ما بعد الحداثة هل نحن بحاجة إليها؟!
كثُر الحديث منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن عما يسمى بما بعد الحداثة، وقد وجدنا أن معظم الكتّاب والمفكرين والنقّاد العرب يبادلون الكتاب الغربيين نفس الشغف ويتغنون بهذا العصر الجديد ويتبارون بالتمسك بأهدابه وترجمة أعماله. السؤال هنا: ما المقصود بما بعد الحداثة؟ ما الفرق بين الحداثة وما بعد الحداثة؟ هل نحن بالفعل أمام عصر فكري جديد؟ ما هي سمات هذا العصر؟ وهل نحن - وخاصة في عالمنا العربي والإسلامي - بحاجة إلى التهليل لهذا العصر التي بشرت به ودعت إليه الكتابات الغربية؟!
لقد نشأت حركة ما بعد الحداثة في سياق تطور الفكر الغربي المعاصر كرد فعل على ادعاءات المعرفة التقليدية اليقينية المرتبطة بعصر النهضة والحداثة الغربية، ويقصد بها النظريات والتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والأدبية والنقدية والفنية التي ظهرت ما بعد الحداثة البنيوية والسيميائية (علم العلامات أو الإشارات اللغوية أو الرمزية سواء أكانت طبيعية أو اصطناعية) واللسانية (علم اللغة). وقد جاءت كما يقولون لتقويض الميتافيزيقا الغربية، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت قديمًا وحديثًا على الفكر الغربي، كاللغة، والهوية، والأصل، والعقل. وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب، وتقترن ما بعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية والتفكيك واللامعنى واللانظام.
وتتميز نظريات ما بعد الحداثة عن الحداثة السابقة بقوة التحرر من قيود التمركز، والخروج عن المألوف والانفكاك عن التقليد وما هو متعارف عليه، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح، الانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص (أي التشابه بين النصوص)، محاربة لغة البنية والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات الغربية المهيمنة، وتعرية الأيديولوجيا البيضاء (أي أفكار الإنسان الأبيض)، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب ما بعد الاستعمار.
لكي نفهم أكثر ماذا يُقصد بعصر ما بعد الحداثة علينا أن نحدد خصائصه والملامح العامة التي يتميز بها؛ إذ إن أهم ما تتميز به ما بعد الحداثة هو التشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة. ومن ثم، أصبح التشكيك آلية للطعن في الفلسفة الغربية المبنية على العقل؛ فتفكيكية جاك ديريدا - مثلاً - هي في الحقيقة تشكيك في الميتافيزيقا الغربية من أفلاطون إلى فترة الفلسفة الحديثة، ومن يتأمل جوهر فلسفات ما بعد الحداثة ككل، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أنها فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع، حيث استهدفت - كما قلنا من قبل - تقويض مقولات المركزية الغربية الكبرى كالدال والمدلول، واللسان والكلام، والحضور والغياب إلى جانب انتقاد مفاهيم أخرى كالجوهر، والحقيقة، والعقل، والوجود، والهوية... إلخ. وذلك عن طريق التشريح، والتفكيك، والتقويض، والتشتيت، وإذا كانت البنيوية الحداثية قد آمنت بفلسفة البنية والانغلاق الداخلي، وعدم الانفتاح على المعنى، والسياق الخارجي والمرجعي، فإن ما بعد الحداثة قد اتخذت لنفسها الانفتاح وسيلة للتفاعل والتفاهم والتعايش والتسامح. ويعد التناص آلية لهذا الانفتاح، كما أن الاهتمام بالسياق الخارجي هو دليل آخر على هذا الانفتاح الإيجابي نحو التعددية.
وتعمل فلسفات ما بعد الحداثة على تحرير الإنسان من قهر المؤسسات المالكة للخطاب والمعرفة والسلطة، وتحريره أيضًا من أوهام الأيديولوجيا والميثولوجيا البيضاء، وتحريره كذلك من فلسفة المركز، وتنويره بفلسفات الهامش والعرضي واليومي والشعبي.
قراءات مختلفة
أما فيما يعرف عن نظريات ما بعد الحداثة في مجال النقد والأدب فهو محاولة تخلصها من النظريات والقواعد المنهجية، فميشيل فوكو - مثلاً - يسخر من الذي ينطلق من منهجيات محددة يكررها دائمًا، ويحفظها عن ظهر قلب، ويرى أن النص أو الخطاب متعدد الدلالات، يحتمل قراءات مختلفة ومتنوعة، كما أن ديريدا يرفض أن تكون له منهجية نقدية أدبية في شكل وصفة سحرية ناجحة لتحليل النص، حيث لا يوجد المعنى أصلاً مادام مقوضًا ومفكَّكا ومشتتًا، فما هناك سوى المختلف من المعاني المتناقضة مع نفسها كما يقول جاك ديريدا.
