فلسطين في الكتابة الفلسفية الغربية المعاصرة جيل دلوز مثالا
شكَّلت القضية الفلسطينية قضية محورية في كل نقاش فلسفي متصل بالفلسفة السياسية والأخلاقية والاجتماعية المعاصرة، وذلك بحكم ارتباطها بالقيم الإنسانية الكبرى، وعلى رأسها قيَّم الحرية والعدل والإنصاف والمساواة والكرامة. وإذا كانت الكتابة الفلسفية الغربية المعاصرة متفاوتة في معالجتها لهذه القضية، سواء من جهة الحضور أو الغياب، أو من جهة الموقف المناصر أو المناهض لها، فإنَّ المؤكد أنَّها فرضت نفسها بقوة منذ (طوفان الأقصى) في 7/10/2023، بحيث يمكننا القول إنَّها تحوَّلت إلى المعيار أو المقياس الذي تقاس به مختلف القيم التي قامت عليها الحضارة الغربية كلها، وليس الفلسفة الغربية فقط.
من هذا المنطلق، فإنَّه من المهم في تقديري، أن نستحضر تلك الكتابات الفلسفية التي كانت متميِّزة في تشخيصها الدقيق للقضية الفلسطينية، وفي الدفاع عن قيم الإنسانية الكبرى في الوقت نفسه، بعيدًا عن سياسة الكيل بالمكيالين، ومفارقات القول والفعل، والتناقض بين التحليل النظري والموقف العملي، وازدواجية المعايير المفضوحة، واعتماد القواعد الاستثنائية التي تخفي المركزية العرقية أو الدينية أو الأوربية.
ويعد الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دلوز (1925-1995) من بين هؤلاء الفلاسفة الذين تمكنوا من تجاوز هذه المعايب، وتحقيق قدر عال من الاتساق بين التحليل النظري والموقف الإنساني العادل الذي ظهر في مجموعة من نصوصه التي جُمعت في كتابه: نظامان للمجانين (1983)، وهي: (1) المضايقون، جريدة لوموند (Le Monde) في 7 أبريل 1978، (ص 147-149). (2) هنود فلسطين، حوار مع إلياس صنبر في جريدة ليبراسيون (Libération) في 8-9 مايو 1982، (ص 179-184). (3) عظمة ياسر عرفات، مجلة الدراسات الفلسطينية (الطبعة الفرنسية) العدد 10، شتاء 1984، (ص 221-225). (4) حيثما يستطيعون رؤيتها، مجلة الكرمل، العدد 29، 1988، أو الحجارة (ص 311-312).
ولا يمكن فصل هذه النصوص السياسية والأخلاقية عن مجمل فلسفته، وبخاصة مفهومه للفلسفة بما هي إبداع للمفاهيم، ودور المثقف الخصوصي في الشأن العام، والذي يظهر في الموقف من القضية الفلسطينية وفي كثير من القضايا التي ساندها الفيلسوف، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، موقفه من الانتفاضة الطلابية في مايو 1968، والانتصار للحقوق السياسية والاجتماعية للمساجين ضمن فريق الاستعلامات الذي أسَّسه مع صديقه الفيلسوف ميشيل فوكو الذي رغم انتصاره للمهمشين والمبعدين، إلَّا أنَّه آثر الصمت إزاء مظالم إسرائيل وتجاوزاتها، وهو ما تسبب في القطيعة بين الفيلسوفين.
والحق فإنَّ موقف دلوز من القضية الفلسطينية، ينبع من مفهومه للفلسفة ليس فقط بوصفها إبداعًا للمفاهيم، كما أشرنا إلى ذلك، ولكنها بوصفها قدرة على المقاومة، أو كما يقول مع صديقه فيلكس قتاري في كتابهما: ما الفلسفة؟ «إنَّنا نفتقر للمقاومة في الحاضر، وإن إبداع المفاهيم يستدعي في حد ذاته شكلًا مستقبليًّا» (ص 104). وتعد حالة الفكر العربي الراهنة إزاء ما يحدث في غزة مثالًا لهذا الافتقار لأشكال المقاومة المختلفة، والحاجة إلى إبداع مفاهيم تتجاوز حالة العجز التي عبرت عنها مسرحية (صمت) للفنان الكويتي المبدع سليمان البسام.
