لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

تشترك القصص المختارة في امتلاك كتّابها الشباب أدواتهم الفنية إلى حدٍ كبير، وفي تجنبهم الوقوع في فخ استسهال السرد، أو التسرّع بتسمية النص بالقصة القصيرة دون اشتماله على العناصر الفنية، وطرحهم لموضوعات إنسانية بعيدًا عن الغرْف من الواقع المكرور بعمقٍ وسعيّ واضح للتجديد والتنويع في الأسلوب، لجذب القارئ في ظلّ المنافسة القوية للشاشات الساحرة الآسرة؛ فالقارئ للقصة القصيرة في زمننا المعاصر يبحث عن وجبة فنية سلسة ومؤثرة وقادرة على الإقناع وترك بصمة، ومثل هذا لا يتأتى إلا بمراعاة التفاصيل الصغيرة للكتابة في هذا الفن الأدبي السهل الممتنع.

تحتاج الكتابة القصصية عمومًا إلى القدرة على الالتقاط، التقاط موقف أو حدث من الحياة والبناء عليه بطريقة فنية. وهذا ما تمتلكه هذه الأقلام الواعدة من جيل الشباب. مثل هذا التناول الواعي لقضايا اجتماعية ونفسية بعيدًا عن المباشرة، مع محاولة التجديد في الأسلوب، والنجاح في الحفاظ على خيط التشويق في النص جعلت هذه القصص مستحقة للفوز في المسابقة، وهي مبشرّة بمواهب أدبية تنبئ بالخير، وتعتبر مؤشرًا على أنّ القصة القصيرة فن الحياة الذي لا يموت.

 

المرتبة الأولى: قصة «وهنُ المياسِم» لسعيد السامرائي/ سلطنة عمان 

نجح كاتب القصة في تصوير الحالة الشعورية الداخلية للشخصية دونما حواجز وبمهارة فنية، مثل هذه القدرة على الإمساك بخيوط القصة والتصرف بالأدوات الفنية لكتابة القصة القصيرة تشير لقلم مجرّب. بطلة القصة تدعى «خلود» وهي عجوز متعلقة بماض محكوم بالفقد والانتظار، تعيش بذاكرة مشوشة، تتذكر الأحداث البعيدة من حياتها وتنسى القريبة، فالزمن ملتبس في ذهنها، تنتظر رجوع زوجها محمود وتلوم نفسها رغم مرور سنوات طويلة على مغادرته لها لوجهة ولسبب غير معلومين، حتى قبل معرفتهما بأنّها تحمل جنينًا في رحمها، زينب التي كبرت وأنجبت الحفيدة سارة التي تأتي لإقناع جدتها بمغادرة البيت في مدينة قطعت الحروب أوصالها وثقبت رئتها، لكنها تصطدم بتعلقها بالمكان ورفضها المغادرة؛ فهي تعيش في ذاكرة الماضي الذي يحتضنه البيت وتحرص على لوحة تضم أزهارًا مجففة تذكرها بزوجها الغائب، يمتلك الكاتب القدرة على السرد بسلاسة والغوص في داخل الشخصية، نجح بوصف شخصية المرأة التي تحيا بذاكرة متقطعة تومض للحظات وتنقطع لكنها موصولة بالماضي ومتعلقة به، وهذه الحفيدة تحاول استعادتها وإرجاعها إلى أرض الواقع حين تطلب منها مغادرة البيت، لكن هذا الطلب يُقابل بالرفض والتجاهل لأكثر من مرة؛ لأنَّ البيت بالنسبة لها هو الحاضن لذكرياتها وهي الكنز الوحيد الذي تمتلكه في ظل تقطع ذاكرتها القريبة والتجائها للماضي وتعلّقها به وتشبثها بعودة زوجها محمود رغم أنه غادر في بداية حملها بابنتها زينب التي أنجبت سارة التي تحاورها الآن! أبدع الكاتب في خلق شخصية قصصية نابضة وأوصل للمتلقي ما تكابده من تشظٍ بين التذكر والنسيان، الحضور والغياب، التقبّل والرفض؛ فالزمن ملتبس لديها والمكان حاضن لحياتها وذكرياتها، فمن الطبيعي أن ترفض وتنكر ولا تتذكر بل أنها تسعى للتجاهل فكأنَّ عقلها الباطن يحاول حمايتها من فقد ملاذ ذكرياتها. 

كاتب هذه القصة متمكن يلتفت للتفاصيل الصغيرة في السرد لجعله مقنعًا للمتلقي مثل وصف يد المرأة بالمُنَّمشة لارتباط هذه الصفة غالبا بالتقدم بالعمر.

للعنوان أهمية كبيرة لأيّ نص أدبي وخصوصًا القصة القصيرة حيث ينبغي أن يشي بمضمون القصة، فما سبب اختياره «وهن المياسم» عنوانًا لقصته؟ وما علاقة العنوان بمضمون هذه القصة؟ قد يحمل العنوان رمزًا لما حدث في حياة الشخصية في الماضي وما زال عالقا في الذاكرة، لكن مثل هذا العنوان الذي يحمل بعدًا رمزيًا غير مستحب - برأيي - لقصة قصيرة، يصلح أكثر عنوانا لقصيدة أو رواية، بل إنَّ القارئ قد يُنهي قراءة القصة ولا يجد رابطًا بينها وبين العنوان وهذه نقطة ليست في صالح النص. 