ووفقًا لمُنظِّري الحركة فإن لفظة «تعريف» definition ذاتها هي لفظة حداثية مورثة من نماذج الوضعية المنطقية، ولا تَنسجِم مع الإطار العام المفتوح لما بعد الحداثة، والذي لا يَحوي ضمن مفرداته مقولة التحديد. فالتعريف يُوحي بالثبات كما أنه يفترض مقدمًا أن كلَّ مَن سيَقرؤه سيفهمه كما حدَّده كاتبُه، وكما سيفهمه جميع القرّاء، وهذا ما يَرفضه مُنظِّرو ما بعد الحداثة الذين لا يُؤمنون بوجود حقيقة موضوعية!
ويذهب إيهاب حسن إلى «أن المصطلح، فضلًا عن المفهوم، يَنتمي إلى ما يُطلِق عليه الفلاسفة الفئة المُتنازَع عليها جوهريًّا، وبلغةٍ أبسط - يقول حسن - إذا وضعنا أهم المُفكِّرين الذين ناقشوا المفهوم في غرفة واحدة، ثم أضفنا الإرباك الملازم للمفهوم، وأغلقنا الغرفة، وألقينا بالمفتاح بعيدًا، فلن يحدث اتفاق بين المُناقِشِين، بل سنجد خيطًا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة».
لقد حاول إيهاب حسن نفسه أن يبلور الفروق بين الحداثة وما بعد الحداثة في جدول واضح، فماذا كانت النتيجة؟!
لقد اتضح من القائمة اليسرى التي تمثل خصائص ما بعد الحداثة أنها ضد الشكل أي تميل إلى الانفتاح وعدم الانضباط، إنها ميل إلى اللعب والصدفة والفوضى، ميل إلى الغياب والتبعثر، ميل إلى اللاإبداع والتفكيك، ميل إلى السطحية والانتظام الظاهرى وليس العميق!
غياب التخطيط
ولعل السؤال الآن هو: هل تيار بهذه السمات غير المحددة والذي لا يستطيع أعلامه تحديد ملامحه بوضوح، وهو بهذه الخصائص الساعية إلى تقويض ورفض كل المتعارف عليه من نظريات وأسس بنى عليها البشر حضارتهم الجديدة منذ الحضارة الإسلامية وصولاً إلى الحضارة الغربية الحديثة وعصر التنوير، هل يمكن أن يناسبنا ونجري وراء ترجمة كل ما يصدر عنه وعن دعاته؟! وتنهال علينا الكتابات حوله تدعو إليه وتبشر به؟! إذا كانت ظروف الغربيين ومآل حداثتهم قد قادتهم إلى الضيق من صرامة قيم الحداثة والتقدم العلمي والتقني، فهل ينطبق ذلك على مجتمعاتنا العربية التي لا تزال ترزح تحت قيم التخلف والتبعية وتعاني من غياب التخطيط والعقلانية وعلمية التفكير؟!
ومن جانب آخر هل نظل أسرى نظرة الغربيين إلينا على هذه الصورة النمطية التي يتصوروننا فيها كشرقيين، أممًا تفتقد القدرة على التحليل العقلي وتعشق الخرافة والفوضى!
يحز في نفسي ويصيبها بالأسى والحزن أن أتأمل ما رواه إدوارد سعيد في كتابه الشهير «الاستشراق» عن اللورد كرومر الذي كتب عن مصر الحديثة وإنجازاته وتجربته فيها مجلدين، حيث قال في إطار المقارنة بين الإنسان الشرقي والإنسان الأوربي: «قال لي سير ألفرد لابل مرة: إن الدقة كريهة بالنسبة للعقل الشرقي وعلى كل إنسان أنجلو هندو أن يتذكر هذا المبدأ الأساسي! ويضيف أن الافتقار إلى الدقة الذي يتحلل بسهولة ليصبح انعدامًا للحقيقة هو في الواقع الخصيصة الرئيسة للعقل الشرقي.
