار التي ترفرف على قلبه، فحين يشعر بالحنو ناحية شجرة يُخرج الكاميرا ويلتقط صورة لأفرعها المتداخلة، ونكتشف أن لديه مجموعات هائلة من صور الأشجار، يحتفظ بها داخل خزانته مرتبة بتواريخ التقاط الصور، بدا أنه يريد أن يحبس جمال الطبيعة الذي يتخلَّل روحه ويسبب له سعادة داخلية فائقة.
من أجمل مشاهد الفيلم حين التفت هيراياما بتركيز واضح يجعل المشاهد ينتبه، ثم ذهب هيراياما ناحية شجرة في الحديقة، وقبل أن يتحرك ظهر حارس الحديقة، فأشار هيراياما لنبتة صغيرة تحت الشجرة، بدت وحيدة ويمكن أن يدوس عليها شخص يمر، رفع هيراياما النبتة واحتفظ بها في علبة كرتونية صغيرة، ووضعها في بيته مع النباتات التي تتفتح عليها عيناه في الصباحات الرائقة، وأنقذ أمامنا حياة نبتة.
في لحظة فائقة الجمال كان منظراً بديعاً يحيط الأشجار في حنان، فأخرج هيراياما الكاميرا وصوَّر الشجر المحاط بالزرقة، ثم انحنى وهو يبتسم للشجر وللسماء؛ على البهجة الممنوحة لقلبه.
حين رأت ابنة أخت هيراياما وهو ينظر للشجرة بمحبة غريبة لا تعرفها قالت له: «هل تلك الشجرة صديقتك؟!» ردد متعجباً: «صديقتي؟!» وكان يدرك أنه وحيد في هذه الحياة، لم يكن يعرف أن الشجر يحبه ويصادقه، وكأنه استوعب العلاقة بينه وبين الشجرة فقال: «أنت مُحِقَّة، هذه هي صديقتي الشجرة» وعلى الرغم من أن ابنة أخته من الأثرياء إلا أن قلبها الشاب الرهيف تعاطف مع عمله كمنظف للمراحيض بل ساعدته في عمله دون حرج.
أحلام الظلال
بدت أحلام هيراياما مكملاً لسعادته، فمع مرور اليوم وسقوطه في النوم اللذيذ بعد قراءة كتاب يحبه، نجد ظلال الأشجار تراود أحلامه، ربما تستدعيها أعماقه، يتخلل هذه الظلال موقفاً سعيداَ مرَّ في يومه: وجه أحبه، يد تحتضن يداً، وجه ابنة أخته، اللعبة التي لعبها في المرحاض مع الشخص المجهول. وشاهدنا جميع أحلامه بالأبيض والأسود والظلال المتداخلة، كأنها آتية عبر زمن واضح وصريح لا يعرف التلوُّن الممجوج.
بدت في الفيلم أشياء كثيرة ناعمة لعب عليها صناع الفيلم بمهارة؛ لينقلوا للمشاهد حالة بداية يوم جديد في حياة هيراياما، فعلى الرغم مما يبدو أن هذه الأيام تتكرر: الحلم، وصوت المكنسة اليدوية، ورش النباتات، وابتسامته للسماء، قد يبدو أن هناك مللاً ما في ممارسة هذه الحياة، لكن هناك متعة خفية يلاحظها المشاهد في كل حلم وفي كل ابتسامة للزهور، وفي كل مرحاض ينظفه، حتى إن المراحيض من الخارج بدت في صورة فنية، إلى جانب بداية يومه بأغنية، ونهايته بأغنية، كان هذا ممتعاً أن نشعر أن يومه مر بسعادة على الرغم من بساطة ما يقوم به، وعلى الرغم من تكرار أحداث يومه مع الأيام السابقة، إلا أن شَعْرة خفية وسعادة مخبَّأة في أحداث اليوم تشعرك أن كل يوم هو يوم جديد بلا ملل.
