إنسان بمقاييس السوق

إنسان بمقاييس السوق

من الغرب إلى الشرق تعالت الأصوات في الفترة الأخيرة تشكو من سيطرة اقتصاد السوق على مصير المعرفة الإنسانية، أي على المعرفة التي محورها الإنسان وليس النباتات أو النجوم، ظروف المجتمع ومشاعر الأفراد وهمومهم، وليس تطورات التقنية وغزو الفضاء. «إن علوم الإنسان، أو العلوم الإنسانية، في أزمة»، تقول أستاذة اللغة الإنجليزية في جامعة كيمبردج البريطانية بريامفادا غوبال في مقالة نشرت مؤخرًا في مجلة «بروسبكت» الثقافية الشهرية (ديسمبر 2023). ويقول ذلك أيضًا باحثون في أماكن أخرى من العالم. ونقول نحن هنا في عالمنا العربي، بل في الخليج والجزيرة العربية بصفة خاصة، حيث تزدهر الأسواق ويعلو صوت الشركات والتجارة والاستثمار. العلوم الإنسانية تضمر، تُطالب بتغيير مناهجها، تغيير طبيعتها، ألا تكون كما اعتادت أن تكون، علوم تاريخ واجتماع وأدب ونفس وأنثروبولوجيا وغير ذلك من مجالات عرفت بالإنسانية. العلوم المختصة بالإنسان مطالبة بأن تلبي احتياجات السوق فتخرج أجيالًا جاهزة للانخراط في شركة أو مؤسسة مالية أو وظيفة حكومية معنية بالاستثمار أو بالأعمال، أو بالتقنية. 

بريطانيا التي صنعت شطرًا كبيرًا من حضارة الإنسان المعاصر على مختلف المستويات، لاسيما الإنساني من خلال الفلسفة وعلوم الإنسان الأخرى، تواجه أزمة تهدد مستقبل التفكير النقدي فيها، وهي المتخمة بالمفكرين وعلماء الاجتماع والنفس والمختصين في كل مجال. فماذا يا ترى تقول شعوب ما تزال توصف بالنامية حيث الشح في كل التخصصات الطبيعي منها والإنساني، المعني بالحاسب والكيمياء، والمهموم بالإنسان وتحولات المجتمع، حيث تتحجم الفلسفة ويتدنى مستوى التفكير الناقد: هل نندفع مع العولمة الاقتصادية ومتطلبات السوق، كما يحدث في أوربا والغرب عامة، أو ننظر في وجوه النقص لدينا؟

الثورة العلمية التي عاشتها أوربا منذ عصر النهضة حملت الغرب إلى التخوم القصوى في الاكتشاف والابتكار متكئًا طبعًا على ثروات العالم الذي سيطر الغرب على مقدراته لتخدم تلك النهضة العلمية والاقتصادية بل والفلسفية. تلك الثورة وصلتنا مع بدايات نهضتنا في أواخر القرن الثامن عشر، مع نابليون ممثلًا لأوربا، وصلتنا بمنجزاتها ومشكلاتها، وهي الآن في كل مكان من العالم تحت مظلة العولمة. ونحن إذ نتعولم لا تصلنا منجزات الحضارة فحسب وإنما مشكلاتها أيضًا. غير أن الفرق بيننا وبين أوربا - الفرق بين فروق كثيرة طبعًا - هو أن مستوى وعينا بالمشكلات أضعف بكثير وقدرتنا على حلها أضعف من الأضعف. 

والحلول ليست مما يمكن أن تمدنا به الرياضيات أو الفيزياء وإنما ما يمكن أن يمدنا به التفكير الناقد منطلقًا من علم اجتماع أو فلسفة أو تاريخ، من علم معني بالإنسان. أقول ما يمكن أن يمدنا به لأن قدرة العلوم الإنسانية، التي تتراجع بسرعة في مجتمعاتنا، مرهونة ليس بالدعم والرعاية وإنما بمساحات الحرية في التفكير والحرية في الطرح، وهنا لا تكمن مقاييس السوق بل مقاييس الحياة ■