واقع الثقافة العربية لا يعالج بالقمم

واقع الثقافة العربية لا يعالج بالقمم

هل الثقافة العربية بحاجة إلى قمة؟ وهل نجحت القمم السياسية التي يرأسها أصحاب الحل والعقد من الرؤساء والملوك في تحقيق الحد الأدنى من التضامن وإعادة التأثير العربي في القضايا المحلية والعالمية إلى ما كان عليه قبل عقدها؟ كدت أتفهم لو أن الذين تنادوا إلى القمة المشار إليها قد اختاروا لها تسمية غير القمة مثل «اللقاء»، أو«الملتقى» ليتدارسوا فيه وضع الثقافة العربية، وحال إناء هذه الثقافة وهو اللغة العربية، وكيف تتعرض للتخريب الرسمي والشعبي العربيين وتنال من الطعنات المتلاحقة ما يفوق ما كانت ترمي إليه كل محاولات التخريب التي قام بها بعض الأجانب في وقت من الأوقات لكي يعزلوا العرب عن لغتهم الجامعة وتاريخهم المشترك وتحويل الوطن العربي إلى كيانات طائفية ومذهبية وعرقية وإلى بؤرة صراع لا يتوقف.

إنني لا أشك في النوايا التي رافقت الدعوة إلى قمة للثقافة ولا في القصد الحَسَنْ الكامن وراء تلك الدعوة، لكنني أتساءل: ما الذي جعلهم يختارون اللقاء المزمع القيام به مصطلحًا فضفاضًا فارغًا من محتواه كمصطلح «القمة» وما يبعثه في النفوس من تداعيات سلبية لدى أغلبية المثقفين، ممن يرون في هذه التسمية المتعالية ضربًا مسبقًا لما يمكن اعتباره محاولة جادة لوضع حد لما تعاني منه الثقافة العربية من مشكلات ومن حالات ضمور وإقصاء شبه تام عن دورها الحقيقي في المحافظة على روح الأمة ورفع وتيرة الإبداع في مجالات مختلفة بالرغم من مظاهر الاحتفاء التي تتجلى في كل الأقطار العربية تقريبًا بوزارات للثقافة ترعى - ولو بدور شكلي - هذا المكون الأهم من مكونات الأمة.

لقد انقلب منذ وقت مبكر السياسي على الثقافي في الوطن العربي، وانقلبت السياسة على الثقافة وجاءت الأوضاع العربية الراهنة بما شهدته من انتكاس قومي شامل ونجح النظام العربي الراهن المتعدد الرءوس في وضع أحكام مسبقة على الثقافة تجعلها في حالة إقصاء وتهميش، وصار لا ينظر إليها على حقيقتها بوصفها جزءًا لا يتجزأ من منطلقات النهوض. والأحاديث التي كانت تدور في الخمسينيات والستينيات عن الوحدة السياسية ثم خفتت لترتفع مكانها أحاديث وشعارات الوحدة الاقتصادية التي لم يرافقها على مستوى المسئولين العرب.. الحديث أو الإشارة إلى وحدة ثقافية عربية. ربما لأن الحرية في طليعة مفردات الثقافة وما يرتبط بهذه المفردة من النهوض بالوعي الاجتماعي والسياسي. فهل نتعشم بأن الدعوة الحالية الرامية إلى عقد قمة ثقافية بمبادرة من الجامعة العربية التي تمثل الأنظمة بداية إحساس ولو متأخر بأهمية الثقافة؟

وفي هذا الصدد، وبالرغم من يقيني بأنه لم يبق شيء لم يقله الدارسون عن واقع الثقافة العربية وإشكالياتها الراهنة، فإنني أغتنم دعوة «العربي» إلى المشاركة في الرأي والتعليق على فكرة القمة المنتظرة لأضع بين يدي القارئ الملاحظات الآتية باختصار:

