مبادرات لصون البن اليمني
تذكرت هذا الحوار مع أبي ونحن نحتفل بعيد البن اليمني في يوم 3 مارس الماضي هذا العام، فقمت بالبحث عن المقال الذي كان في مجلة العربي العدد (144) لشهر نوفمبر 1970م في باب «موسوعة علمية» بعنوان «البن والقهوة شرابه»، بقلم الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي في حينها، تحدث فيه بإسهاب عن تاريخ القهوة وانتشارها في العالم وطرق زراعتها وحصادها وتحميصها وفوائدها وأضرارها والعديد من المعلومات الاقتصادية والعملية للبن كشجرة ونبتة والقهوة كمشروب.
شدت انتباهي في المقال نقطتان مهمتان ذكرهما الدكتور أحمد زكي، إحداهما في بداية المقالة (استبدلت اليمن بالبن زرع القات، فكان من ذلك استبدال شر بخير كبير)، والأخرى اختتم الدكتور أحمد زكي بها المقال بتحسر على حال البن اليمني (وتسأل عن اليمن بين هذه الأمم وهي البلد الأم فتأسف وتأسى).
ظل هذا السؤال هو الشغل الشاغل للحكومات اليمنية المتعاقبة من بعد ثورة 26 سبتمبر إلى وقتنا الحالي، فإذا كان القات السبب الأساسي في تراجع المساحة المخصصة لزراعة البن، فإن انتشار تعاطي القات بين أفراد المجتمع كان له أثر كبير في تغيير واختفاء ثقافة البن وجلسات القهوة في المجتمع اليمني ودخول ثقافة مجالس القات؛ حيث شجرة القات ذات ربح أوفر وأسرع للمزارعين، لكن في المقابل شكلت الخسارة الأكبر لاقتصاد الدولة، حيث سيطرت شجرة القات على المشهد الاقتصادي والثقافي في اليمن منذ عقود طويلة إلى الآن، وعلى الرغم من المحاولات العديدة للدولة اليمنية لمحاربة القات وإحياء زراعة شجرة البن إلا أن أغلب هذه المحاولات باءت بالفشل، لأن معظم القرارات التي كانت تصدرها الدولة لم تكن وفق دراسات مجتمعية وإنما وفق دراسات اقتصادية سياسية بعيدة عن الدراسات المجتمعية.
في خلال الحرب الدائرة في اليمن ظهرت مبادرتان من أنجح المبادرات المجتمعية، إحداها تدعو للعودة إلى زراعة شجرة البن والثانية تدعو إلى إحياء ثقافة القهوة.
مبادرة المجتمع الحرازي
خير مثال على إبداع الإنسان اليمني في مجال الزراعة نشاهده في منطقة حراز الجبلية التي تقع على حافة أحد أكثر الجبال ارتفاعًا في اليمن (1400-2500) متر من سطح البحر، والتي تنتج أحد أفضل أنواع البن اليمني إن لم يكن أحد أفخر أنواع البن في العالم.
وصفها المستشرق (جلازر): تبدو حراز كلها مزرعة للبن، وتضفي أشجار البن منظرًا جميلًا على المنحدرات التي تترعرع فيها وكم ترتاح العين وهي تلقي نظرها على هذا الخضار الداكن الندي الذي لا تكاد أشعة الشمس تنفذ إلى داخله، وإذا ما وصل المرء إلى قمتها وجلس لينعش نفسه بفنجان قهوة فإنه سيشعر بالانتعاش في هذا المكان المليء بأريج الأشجار، وهو سيشاهد قطعة حقيقية من العربية السعيدة.
وكما تمتلك حراز تضاريس ومناخًا ساحرين فإن المجتمع الحرازي كذلك مثال للمجتمع اليمني المبدع المتعاون المتسامح المتعلق بأرضه وتراثه، فالمجتمع الحرازي هو مجتمع زراعي يعمل أغلب أبنائه إما في الزراعة أو التجارة وهم مزارعون مهرة وتجار ناجحون ولطالما كانت شجرة البن أيقونة مزارعهم وتجارتهم.
منذ أكثر من قرنين غزت شجرة القات المزارع اليمنية واحتلت أغلب مزارع شجرة البن، كان الغزو في البداية على استحياء وبأعداد قليلة، وسريعًا ما تحول إلى استعمار كامل لمزارع البن من قبل أشجار القات.
ولم تكن مبادرة المجتمع الحرازي التي نادت باقتلاع شجرة القات واستبدالها بشجر البن، وليدة فكرة طارئة، وإنما هي فكرة قديمة ظلت تنمو وتختمر طوال سنوات؛ حيث كانت أول مبادرة في العام 2008م تلتها مبادرة عام 2010م، وأخيرًا مبادرة 2018م، وقد تم خلال هذه المبادرات قلع أكثر من ثمانمائة ألف شجرة قات واستبدالها بأشجار البن. هذه المبادرة المجتمعية حملت عدة أبعاد، أولاً البعد الديني: حيث يعتقد بأن شجرة القات نبتة شيطانية بينما شجرة البن شجرة مباركة، وبما أن أغلب مجتمع حراز من جماعة البهرة التي تتبع المذهب الإسماعيلي، فهم ينظرون بتقدير كبير إلى توجيهات وأوامر سلطانهم وينفذونها بقناعة كاملة، الذي بدوره دعاهم إلى قلع شجرة القات الخبيثة الشبيهة بالخمر، وزرع شجرة البن مكانها.