إنّ تعاطف دلوز وتضامنه مع الشعوب التي انتزعت منها أراضيها يعد أساس التزامه السياسي والأخلاقي، وكذلك الحال بالنسبة لصديقه فيلكس غتاري الذي كتب معه نصوصا وكتبا مشتركة عديدة، وكانا في نهاية سبعينيات القرن العشرين يؤلفان كتابهما ألف سطح، وفيه يناقشان آلات الحرب وأجهزة الأسر وما إلى ذلك، وبالتالي كانا مهتمين بالتجربة الفلسطينية. ويمكن التأريخ لبداية هذا الالتزام بالقضية الفلسطينية بعامي 1977-1978، وذلك عندما نظمت جامعة فينسين (Vincennes) ندوة حول مصادرة الأراضي العربية في إسرائيل، وفيها تعرف دلوز على المثقف الفلسطيني إلياس صنبر. وفي أعقاب هذه الندوة كتب مقاله الأول عن فلسطين في جريدة لوموند، يقول فيه: «إنَّ الفلسطينيين، بوصفهم شعبًا بلا أرض ولا دولة، يشكلون مصدر مضايقة للجميع».
وبالنظر إلى ما تتطلبه القضية الفلسطينية من حضور إعلامي وفكري في المجتمع الغربي، والفرنسي على وجه التحديد، ساعد جيل دلوز إلياس صنبر على طباعة ونشر مجلة الدراسات الفلسطينية في مطابع منويه (Minuit) في عام 1981، ونشر فيها مقاله الموسوم عظمة ياسر عرفات. ويمكن الوقوف عند تفاصيل كثيرة لهذا الموقف في ما كتبه هذا المثقف الفلسطيني عن دلوز ودعم مثقفين وكتاب وفنانين فرنسيين كثيرين في كتابه: وجوه فلسطينية (2004).
وبمناسبة الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987، طلبت منه مجلة الكرمل، التي كان يشرف عليها الشاعر الفلسطيني المعروف محمود درويش، التعبير عن موقفه، فكتب هذه الكلمات التي لا تزال تعبِّر بحق عن القضية الفلسطينية، يقول:
«لم تشرع أوربا بتسديد الدين اللامتناهي الذي تدين به لليهود، وإنَّما جعلت شعبًا آخر، بريئًا - الفلسطينيين - يسدده عنها. لقد بنى الصهاينة دولة إسرائيل بالماضي الحديث لعذابهم، وعلى الرعب الأوربي المتعذر على النسيان، ولكن كذلك على معاناة هذا الشعب الآخر، وبأحجار هذا الشعب الآخر، صنع الأمريكان من إسرائيل صناعة كبرى على الطريقة الهوليودية، كانوا يعتبرون أنَّ دولة إسرائيل ستقوم في أرض خالية تنتظر منذ زمن بعيد الشعب العبري العريق، مع أشباح بعض العرب القادمين من أماكن أخرى، حرسًا للأحجار النائمة. لقد كانوا يقذفون بالفلسطينيين إلى النسيان، ويأمرونهم بالاعتراف قانونًا بدولة إسرائيل، في حين لا يكف الإسرائيليون عن أن ينكروا على الشعب الفلسطيني واقعه المشخص، مطرودين من أرضهم، يقيم الفلسطينيون حيثما يستطيعون مواصلة روايتها على الأقل، والاحتفاظ برؤيتها كصلة أخيرة مع كيانهم المغيب في الأحلام. أبدًا لن يقدر الإسرائيليون أن يدفعوهم أبعد من ذلك، أو أن يقذفوا بهم إلى الليل، وإلى النسيان».