ثقافة أم ثقافات؟

لعل السؤال المهم الذي يطرحه واقع ثقافتنا العربية هو: هل نعيش في المرحلة الراهنة ثقافة عربية واحدة، أم مجموعة من الثقافات؟ ولا حرج من القول إننا نعيش مجموعة من الثقافات أبرزها: ثقافة متقدمة لكن فعلها العملي غير ملموس على مستوى التغيير والتطور والتأثير في الشارع. وثقافة وسطية توفيقية تحاول القفز على كمائن السلطة والأعراف والتقاليد الموروثة. وثقافة سلفية منكفئة على نفسها، تستمد من الماضي مرجعيتها ومفرداتها التي تظلم الماضي بقراءة مشوهة من جهة، وتسيء إلى الحاضر من جهة أخرى، وليس فيها إطلاقًا ما يشير إلى المستقبل، لأنها لا تفهم احتياجاته ولا تدرك مستجداته، فتقف بمواجهة الجديد العصري وتحاول تضييق هامش الحياة والحرية الفكرية تحديداً في مصلحة أفكارها العقيم، ثم ثقافة رابعة هي ثقافة التماهي والذوبان في الآخر، ولعلها أكثر خطورة من أية ثقافة وسطية أو سلفية لأنها تتجه نحو محو الثقافة القومية، وقد لا تنجح معها أية محاولة لإرجاعها إلى الثقافة الأم وإلى أحضان الهوية القومية.

وإذا كان هناك أكثر من أسلوب في الحفاظ على الهوية القومية وحماية مكوناتها فإن الثقافة دون أدنى ريب هي الأسلوب الأمثل والجزء الأقوى في تحدي المخاطر، لأنها الأقدر على التسرب في ثنايا النفس إلى أن تصبح جزءًا لا يتجزأ من مخزونها المعرفي والروحي والأدبي. ومهما كانت الإغراءات التي تبعث بها ثقافة الآخر - أو بالأحرى ثقافاته - تظل الثقافة العربية في بعدها القومي والعقائدي أكثر حضورًا في الضمير والوجدان وتظل رموزها ودلالاتها ثابتة في الوعي لاصقة بالمشاعر، والشعوب التي دفعت ثمنًا باهظًا من استقلالها وسيادتها، وحريتها تحت شعار العولمة الثقافية، هي في الأساس تلك التي قبلت بأن تفرّط في هويتها الثقافية، وحين تتداعى جدران المقاومة، لاسيما حين لا تكون الثقافة رافعة جذرية وضمن رؤية استراتيجية، فلن تستعصى على المحو أو التهميش.

وهنا يبرز سؤال آخر هو: ما الذي يدفع أفرادًا أو جماعات إلى التنكر لثقافتهم الوطنية والقومية والتهافت على ثقافة الآخر؟ وهل يجد هؤلاء أنفسهم حقاًً في ثقافة هذا الآخر؟ والإجابة تبقى مفتوحة لأشكال من البحث، ولا يكفي فيها القول بضعف الانتماء، ولا يدخل مع هؤلاء ذلك النفر من المعجبين بثقافة الآخر، والذين يحاولون إقامة صلة وثيقة بين ثقافتهم الأم والثقافة المكتسبة كقيم إنسانية، انطلاقًا من حقيقة التأكيد على تجاوز ما يقال عن النقاء الثقافي الذي كان وسيبقى خرافة رافقت كثيرًا من الثقافات، وقد عملت الثقافة العربية في عصور ازدهارها على كسر هذه الخرافة من خلال ما أقامته من علاقات وثيقة بسائر الثقافات الحية، أو التي كانت حية في زمن من الأزمان، كالثقافة اليونانية والفارسية والهندية والصينية.

الخوف من الآخر

ولم يبدأ الخوف يتسرب إلى الثقافة العربية من الآخر إلاَّ في عصور الانحطاط، وبعد أن ضعفت مقوماتها الأساسية وانحطّت وعادت لتستكين في عزلتها حتى بداية العصر الحديث عندما بدأت مدارس الإحياء المختلفة في إعادة الصلة بالجوانب المشرقة من الموروث انطلاقاً مما وصلت إليه الثقافة العالمية المعاصرة من تطور. ومهما اختلفت المفاهيم وتعددت المواقف فإن هناك ما يشبه الإجماع على أن الثقافة بمفهومها الشامل ليست وليدة مرحلة من المراحل التي تمر بها الأمم، وإنما هي نتيجة التفاعل والوعي المتبادل عبر القرون. وبقدر ما تتمتع به ثقافة شعب ما بقدر من الخصوصيات والظواهر الثابتة فإنها تظل محكومة بقانون التطور والاستلاف من الثقافات الأخرى شرط ألا يفقدها هذا الاستلاف خصوصيتها، أو يعمل على اقتلاعها من جذورها.

