حقيقة كتب بغداد والمغول

حقيقة كتب  بغداد والمغول

إن الروايات التاريخية، حتى ضمن الزمن الواحد والمكان الواحد تختلف باختلاف الأشخاص وخلفياتهم وكيفية نظرتهم إلى الحدث التاريخي، فكيف إذا كان ذلك الحدث في زمن أطول أو مكان أوسع نقلته كتب المؤرخين. والتناقض والاختلاف في الحدث التاريخي الواحد ليس طعنًا بمصداقية الكاتب وأمانة المؤلف، ولكن لابد للدارس خصوصًا حول الأحداث التي تتعلق أو ترتبط بالهوية ومستقبل الأمة أن يطالع جميع المصادر التاريخية ويبتعد عن إصدار الأحكام المسبقة. 

 

كما لابد أن ندرك أن قلة المصادر التاريخية والضعف الطبيعي للروايات الموجودة لا تستطيع أن تحكم حكمًا جازمًا وقاطعًا في الحدث التاريخي حول صحته أو عدمها، أو أن تعطي حكمًا جازمًا بمصداقية ووطنية شخصية وخيانة شخصية أخرى، إيمان أحدهم أو كفر الآخر، فلا يمكن أن نكون حكمًا على حدث تاريخي، ونصدر مسبقًا الحكم بناء على رواية قد لا تكون صحيحة، أو قد يكون ناقل الرواية أخطأ في فهم الأحداث أو قد تكون الرواية نفسها ملفقة أو مدسوسة لهدف ما. يجب الاستماع إلى جميع أنواع التوضيحات والدفوعات من الطرفين عبر التاريخ، وبعد الاطمئنان يصدر الحكم غير المنحاز.

ﺇن المرور في هذه الطريق عبر الأزمنة ومن خلال ممرات ودهاليز مليئة بالألغاز أو الوقائع الجغرافية والتاريخية، لمشاهدة حقيقية للوقائع، هو من الأمور الصعبة جدًا إن لم نقل المستحيلة.

ومن هذه الأحداث التاريخية، واقعة سقوط بغداد في يد المغول عام 1258م/656هـ، وما لفت انتباهي هو مسألة حرق الكتب وإلقائها في نهر دجلة، وهو حدث تاريخي أصبح من الثوابت في العصور التالية لواقعة بغداد المشؤومة تلك. لكن السؤال هنا، هل حادثة إحراق الكتب وإلقائها في نهر دجلة وتحول مياه النهر إلى اللون الأسود من كثرة الكتب التي ألقيت به هي حادثة صحيحة، هل حقًا فعل المغول ذلك؟

 

الروايات التاريخية

لن أبدي رأيي الآن في تلك المسألة، ولكن دعونا ننقل أبرز ما أورده بعض المؤرخين وعبر التسلسل الزمني حول هذا الحدث، لنستنتج إذا كانت هذه الواقعة دقيقة:

- المكين جرجس بن العميد (ت 672هـ): «... وأمر هولاكو أن تحرق مدينة بغداد وأطلقت فيها النيران. فتقدم إليه كتبوغا (أحد قادة هولاكو) وقال إن هذه مدينة عظيمة وهي كرسي العراق فإذا أبقيتها حصل لك منها أموال كثيرة في كل سنة، وإذا خربتها عدمت نفعها وما تعود تعمر أبدًا، فأمر أن تطفأ النيران ويرفع السيف وأمن من بقي من أهلها وثبت فيها النواب ورحل عنها...».

- ابن الساعي (ت 674هـ): «... ويقال إنهم (المغول) بنوا اسطبلات الخيول وطوالات المعالف بكتب العلماء عوضًا عن اللبن...».

- محمد بن علي بن طبا طبا (ت 709هـ): «وتقحم العسكر السلطاني (هولاكو) هجومًا ودخولًا فجرى من القتل الذريع والنهب العظيم، والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة فما الظن بتفصيله...».

- ابن الفوطي (ت 723هـ): «... وأحرق معظم البلد (بغداد) وجامع الخليفة وما يجاوره واستولى الخراب على البلد...».

- الصفدي (ت 764هـ): «... وفي ترجمة نصير الدين الطوسي: فابتنى بمدينة مراغة قبة ورصدًا عظيمًا واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد...».

- ابن كثير (ت 774هـ) وعن العام 657هـ: «عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ونقل إليه شيئًا كثيرًا من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد...».

- ابن خلدون (ت 808هـ): «... واستولوا (المغول) من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يحصره العدد والضبط وألقيت كتب العلم التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملة بزعمهم لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن واعتزم هولاكو على إضرام بيوتها نارًا فلم يوافقه أهل مملكته...».

- القلقشندي (ت 821هـ): «... خزانة الخلفاء في بغداد، فكان فيها من الكتب ما لا يُحصى كثرة ولا يقوم عليه نقاشه، ولم تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد، وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر ملوك بغداد، فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب، وذهبت معالمها وأعفيت آثارها...».