صانع سعادة خفية
حين تصعد الكاميرا بعين الصقر نكتشف أن هيراياما يعيش في منطقة فقيرة، ولمَّا ينطلق بسيارته وتنساب الأغنية ينظر للبنايات الشاهقة في حنو، دون نقمة على حياته الفقيرة، يبتسم كلما رأى الخضرة، يبتسم حين يدخل المرحاض شاب محصور، يبتسم لأنه فكَّ حصره الناس وجعلهم سعداء وهم يتعاملون مع مراحيض نظيفة تبرق، كان يدرك أنه صانع سعادة خفية.
ظهور عامل المراحيض الشاب تاكاشي كشف الفرق بين جيلين من ناحية محبة العمل، فعلى الرغم من أن هيراياما لم ينطق طوال الفيلم سوى كلمات معدودة، إلا أن الشاب تاكاشي حين ظهر بدا ثرثاراً فارغاً من الداخل، وعرفنا أنه يكره عمله في الفترة الصباحية والتي يحبها هيراياما ويتنفَّس فيها نسيم الكون، ظهور الشاب تاكاشي بدا كاشفاً لجمال روح هيراياما؛ فتاكاشي بدا عليه الإهمال والاستهتار، حتى إنه غيَّر ملابسه داخل المرحاض وكانت ملامحه تشي بأنه استيقظ من النوم دون أن يغسل وجهه.
وفي تلك اللحظة التي جمعت بين القديم والحديث كان تاكاشي يثرثر، وهيراياما يمارس عمله منهمكاً في نظافة المراحيض بعناية حتى إنه كان يتتبَّع قطرة ماء من المرحاض عن طريق مرآة خاصة، ظهر الإهمال من الشاب تاكاشي حين قال: «هوّن عليك يا هيراياما؛ ستتسخ المراحيض مجدداً بالتأكيد»، كان تاكاشي ينظف المراحيض بغير اهتمام وهو ينظر في هاتفه المحمول، كانت مقارنة بارعة بين جيلين، أحدهما يتلقَّى السعادة من عمله، والآخر يتلقَّى التعاسة من العمل نفسه.
ولتأكيد دخول الحداثة في الفيلم قد ظهرت صديقة تاكاشي، ساعتها عمل تاكاشي بجد من أجل أن يذهب مع صديقته، وحين ركبوا سيارة هيراياما استمعت الفتاة بشغف لأغنية قديمة، وبدا أن الفتاة تحب شرائط الكاسيت بعتاقتها وأغانيها القديمة، وصار هيراياما سعيداً؛ لأنه وجد من يشاركه عالمه الخاص وحبه لشرائط الكاسيت العتيقة.
بدت إنسانية هيراياما واضحة حين سمع أنين طفل داخل المرحاض ينادي بحزن: «أمي، أمي» فظهر صوته الذي كان صامتاً على الشاشة لفترة طويلة، قال للطفل: «ما الخطب هل أنت هنا مع والدتك؟» وأخذ الطفل بحنو وهو يبتسم له، وكانت والدة الطفل في الخارج تنادي على طفلها وتصرخ: «جوسوكي، جوسوكي» وحين رأته أخذته وسارت ولم تشكر هيراياما، لقد كانت تمثل جيل الشاب تاكاشي، لكن هيراياما لقى مكافأته حين التفت إليه الطفل متمثلاً في البراءة وأشار له بيده يحييه ويشكره، كانت تحية ومكافأة يستحقها قلب هيراياما.
قُبْلة شكر
وجد هيراياما أثناء تنظيفه المرحاض ورقة عبارة عن تسعة مربعات بها دائرة وعلامة إكس، لعبة ملء فراغ المربعات، فقام بوضع علامة، ثم وضع الورقة في المكان نفسه الذي وجدها فيه، ويمر اليوم، وحين يأتي الصباح يجد هيراياما الورقة موجودة في مكانها جانب المرآة، فيأخذها ويجد شخصاً مجهولاً أكمل اللعبة وكأنهما يلعبان عن بعد، فيرسم هيراياما علامته وهو يبتسم للشخص المجهول، حتى انتهت اللعبة وجد هيراياما في نهاية الورقة مكافأته السخية عبارة عن كلمة وحيدة «أشكرك» وكأنه وجد صديقاً لا يعرفه، فأنس وحدته وآنس وحدة الشخص المجهول.
