دهشة عابرة للأزمنة إضاءة لكتاب «فراشات هاربة»
كتابة السير الذاتية والمذكرات، كما قال أحد المنظرين، هي شكل ديمقراطي ومتاح للناس البسطاء لكي يحنّطوا ذواتهم، كما فعل الفراعنة، وليسعوا نحو أبدية ما. غير أنه من المستبعد أن تكون هذه الفكرة قد ألحّت على الشاعر المغربي عبدالكريم الطبال، وهو يقترح علينا عمله السيري «فراشات هاربة» (منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2007) لأنه حظي باعتراف النقاد المتمرسين والقراء الهاوين في الآن نفسه، وهو قد أصبح جزءًا من الوجدان الجمعي لشريحة عريضة من المتتبعين الذين أصبحت أشعاره وصورته تخترق خيالهم ووعيهم.
لقد جعل عبدالكريم الطبال من الشعر أسلوب حياة، ونمط وجود. هو شاعر حاور الغدير والشجر، وداعب الورد والحجر، وغازل الفراشة والقمر، وجعل من الإنسان مدار انشغاله واهتمامه منذ ديوانه الأول الذي اختار له هذا العنوان البالغ الدلالة: «الطريق إلى الإنسان». وإذا كانت الطفولة هي منبع الإبداع ومصدر كل دهشة، فكيف يحكي عبدالكريم الطبال عن طفولته وكيف يصوّرها في سيرته الذاتية «فراشات هاربة»؟
«فراشات هاربة»، عمل أدبي كتب تحت شعار الاستعادة، فالأمر يتعلق بسيرة ذاتية استعاد فيها المبدع عبدالكريم الطبال وقائع وحالات نفسية وروائح منتمية إلى زمن ولى، وقام بزيارة ذهنية لمواقع وفضاءات سكنت الذاكرة والوجدان ورغب في أن يشرك القراء في ما خلفته من انفعالات وبصمات وصدمات وأحلام. لقد قام الشاعر عبدالكريم الطبال بصون التفاصيل ورفعها إلى الضوء وهو يحكي عن اختبارات أساسية واجهته واجتازها بلامبالاة أحيانًا وبتهيب أحيانًا أخرى مما جعل من هذا العمل تسجيلاً صادقًا لمسار تعلم.
وسنشهد كيف يتدخل الشعر في السيرة ليمنحها نضارة أقوى وليمكن الشاعر من تأمل أطوار تطور شخصيته، فنتأكد نحن من صواب القولة الشهيرة «الأنا هو آخر»، إذ نجد في هذا النص انتقالات سلسة وفجائية في نفس الآن في استعمال السارد لضمير المتكلم أو ضمير الغائب، وسنجد تفسيرًا لذلك في القصيدة التي تتصدر العمل والتي نقرأ فيها ما يلي «هو هذا/ الذي يقرأ الآن/ عالمه/ في كتاب الرماد»، فـ«فراشات هاربة» تستند على ما أرغب في تسميته بتقنية التضعيف، حيث يعمد عبدالكريم الطبال إلى تأمل ماضيه، وكأنه ماضي شخص آخر، وهو يؤكد مثلاً: «الطفل الذي هو اللحظة في خريفه لا يزال يتقمص ذاته الغابرة وكأنه لم يفترق عن ذلك الجسد السابق» (ص 7)، لذا فهذا العمل تخترقه دهشة لم تتمكن السنوات المنصرمة من حجبها أو إضعافها وقد صاحبت الشاعر وهو يعلن حبه العميق لأناس عايشهم فرسم بورتريهات مؤثرة لهم كبورتريه الأم الشغوفة برواية الحكايات وبورتريه الأب الصموت الطيب أو بورتريه الأخت الخدوم أو هو يعلن تعلقه الاستثنائي بأمكنة عاش فيها أو مر منها، وانجذابه اللامشروط لمدينته شفشاون والذي يفسره بهذه البساطة الآسرة: «كنت أفترض في المدينة وجود كل شيء فأحس بالاكتفاء» (ص 78).
طبيعة حاسمة
لقد كتب بابلو نيرودا سيرة ذاتية بعنوان «أعترف أنني قد عشت» و«فراشات هاربة» هي الأخرى انبنت على مبدأ البوح. ولقد سلمنا عبدالكريم الطبال منذ الصفحات الأولى من سيرته مفاتيح للاقتراب من عالمه والتعرف على عناصر يمكن اعتبارها ذات طبيعة حاسمة في تكوين شخصيته وفي ولوجه عالم الإبداع الأدبي. وعن تصوره لمغامرة الإبداع تحديدًا يقول: «القصيدة هي أساسًا من أجل أن أبوح بما يضج في السريرة من صخب لا ينتهي، وبما يمور في ضمير الكون من أصداء وتموجات وبما يعتمل في سويداء الحياة من أسرار ومكنونات» (ص 57). كما أنه يتحدث عن عنف التحدي الذي يشكله سؤال ما إذا لم تتم مراودته: «كان لابد لي وأنا أحاصر بالمبهم فيما أحس وفيما أحدس، في الممكن وفي اللاممكن، أن أشك وأن أسأل وأن تثيرني الدهشة» (ص 76)، ويذهب به الأمر إلى أن يسأل الفراشات «كيف تزينت وكيف ترف وكيف أحبت اللعب؟» (ص77) وإن كان لم يسألها لم هربت. ويلخص عبدالكريم الطبال الأسئلة جميعها في «السؤال عن المعنى» (ص 78).