الأوربي ذو محاكمة عقلية دقيقة وتقريره للحقائق خال من أي التباس، وهو منطقي مطبوع رغم أنه قد لا يكون درس المنطق، وهو بطبعه شاك ويتطلب البرهان قبل أن يستطيع قبول حقيقة أي مقولة، ويعمل ذكاؤه المدرب مثل آلة ميكانيكية، أما عقل الشرقي فهو على النقيض مثل شوارع مدنه الجميلة صوريًا يفتقر بشكل بارز إلى التناظر! ومحاكمته العقلية من طبيعة مهلهلة إلى أقصى درجة، ورغم أن العرب القدماء قد اكتسبوا بدرجة أعلى نسبيًا علم الجدلية (الديالكتيك) فأحفادهم يعانون بشكل لا مثيل له من ضعف ملكة المنطق، وغالبًا ما يعجزون عن استنتاج أكثر النتائج وضوحًا من أبسط المقدمات التي قد يعترفون بصدقها بدءًا. خذ على عاتقك أن تحصل على تقرير صريح للحقائق من مصري عادي، وسيكون إيضاحه بشكل عام مسهبًا ومفتقرًا للسلامة، ومن المحتمل أن يناقض نفسه بضع مرات قبل أن ينهي قصته، وهو غالبًا ما ينهار أمام أكثر عمليات التحقيق لينًا! ومنذ الآن يظهر الشرقيون والعرب سُذجًا غافلين محرومين من الحيوية والقدرة على المبادرة مجبولين على حب الإطراء الباذخ والدسيسة والدهاء والقسوة على الحيوانات، والشرقيون لا يستطيعون السير على الطريق أو الرصيف فعقولهم الفوضوية تعجز عن فهم ما يدركه الأوربي البارع بصورة فورية، وهو أن الطرق شُقت وبُنيت لكي يمشي عليها، والشرقيون عريقون في الكذب، وهم كسالى وسيئو الظن، وهم في كل شيء على طرف نقيض من العرق الأنجلو - ساكسوني في وضوحه ومباشرته ونبله».
وإزاء هذه الشهادة التي يقدمها اللورد كرومر عن مصر والشرقيين عمومًا، وهي في مجملها شهادة تعكس خبرته الطويلة بالحياة في مصر والشرق إبان المرحلة الاستعمارية، وسواء كانت صادقة أم تعكس الصلف الغربي والعنجهية الغربية بنظرتها الدونية إلى العرب والشرقيين عمومًا، ماذا نستنتج منها في ضوء ما نريد تحقيقه من تقدم حضاري في العصر الراهن؟
هل الأولى بنا أن نظل نلاحق خطى الغربيين وتحولاتهم الفكرية الصاخبة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة بتشوهاتهما القيمية والأخلاقية، أم نتوقف قليلاً لنتأمل أوضاعنا ورصد الواقع العربي وتحليل ما فيه من إيجابيات تتوافق مع العصر الراهن وتحقق لنا التقدم فيه، ورصد سلبياته المتعددة، ومن ثم المعرفة الدقيقة بسبل وطرق وآليات علاجها حتى نلحق بركب التقدم الحضاري والمشاركة الفاعلة فيه دون فقدان لهويتنا القومية والدينية؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه علينا الآن!
إن الجري وراء الموجات الفكرية الغربية وتقلباتها السريعة لن يفيدنا كثيرًا، بل على العكس فهو يغرقنا في تفاصيل حياتهم التي انحرفت كثيرًا في ظل حداثتهم وما بعد حداثتهم عن جادة الصواب، حيث مسخت إنسانية الإنسان لديهم، وأصبح في ظل ما بعد الحداثة إما إنسان فوضوي يسعى إلى تفكيك المعقول وإشباع الغرائز وإسقاط الوعي في بؤرة اللاوعي حيث تحول الرجل إلى شبه أنثى والأنثى إلى شبه رجل بدعوى المساواة والحرية! وشاعت الجنسية المثلية بل وإتاحة الزواج العلني بين الجنس الواحد! فأي غياب للعقل والقيم الإنسانية ذلك الذي يتشدق به الغربيون ويعيشونه! وأي قيم يدعوننا إليها الآن لنجري وراءها لاهثين دون وعي بالنتائج الكارثية التي ستقودنا إليها؟! أو إنسان آلي فاقد الإحساس بالآخرين وبعدالة قضاياهم مثل ما يحدث الآن من مواقف مخزية من القضية الفلسطينية وصمتهم المريب على ما يحدث من إبادة جماعية لشعب بأكمله رغم عدالة قضيته ولإقرارهم بذلك!
شهقات الوداع
الخلاصة أن الحضارة الغربية بقيمها التقليدية الحداثية الداعية إلى إعمال العقل والمنطق، والحريصة على التقدم العلمي لخدمة الإنسان والقيم الإنسانية العليا قد اندثرت وانتهى زمانها وما نشهده الآن إنما هو شهقات وداعها الأخيرة! ومن ثم علينا أن نعود لأنفسنا ولا نضيع جهدًا في اللهاث وراء آثار حضارة بل وراء مدنية بائدة، علينا أن نعود لأنفسنا أملاً في إعادة الثقة بالنفس من خلال اكتشاف مخزوننا الحضاري في مجال العلم والأخلاق والدين، ومن ثم نحدثه، نحدثه ونبني عليه لعله يكون فيه الشفاء والدواء البلسم لنا ولتلك المدنية الغربية البائدة البائسة التي تقود العالم البشري الآن إلى نهايته! ■