- المقريزي (ت 845هـ) في السلوك وعن أحداث العام (657هـ): «... وفيها بنى هولاكو الرصد بمدينة مراغة، بإشارة الخواجا نصير الدين الطوسي، وهو دار للفقهاء والفلاسفة والأطباء، بها كتب بغداد شيء كثير وعليها أوقاف لخدامها...».

- ابن تغري بردي (ت874هـ): «... وخربت بغداد الخراب العظيم، وأحرقت كتب العلم التي كانت بها من سائر العلوم والفنون التي ما كانت في الدنيا، وقيل إنهم بنوا جسرًا من الطين والماء عوضًا عن الآجر، وقيل غير ذلك...».

- عبدالملك بن حسين العصامي المكي (ت 1111هـ): «... ونهبوا الخزائن والأموال وأخذ هولاكو جميع النقود وأمر بحرق الباقي ورمى كتب مدارس بغداد في دجلة وكانت لكثرتها جسرًا يمرون عليها ركبانًا ومشاة وتغير لون الماء بحبرها الأسود...».

ودعونا ننتقل إلى ابن بطوطة في زيارته لبغداد عام 727هـ، وقد أورد أن الجانب الغربي من بغداد أثناء زيارته «هو الآن خراب أكثره»، أما الجهة الشرقية من بغداد فيذكر: «حافلة الأسواق عظيمة الترتيب»، ويتحدث عن المدرسة النظامية والمستنصرية التي بقيت كما هي: «... وأعظم أسواقها سوق يعرف بسوق الثلاثاء... في وسط هذا السوق المدرسة النظامية العجيبة التي صارت الأمثال تضرب بحسنها وفي آخره المدرسة المستنصرية... وبها المذاهب الأربعة لكل مذهب إيوان فيه المسجد، وموضع التدريس...».

نرى أن ابن بطوطة شاهد الجانب الغربي من بغداد قد خرب: «بعد أن كان أول قسم فيها ظهر به العمران»، إلا أن جانبها الشرقي بقي على ما هو عليه بالمدارس الأساسية في بغداد والمعروف بأن الكتب كانت موجودة بالمدارس والأوقاف. 

وفي ذكر الأوقاف يقول القلقشندي في صبح الأعشى: «قال الحكيم نظام الدين الطياري، وأوقافها جارية في مجاريها (أوقاف بغداد) لم تعترضها أيدي العدوان في دولة هولاكو ولا فيما بعدها. بل كل وقف مستمر بيد متوليه، ومَن له الولاية عليه، وإنما نقصت الأوقاف من سوء ولاة أمورها لا من سواها...».

كما أن ابن الفوطي كان قد أشار إلى سوق الكتب في بغداد سنة 722هـ وهو لا يزال على ما هو عليه. 

ويتفق الصفدي وابن شاكر الكتبي والمقريزي وابن كثير على أن نصير الدين الطوسي بنى مرصده في مراغة ونقل إليه الكثير من كتب بغداد، كما أورد ابن كثير: «... نقل إليه (الرصد) شيئًا كثيرًا من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد...»، ولم يذكر شيئًا عن حرق الكتب أو إلقائها في نهر دجلة إلا عند ابن تغري بردي (ت 874هـ) عندما أورد حرق كتب بغداد، وتحول الجسر من الطين والماء عنده إلى جسر من الكتب عند عبدالملك بن حسين العصامي المكي (ت 1111هـ) وهو متأخر، الذي غالى في نقل الأحداث لتصبح الكتب التي ألقيت في نهر دجلة - حسب زعمه - جسرًا «يمرون عليها ركبانًا ومشاة» وأضاف إليها: «وتغير لون الماء بحبرها الأسود»!!

وإذا عدنا إلى ابن الساعي الذي كان في بغداد حينها ومعاصرًا لحادثة سقوط المدينة في أيدي المغول يقول: «يقال إنهم بنوا اسطبلات الخيول وطوالات المعالف بكتب العلماء عوضًا عن اللبن»... وهو بذلك يشكك في ذلك، فلماذا لا يجزم بل يشكك؟! وهو ممن كانوا تعاقبوا على خزانة المكتبة في المدرسة المستنصرية مع ابن الفوطي وغيرهم.

ونجد عند إبن الفوطي في «مجمع الآداب في معجم الألقاب» في ترجمة عزالدين بن أبي حديد قوله: 

«ولما أخذت بغداد كان (ابن أبي حديد) ممن خلص من القتل في دار الوزير مؤيد الدين مع أخيه موفق الدين، وحضر بين يدي المولى السعيد خواجة نصير الدين الطوسي، وفوض إليه أمر خزائن الكتب ببغداد مع أخيه موفق الدين والشيخ تاج الدين علي بن أنجب (ابن الساعي)... ولم تطل أيامه فتوفي... في جمادى الآخرة من سنة ست وخمسين وستمائة». وهو بذلك يؤكد وجود الكتب وتوزيع المسؤوليات من قبل السلطة الحاكمة باسم المغول حفاظًا عليها.