ثمة تكرار لاسم بطلة القصة كان يمكن الاستعاضة عنه باستخدام الضمير، كما أنّه ينبغي الحرص أكثر على إثبات علامات الترقيم بما يسهم في عدم إرباك القارئ وفهم المكتوب.

 هذه الملاحظات البسيطة يمكن للكاتب تجاوزها ولا تؤثر بحقيقة امتلاكه موهبة أدبية تبشر بالخير، وتجعل هذه القصة تستحق الفوز.

 

المرتبة الثانية: قصة «يقين» لمحمد علاء الدين/ مصر

تميزت هذه القصة باشتمالها على العناصر الفنية وبتناولها لموضوع إنساني بشفافية بعيدًا عن المواربة في البوح، بأسلوب سلس دون مبالغة حيث روت الشخصية قصتها في الحياة والظروف التي أوصلتها إلى دائرة الوحدة القاسية عن طريق التذكر؛ فشخصية البطل انطوائية وهو متعلق تعلّقًا مرضيًا بوالدته ولم يتزوج ويكوِّن عائلة لأنه لم يرد أن يتركها ولن يحب أحدًا مثلها، فعزلتُه نتيجةٌ لمفهوم مغلوط عن دور الأم، والخلط بينه وبين دورالزوجة في حياة الرجل، لكنه وجد منفدا للخلاص وتحمّل ما تبقى له من سنين حين تعلق بأمل التخلص من قسوة الإحساس بالوحدة بأن يطرق أحدٌ باب شقته أو باب حياته الذي جعله موصدًا بسبب انطوائيته، أمل يبقيه على قيد الانتظار، والانتظار شكل للحياة.

ثمة مأخذ على الأسلوب متعلق بتكرار جملة «أنتظر أن يدق الباب» لخمس مرات، مثل هذا التكراراللفظي غير محبّذ حتى وإنْ كان يخدم الفكرة، ويعتبر نقطة ضعف في الأسلوب، كان بإمكان الكاتب أن يوصل فكرته، ويصوغ الجملة بطرائق مختلفة.

تنتهي القصة بحدث مؤلم حين يُدق الباب بيد طفل قائلاً بأنه ملك الموت، ولهذا الاختيار الذكي من قبل الكاتب مؤشر أنّ البطل في الحقيقة لا ينتظر غير الموت، لكن الأمل يتبرعم مجددًا في قلبه ويواصل انتظاره. وفّق الكاتب باختيار عنوان موجز ودال على فكرة هذه القصة الجميلة.

 

المرتبة الثالثة: قصة «السرد والكرونوفايزر» لنزار لعرج/ المغرب

تميزت هذه القصة بفكرتها الطريفة، وبامتلاك كاتبها الأدوات الفنية، وبمهارته في التدرُّج في السرد بأسلوب مقنع وجاذب للمتلقي. الشخصية الرئيسة في القصة كاتب روائي يجلس في قطار مكتظ، وكعادة الكتّاب يحاول الهروب من الضجيج ويستغرق بأفكاره بين قراءة وتأمل وتخطيط لعمل أدبي قادم، تؤرّقه الأسئلة حول فكرة رواية يقرؤها حين يتحوّل الحب إلى فعل قتل، ويباغته رجل ستيني يجلس بجواره بحديثٍ يؤكد ما يجول بذهنه من تساؤلات وأفكار، لكنه يسعى لقطع الحديث معه بسرعة وهذا غير مقنع، لأنّ من يفكر بموضوع معين يميل لسماع ما يتعلق به، والكاتب عادة مستمع جيد خاصة إن وجد مُحدّثًا يتطرق لفكرة تراوده الكتابة عنها، فكان الأجدر به أن يستدرجه للحديث أكثر لا أن يسعى للتخلص من بوحه! ويتفاجأ بعدها بحضور فتاة من قرّائه سبق وأن التقى بها في معرضٍ للكتاب، تتبعته قصد الالتقاء به، ليجد تشابهًا بين الرواية وما يحدث معه في الواقع، وكأنّ فكرة الرواية أو نبوءتها تتحقق، ويتذكر ورقته البحثية حول النبوءة في الأدب، فيشعر بالخوف والارتباك.

 لي ملاحظة تتعلق بالعنوان الذي اختاره الكاتب لقصته، عنوان القصة القصيرة لا يحتمل مثل هذه الإطالة، ولا يحتمل برأيي وجود كلمة مثل «الكرونوفايزر» التي قد لا يفهمها المتلقي، كما أنها تكشف لو فهمها فكرة القصة! كما أنّ استخدام مصطلح «الكرونولوجيا» في نهاية القصة أفقد المتلقي بعضًا من متعة التفاعل والتأثر بالخاتمة.

كما ينبغي لمن يكتب القصة القصيرة أن يكون دقيقًا في وصف الشخصية، مثلاً نعت الفتاة بممكورة أحسستُ بأنه مقحم على النص، إثقال النص القصصي بما يمكن التخفف منه قد يفقده السلاسة وخيط التشويق الذي يشد القارئ. 

قصة مميزة تؤكد امتلاك كاتبها الموهبة الأدبية المبشرة بالخير.