والطفولة، دون أدنى شك، هي ذريعة الكتابة في هذا العمل وهي موضوع للتأمل والتشريح. يقول عبدالكريم الطبال بوضوح صادم: «أحيانًا أظن أن حياتي انتهت بكليتها وتفاصيلها مع انتهاء الطفولة (ص5). ويضيف في الصفحة الموالية بنفس النبرة الواثقة: «إن الشاعر إنسان متقاعد يعيش على ذكرى الطفولة» (ص 6)، وهو عبر هذه التحديدات يكشف لنا عن وجه آخر من وجوهه، أقصد وجه الناقد الحصيف الذي لا ينقاد وراء الصور والأخيلة دونما إرادة أو رد فعل، بل ينطلق من تصور واضح ودقيق للكتابة، والكتابة الشعرية على الخصوص. إنه في سيرته الذاتية هاته مبدع ناقد يحلل ويؤول، فيحدثنا عن قراءاته الأولى وعن تماسه الأول مع عالم الكتب والمكتبات، كما أنه يسر لنا - مثلاً - بشغفه بالسينما، ولا يكتفي بذلك بل يضيف ما يلي: «لربما كان هذا الولع بالسينما هو الذي اقتضى مني منذ بدء العلاقة مع القصيدة أن أراهن على الصورة كأساس في الكتابة الشعرية» (ص 34)، وهو يحكي لنا كذلك عن بداياته الشعرية وعن مغامرة النشر بمجلات تلك المرحلة: الأنيس، الأنوار، المعتمد، وعن علاقته بالشاعرة ترينا ميركادير التي يصفها بالغرناطية الجميلة.
وتقدم لنا هذه السيرة كذلك معرفة بأحوال الوطن في زمن يبدو الآن بعيدًا، وتحكي عن الحرب ضد إسبانيا وضحايا هذه الحرب، وعن عام الجوع الذي حكى عنه الكاتب محمد شكري في روايته الشهيرة «الخبز الحافي»، وعن أعلام التقاهم الشاعر عبدالكريم الطبال بفاس أو بتطوان كالزعيم السياسي عباس الفاسي والفقيه محمد داود والمربي امحمد عزيمان والعلامة إبراهيم الإلغي. إن الذكريات تحتاج، على ما يبدو، لكي تظل مؤثرة في وجداننا إلى صور محددة وواضحة تدعمها وتمنحها وجودًا متجددًا، وشاعرنا استعان بصور هؤلاء الأعلام وبصور أخرى لأناس بسطاء ولمدينته الأثيرة لكي تظل ذكرياته محافظة على رونقها وبهائها وطراوتها.
وقفة تأمل
وفي الصفحات الأخيرة لهذا العمل نقرأ: «وفي هذه السنة (1957) بالذات سأبدأ في تجربة حياتية أخرى تحتاج إلى وقفة تأمل مختلفة» (ص 84). وقد يكون هذا ما يشبه الوعد لجعلنا ننتظر جزءًا ثانيًا لـ«فراشات هاربة» وإن كنا بعد قراءتنا لهذا الجزء الأول قد شعرنا بأننا أصبحنا أكثر قربًا من عبدالكريم الطبال الإنسان والمبدع، هو الذي اقتسم معنا بسخاء بعض حميميته وكشف لنا عن أحلامه وعن رغباته المحتجبة، وحدثنا عن مغرب آخر لم تتح لنا الفرصة للتعرف عليه وعلى سياقات ظلت محتفظة برهبتها. وإذا كان خورخي لويس بورخيس ينبه القراء «(...) إلى كون الكاتب، كل كاتب يخلف عملين: عمله المكتوب وصورة ذاته، وأن هذين الإبداعين يطارد أحدهما الآخر حتى النهاية» فإننا لا نستشعر هذا التجاذب في حالة عبدالكريم الطبال فهو شاعر يشبه قصائده، وأشعاره فرضت عليه، ربما، أسلوب عيش معين ومتفرد، أشعاره التي هي مزيج من الصدق النادر والجمال الذي ينفلت حينما نظن أننا قد قبضنا عليه، ينفلت كما فراشة هاربة ■