وبالتالي فإن المصادر الأساسية لم تأتِ على ذكر أي سوء أصاب كتب أوقاف ومدارس بغداد، بل شككت حتى في مصداقية أن تكون تحولت إلى اسطبلات ومعالف للخيول، والآخرين أكدوا على أن جزءا من هذه الكتب أمر بنقلها نصير الدين الطوسي إلى مرصده في مراغة، كما أن ابن بطوطة أكّد أيضًا من خلال زيارته إلى بغداد رؤيته للمدرستين الأبرز والتي تحتوي على أغلب الكتب داخل بغداد ولم تمس بسوء، بل وأكثر من ذلك فإن القلقشندي اعتبر أن الأوقاف كانت محمية من قبل السلطة التي مثلت هولاكو: «ولم تعترضها أيدي العدوان... إنما نقصت الأوقاف من سوء ولاة أمورها لا من سواها...» نكون بذلك شككنا بصحة رواية ابن خلدون وابن تغري بردي غير المعاصرين للحدث التاريخي، ويحق لنا أن نشك في مصداقية رواية عبدالملك بن حسين العصامي المكي، لأنها أتت بفرادتها مما يدل على عدم مصداقيتها بالكامل... فهي تخالف ما سبقها وتتفرّد في المغالاة بشكل غير معقول!!

 

علاقة المغول بالمشرق العربي

لابد في الختام من أن نميز بين عصر وفعل جنكيزخان وعصر وفعل هولاكو، فجنكيزخان عُرف بالبطش وبالتخريب والتدمير والحرق لما كان يقع تحت يديه من مدن وضياع المسلمين وغير المسلمين، أما هولاكو فلا يوجد روايات تؤكد أنه كان على نفس طباع جده، أو استخدم نفس الأسلوب في اقتحامه للمدن الإسلامية وإن فعل ما فعل بجزء من بغداد، بل نجده يتواصل مع الحكام المسلمين ويقف العديد منهم معه إما خوفًا منه أو تقربًا وطمعًا في جاه أو سلطان، لذلك كان جيش هولاكو حول بغداد خليطًا من مغول ومسلمين من مدن كالموصل مثلاً.

وهو ما يدل على أن الأرض كانت خصبة للمغول هذه المرة المدعومين من حكام المنطقة ضد الخلافة العباسية الضعيفة والمهترئة. وأن علاقة المغول بالسلطات المحلية كانت جيدة مما ساهم بانتصارهم الساحق هذا. وهو أمر قد تكون له أسبابه، منها أن قراقورم عاصمة المغول قد شهدت زيارات العديد من ممثلي حكام المسلمين والمسيحيين تعلن التأييد والدعم للحكم المغولي خوفًا وطمعًا في إرضائه، وتقربًا من السلطة التي فرضت نفسها على المنطقة نتيجة لضعف حكام المسلمين وتفرقهم.

فقد شهد هذا البلاط وفودًا تداعت من مختلف المناطق والأقاليم والدول المجاورة لدولة المغول، ومنها موفد أمير حلب الأيوبي الملك الناصر، وبدر الدين لؤلؤ حاكم الموصل، وقاضي قضاة بغداد عن الخليفة العباسي نفسه، بالإضافة إلى رسل الإفرنج وقلاع الموت الإسماعيلية محمّلين بالهدايا القيّمة.

ومن الملاحظ، أنه وأثناء توجه هولاكو نحو بغداد، أسرع حكام الجزيرة الفراتية إلى تقديم الولاء والطاعة للقادة المغول، خوفًا من وقوعهم فريسة لهم، وحماية لما في أيديهم من الأملاك التي كانوا يحكمونها تحت شعارات مختلفة، ومنهم الملك الكامل صاحب ميافارقين، والملك المظفر الأرتقي ابن صاحب مدينة ماردين وقلعتها، والصالح إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.

وقد فتحت طريق ديار الجزيرة الفراتية أمام هولاكو للوصول إلى بغداد، كما استقبل هولاكو الوفود بعد سقوط بغداد ومنها وفود دولة سلاجقة الروم والملك الناصر يوسف صاحب حلب ودمشق.

كما ساهم أمراء وملوك المنطقة في حصار هولاكو لمدينة ميافارقين الثائرة والتي حوصرت لعامين متتاليين. وساهم في حصارها إضافة إلى المغول قوات من الموصل وماردين وقوات ساهم بها أمراء الجزيرة الفراتية الذين تهافتوا على خدمة هولاكو، بالإضافة إلى قوات الملك هيثوم الأرمني.

وبذلك حكم المغول العراق ولم يستطيعوا من البقاء في سورية نتيجة لمواجهة المماليك لهم، وتحولت أملاكهم إلى إيلخانية على رأسها حكام سلالة هولاكو فترة من الزمن، وكان لهم دور بارز في تاريخ المنطقة، وحافظوا على وظائف الدولة وعلى مكوناتها كما كانت زمن العباسيين، وولوا عليها أتباعًا لهم من أبناء البلاد الأصليين. وساهموا في حركة العمران والتطور داخل أملاكهم الجديدة على كافة الأصعدة من إدارية واقتصادية، كما كانت علاقاتهم مع السكان المحليين تختلف باختلاف الحاكم، إلا أنها بشكل عام كانت علاقة حاكم بمحكوم، حتى تحول هؤلاء الإيلخانيون إلى الإسلام ■