ضمانات زائفة
إن القضية الفلسطينية في نظر جيل دلوز: «هي أولًا وقبل كل شيء مجموع المظالم التي عانى منها وما زال يعاني منها هذا الشعب. هذه المظالم هي أعمال عنف، ولكنّها أيضا التناقضات المنطقية والتفكير الخاطئ، والضمانات الزائفة التي تزعم التعويض عن هذه المظالم أو تسويغها». وليست المجازر، ومنها مجازر صبرا وشاتيلا التي كان شاهدًا عليها، والمجازر التي تعرفها غزة منذ ما يزيد عن ستة أشهر إلَّا دليلًا صارخًا على هذه المظالم، ناقدًا في الوقت نفسه، عملية التحويل التي أجرتها الصهيونية لأكبر مجزرة في التاريخ البشري، ألَا وهي المحرقة التي ارتكبها النظام النازي في حق اليهود، وذلك عندما اعتبرتها شرًّا مطلقًا، وأصبغت عليها صبغة دينية لا تاريخية. يقول: «هذه ليست رؤية تاريخية. إنَّها لا تمنع الشر، بل على العكس من ذلك، إنَّها تنشره، وتسقطه على أناس أبرياء آخرين». وإنَّه إذا كان النازيون قد نظموا ما أصبح يعرف بـ «الحل النهائي للمسألة اليهودية»، والتي ستعرف لاحقًا بالمحرقة أو الهولوكوست، فإنَّ دولة إسرائيل يمكنها: «بالنسبة للحل النهائي للمسألة الفلسطينية الاعتماد على تواطؤ مجموعة من الدول، وهو تواطؤ يحظى بشبه إجماع»، وهو ما يعني أن الفلسطينيين لا يواجهون استعمارًا تقليديًا على الطريقة الأوربية، وإنما استيطانًا على الطريقة الأمريكية في تعاملها مع الهنود الحمر، أي العمل على تفريغ الأرض الفلسطينية من الفلسطينيين وتهجيرهم، وهو ما نشاهده يوميًا في الحرب على غزة أو في الضفة الغربية من خلال عملية الاستيطان الدائمة والمكثفة.
ولم تخف دولة إسرائيل يومًا، وذلك منذ نشأتها، أنَّ هدفها: «هو خلق الفراغ في الأراضي الفلسطينية. والتصرف وكأن الأرض الفلسطينية كانت فارغة، مهيأة دومًا للصهاينة… إنَّه ضرب من الإبادة، ولكنه يتميز بكون الإفناء الطبيعي الخاضع للتفريغ الجغرافي». وهو ما يؤكِّد فكرة أنَّ الشعب الفلسطيني «يؤدي ديْنًا غير مدين به للذي يطالبه به».
ولقد عززت الصهيونية بما هي إيديولوجية استيطانية سرديتها بفكرة مغلوطة، ملفوظها هو«أرض بدون شعب لشعب بدون أرض»، ولكن مع ذلك وكما يقول دلوز: «ستطالب الصهيونية، وفي ما بعد، دولة إسرائيل، الفلسطينيين بالاعتراف بها قانونيًا، مع أنَّها لم تتوقف عن إنكار وجود شعب فلسطيني. فلا حديث عندها عن فلسطينيين، وإنَّما عن عرب فلسطين، وكأنَّهم وجدوا أنفسهم هناك صدفة أو خطأ. لاحقًا، سيتم الأمر وكأن الفلسطينيين المهجّرين جاؤوا من خارج. ولن يتم الحديث قط عن حرب المقاومة الأولى التي خاضوها وحدهم. وسيعتبرون من سلالة هتلر، ما داموا لم يعترفوا بحق دولة إسرائيل». ومن هنا فإنَّ هذه السردية الأيديولوجية لن تتردد في ربط كل مَن ينتقد ممارسات إسرائيل في فلسطين بمناهضة السامية. يقول: «تعمل إسرائيل على أن تصوَّر كل أولئك الذين يعارضون ظروفها الفعلية، والأفعال التي تقوم بها الدولة الصهيونية، على أنهم معادون للسامية...».
الفيلسوف الأول
والحق، فإنَّه مهما كان الموقف من تحليلات دلوز، التي تنفرد في الكتابة الفلسفية المعاصرة حول فلسطين، وبخاصة الكتابات السياسية والأخلاقية، مقارنة بالفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الذي أصبح مثالًا لازدواجية المعايير، والتناقض بين الفكر والعمل، وبين النظرية والموقف السياسي والأخلاقي، فإنَّ المؤكد هو أن جيل دلوز يعد الفيلسوف الأوربي الأول الذي كتب عن «المحرقة الفلسطينية» بوصفها وجهًا آخر للإبادة التي تعرض لها اليهود في أوربا، وهو ما يفرض على الإنسانية جمعاء واجب التضامن مع الفلسطينيين والانتصار لحقهم في تقرير مصيرهم وبناء دولتهم المستقلة، ويمثل بحق، الفيلسوف الذي اتسقت تحليلاته الفلسفية للسُّلطة، والمقاومة، مع مواقفه النضالية الملتزمة بقيم الحق، والعدل، والحرية، وبخاصة من جهة نقده ومعارضته الصريحة للسُّلطة القمعية التي توظِّف المعرفة، والتقنية، والرغبة، والعقلانية من أجل التحكم والسيطرة، والاستعمار بكافة أشكاله وألوانه ■