إن ميزة الثقافة القومية أية ثقافة قومية أنها لا تجعل أبناءها يقبلون على أية تجربة جديدة في الحياة من الفراغ أو من نقطة الصفر، وإنما يقبلون عليها وهم محمّلون بما تعلموه واكتسبوه في حياتهم من ثقافتهم الأم، ومن إدراكهم أن الثقافة ليست لغة وأدبًا وفنًا وفكراً، وإنما هي هوية الشعب الذي خرجت منه وتنتمي إليه وكوّنت شخصيته. كما أن صمودها في وجه العواصف إنما هو صمود لهوية الشعب ودفاع عن شخصيته، وتاريخه. ومن حسن حظنا نحن العرب أن الثقافة هي الرابط القومي الذي لا يمكن له أن يأخذ بعدًا إقليميًا، فمكوناتها تأبى التجزئة وترفض أن تكون قطرية بأي معنى من المعاني. وعندما تحدث الدكتور طه حسين في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي عن الثقافة المصرية لم يكن يسعى إلى سلخ مصر عن ثقافتها العربية والإسلامية، كما لم يكن يهدف إلى عزل مصر عن محيطها العربي الذي من دونه تفقد مصر دورها وريادتها، وإنما كان يهدف إلى التواصل مع الآخر وثقافته.

غول العولمة

وهنا يأتي دور الحديث عن العولمة، هذا الغول الذي يتربص بالثقافات وينتظر تحقيق انتصاراته الأولى على اللغة التي تُكْتَب بها هذه الثقافات معتمدًا على السوق وما تفرزه الاحتياجات البشرية من ضرورات البقاء على قيد الحياة قبل أي شيء آخر. وهكذا، عن طريق معدة الإنسان، وعن طريق الإغراء بالالتحاق السريع والناجز بعالم فاقد الرؤية والهوية، تسعى العولمة إلى الهيمنة على اقتصاد الشعوب الضعيفة كمدخل إلى تدمير مكونات هويتها، وإذا انهار الجدار الثقافي كما سبقت الإشارة- فلا شيء يمنع من تفتيت الشعوب وتحويلها إلى بؤر للتناحر والخصومات. ومن نافلة القول إن هذا الذي يجري في وطننا العربي وحولنا، وفي البعيد منا، إنما هو مقدمةٌ عمليةٌ لزلزال العولمة وما يعدُ به الشعوب من مخاطر آنيّة ومستقبلية.

ولعل ما يخيف أكثر في موضوع عولمة الثقافة أن أغلب السياسيين في العالم الثالث لا يرون من العولمة سوى وجهها الرأسمالي، ولا ينظرون إلى خطر تمددها الثقافي. وكان يجدر بالمثقف الاقتصادي، وقبله بالحاكم السياسي، التنبه إلى المخاطر التي تتعرض لها الثقافة، لا بوصفها أدبًا وفكرًا وفنًا كما سبقت الإشارة وإنما بوصفها هوية جامعة تحدد موقع البشر من أنفسهم ومن العالم. وفي حين بدأت شعوب صغيرة - لا لغات معروفة لها ولا ثقافة تحرص عليها - تغادر ساحة الهيمنة وتبدأ في تكوين مقوماتها الوطنية والقومية كالكيان الصهيوني مثلاً - إذا بنا نحن العرب ندخل مجددًا في دائرة التبعية والإذلال، ونتحول إلى فريسة لنظام عالمي تهمه مصلحته بالدرجة الأولى والأخيرة وليس له ما يخسره في حرب الثقافات التي لا تبدو واضحة على الشاشات الصغيرة، ولا تدركها أعين المواطنين الباحثين عن لقمة العيش.

أخيرًا، إن ثقافتنا المريضة لا تحتاج إلى القمم والمستشفيات، قدر حاجتها إلى مواقف حقيقية وإيجابية إزاء الشأن الثقافي بعامة، ومرضها الراهن لا يحتاج إلى النهوض من السبات، أو التجدد، كما كان الحال في بداية العصر الحديث، قدر حاجتها إلى توحيد الجهود واستنفار الطاقات الفكرية والإبداعية لإحياء فكرة وحدة ثقافية عربية تقوم على التنوع والتعدد، والإقرار بشرعية الاختلاف حتى تسهم في صياغة وجدان الأمة، وأن يتم ذلك في رحاب الجامعات العربية، لا «الجامعة العربية»، وبإسهام فاعل من وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء مع مشاركة الدول العربية عن طريق وزارات الثقافة في الأنشطة الهادفة إلى إنعاش حال الثقافة العربية ورسم معالمها المستقبلية وذلك أضعف الإيمان.

 

 

 

عبدالعزيز المقالح