لما أعادت صديقة تاكاشي شريط الكاسيت الذي وضعه لها تاكاشي في الحقيبة، قَبَّلت الفتاة هيراياما وتركته، ظهر عليه الرعب الجميل، وكأن حالة الشكر هذه هي المقصودة في الفيلم، الشكر الذي شكره له الطفل التائه، وشكر الفتاة صديقة تاكاشي، وشكر الزهرة التي أخذها من الأرض حتى لا تموت، وشكر ابنة أخته، وشكر الشخص المجهول الذي لعب معه لعبة تكملة المربعات، حالة نادرة من الشكر على أفعال جميلة ورهيفة، وقد بدأ هو بالشكر لكل جميل في الكون: الزهور والشجر والسماء.
وسمعنا بعد القُبْلة التي وضعتها الفتاة على خد هيراياما أغنية (يوم مثالي تماماً) الأغنية التي تحمل عنوان الفيلم، ثم نام هيراياما على ظهره في حالة حلم والخيالات اللذيذة تداعبه، وكأنما يدعونا للشكر على كل النعم التي نمتلكها حتى لو كانت زهرة، أو سماء صافية.
حزن شفيف
حين جاءت أخت هيراياما الثرية كي تأخذ ابنتها التي هربت عنده سألته: «هل تقوم حقاً بتنظيف المراحيض؟!» وكان يبدو أنها تشمئز من هذا العمل، لكنه ابتسم لها في حبور بعد حزن شفيف وهزَّ رأسه: «نعم» ولمَّا تركته أخته وابنتها شعر بوحدة ما تدخل قلبه، وبكي للمرة الأولى، وكان حلمه في هذه الليلة مشوشاً، يتخلّله شخص مبهم يركب دراجة، ربما هو نفسه، لكنه عاد يستيقظ على صوت المكنسة وينظر للسماء، وحين غاب الشاب تاكاشي عن عمله ظل هيراياما يعمل طوال اليوم، وكان مرهقاً لاختلال نظام سعادة يومه، وكأن صناع الفيلم يخبرون أن العمل طوال اليوم دون لحظات سعادة رائقة يجعل الإنسان متوتراً، ونام هيراياما للمرة الأولى دون أن يقرأ وحين استيقظ تثاءب للمرة الأولى، فقد كان أمسه مرهقاً بالعمل دون متعة، وشعرنا معه أنه فقد يوماً جميلاً، لكنه ابتسم للسماء.
يوم جديد يحمل سعادة رائقة
ويقترب الفيلم من النهاية بعودة هيراياما من لقائه مع الزوج السابق لصاحبة الحانة في المساء، يركب دراجته سعيداً مبتهجاً، ثم ينام منشرح القلب، وتختلط أحلامه بين الماء والشجر ودوران الكون حوله، وحين يفتح عينيه في ظلام ما قبل الشروق، يبتسم للسماء، ويركب سيارته وهو يبتسم في سعادة فائقة عبَّر عنها الممثل كوجي ياكاشو في براعة، والأغنية تتردد في الخلفية: «أيتها الطيور المحلقة عالياً تعلمين كيف أشعر، أيتها الشمس في السماء تعلمين كيف أشعر، أيها النسيم المندفع بالقرب منّي تعرف كيف أشعر، إنه فجر جديد، إنه يوم جديد، إنها حياة جديدة بالنسبة لي.. ناموا بسلام حين ينتهي النهار، هذا ما أعنيه، هذا العالم القديم هو عالم جديد».
وتندفع السيارة وهيراياما يتمايل: مبتسماً، متأثرا بكلمات الأغنية، ونشعر معه أن تكرار حياته على الوتيرة نفسها ليس مملاً، بل هو حياة جديدة ويوم جديد له متعته الخاصة الخالصة، وتستمر الأغنية وتضيء الشمس وجهه، فيبتسم ويبكي في لحظة واحدة، وتتجه السيارة نحو الشمس المشرقة، نحو يوم جديد يحمل سعادة رائقة ورهيفة ومجانية للجميع ■