البعد الاقتصادي: لطالما ارتبط اقتصاد أبناء حراز بتجارة القهوة، وكانت سببًا في الرفاهية الاقتصادية للمجتمع الحرازي الذي تعمل أغلب فئاته إما في الزراعة أو التجارة، وللعودة إلى هذه المكانة الاقتصادية في تجارة البن فقد ساهم كبار وأعيان طائفة البهرة في دعم المزارعين والتجار في زراعة وبيع البن، فتم تعويض مزارعي القات بمنحهم مبالغ مالية نظير كل شجرة قات يتم اقتلاعها إلى جانب دعمهم وتشجيعهم في عملية الزراعة والحصاد، كذلك تم دعم مزارعي القهوة من خلال شراء المنتجات منهم وتسويقها وبيعها في الأسواق الدولية.
البعد الاجتماعي: مبادرة أبناء حراز في قلع القات وزراعة شجرة البن أعادت المجتمع الحرازي إلى واجهة اليمن المشرق، وطغت المبادرة المجتمعية لأبناء حراز على حملات التضليل والتشويه التي تقودها بعض الجماعات الدينية المتشددة، حيث ارتبط مؤخرًا اسم حراز بالقهوة اليمنية وأصبح اسم حراز علامة مسجلة على جودة البن، حتى أن معظم محالّ بيع البن والمقاهي الحديثة في صنعاء تضيف كلمة حراز إلى اسمها كنوع من الدعاية.
من الملاحظ في السنوات الخمس الأخيرة ازدياد الطلب الدولي على البن اليمني وارتفاع حصة اليمن صادرات البن بشكل كبير.
مبادرة إحياء ثقافة البن
(إعلان يوم القهوة اليمني)
إيمانًا بإحياء ثقافة القهوة وإعادته إلى تصدر الواجهة الاجتماعية في اليمن قرر مجموعة من الناشطين الشباب إطلاق يوم البن اليمني كمناسبة وطنية يتم من خلالها الاحتفال بالبن كرمز وطني، كانت الفكرة في البداية عبر عمل حملات تثقيفية في وسائل التواصل الاجتماعي.
في العام 2018م حصل جدل كبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيدي القات (نقابة الموالعة) وبين مجموعة من الناشطين المعارضين للقات، كانت الحملة شرسة بين الطرفين، وكرد فعل من قبل (الموالعة) قاموا بإطلاق يوم خاص بالقات سموه عيد الغصن، هذه الخطوة أصبحت مثار جدل بين الناشطين الشباب بين مؤيد ومعارض، والجدل في وسائل الإعلام الجماهيري بين مؤيدي القات والمعارضين ليس وليد اللحظة وإنما قديم منذ بداية الصحافة والإذاعة في اليمن، ففي خمسينيات القرن الماضي خاضت صحيفة سبأ نقاشًا محمومًا استمر لشهور حول القات بين مؤيديه ومعارضيه، خلال العام 2019م، غيرت نقابة الموالعة توجهها وأطلقت حملة كبيرة لإحياء ثقافة البن وأعلنوا تاريخ 3 مارس من كل عام يومًا وطنيًا للبن وأطلقوا عليه (اسم موكا) وأعلنوا أهدافهم الأساسية المتمثلة في استعادة الشهرة والمكانة العالمية للبن اليمني، والموضع الطبيعي الذي يليق به، وأطلقوا حملة لزراعة ألف شتلة بن بدعم ذاتي من قبلهم.
هذه الخطوة من قبل الناشطين الشباب شكلت انطلاقة قوية لإحياء ثقافة البن، حيث سرعان ما تحول هذا النشاط الفيسبوكي إلى ظاهرة اجتماعية تبنتها الدولة والحكومة اليمنية بمختلف توجهاتها السياسية، وأصبح نشاطًا يتم خلاله الإعداد له بوتيرة عالية من قبل جميع الأطراف سواء الحكومية أو منظمات المجتمع المدني أو الأفراد والتجار والبيوت التجارية، وخلال خمس سنوات أصبحت هذه الفعالية تظاهرة ثقافية تقام في أغلب محافظات الجمهورية وتتسابق وسائل الإعلام إلى تغطيتها وعمل برامج تتناول فيها البن اليمني، حتى أن هذه التظاهرة الثقافية تجاوزت المحيط الداخلي لليمن وأصبح أبناء اليمن في الخارج يقيمون مهرجان البن في أغلب دول العالم بغرض التعريف والترويج للبن اليمني، وأصبح عيد موكا اليوم الوطني لزراعة البن اليمني وانبثق منه سفراء وحراس للبن اليمني.
هذه المبادرة ساهمت في توعية المجتمع بالعودة إلى البن اليمني سواء كثقافة أو زراعة والملاحظ عودة المقاهي إلى بعض المدن اليمنية مع التفنن بطريقة تحميص وتحضير البن على الطريقة التقليدية ■