تاجر البندقية ماركو بولو
كرنفال البندقية لعام 2024، اتجه بنا شرقًا على خطى الرحالة الإيطالي ماركو بولو. فقد احتفل أهالي البندقية هذا العام، بالذكرى الـ 700 لوفاة أشهر الرحالة الإيطاليين. تحولت المدينة بأكملها إلى أرض تتشابك فيها حضارات الشرق والغرب، واسترجع معنا ذكرياته المثيرة.
الرحالة ماركو بولو لم يكن أول الأوربيين الذين وصلوا إلى الشرق عبر طريق الحرير في القرن الثالث عشر، لكن لا تزال رحلاته التي دونها في كتابه «العالم الأعجوبة»، مثيرة للكثيرين، وشكلت نقطة تحول في ثقافة الغرب عن الشرق، وألهمت العديد من المستكشفين والرحالة والمؤلفين.
انطلق «ماركو»، الشاب الإيطالي من مدينة البندقية لاكتشاف أماكن تجارية جديدة، سافر برًا وعاد إليها بحرًا، زار أراضي مجهولة واكتسب ثروة من المعرفة من خلال رحلات متعددة عبر فيها الحدود والثقافات وواجه الكثير من الأخطار والمحن. وما زالت حكاياته وملاحظاته الدقيقة عن شعوب الشرق موضع نقاش حتى هذا اليوم.
المدينة العائمة
البندقية «المدينة العائمة»، هي من أكثر المدن الاستثنائية في العالم. ساحرة، أعشقها في كل فصولها وأفضلها عن باقي المدن الإيطالية. المدينة متاهة مبهرة من القنوات والجسور التي تصطف على جانبيها المباني والقصور والكنائس المبنية على الطراز القوطي. لكن لتجربة أجواء المدينة بشكل مختلف، فإن وقت احتفال كرنفال البندقية في فبراير من كل عام هو المناسب. تتغير المدينة بشكل كبير، وتمتلأ الساحات بالعروض الموسيقية والفنون المتنوعة نهارًا والألعاب النارية ليلًا، والأزياء والأقنعة الملونة المزركشة التي تضفي الغموض على هوية أصحابها لتتحول المدينة إلى عوالم مختلفة مليئة بالخيال.
المدينة الأسطورية
ومع ذلك المدينة ساحرة في الصباح الباكر وفي المساء، عندما يغادر المسافرون العابرون وسفن الرحلات البحرية ويخيم الهدوء والسكينة. أفضل رؤيتها دائمًا من الأعلى، من خلال تسلق برج الساعة في ساحة سان ماركو، وكنيسة القديس مارك، وبرج سان جورجيو، وأيضًا سكالا كونتاريني ديل بوفولو. كما أن ركوب القوارب الخشبية على القناة الكبرى في المساء هو أحد الأشياء التي لا يمكن أن أفوّتها عند زيارة المدينة. ولا شيء أروع من المشي في الصباح الباكر في أجمل جزر البندقية مورانو (جزيرة صانعي الزجاج)، وجزيرة بورانو (الجزيرة الملونة).
تعتبر البندقية أعجوبة هندسية، بقنواتها المعقدة، التي تتكون من 116 جزيرة، و177 قناة، و423 جسرًا، لكن السؤال الأول الذي بحثت له عن إجابة في أول زيارة لي للبندقية... ما الذي دفع الإيطاليين إلى العيش في هذا المكان الذي تغمره المياه من كل مكان؟
أَول مَن سكن هذا المكان هم الصيادون الفارون من جحيم الحروب في القرن الخامس. هربوا من مساكنهم في المناطق القريبة إلى الجزر الصغيرة، فوجدوها ملجأً آمنًا للاختباء، على الرغم من أن هذه الجزر مستنقعات غير مستقرة ولا تبدو مكانًا جيدًا للعيش فيه، إلا أنها كانت البداية لبناء واحدة من أشهر المدن في العالم.
تعد مراحل بناء مدينة البندقية من القصص المدهشة، فعندما وصل المستوطنون إلى الجزر في أوائل القرن الخامس الميلادي، كانوا بحاجة إلى مساحات كبيرة وأساسات قوية للعيش فوقها، فتم بناء المباني باستخدام أكوام خشبية طويلة تم دفنها في عمق الأرض بجانب بعضها البعض بشكل متلاصق. وتم استخدام خشب البلوط والصنوبر، وهو شديد المقاومة للماء. وبالرغم من أن عادة ما يؤدي ذلك إلى تعفن الخشب، لكنها بقيت في حالة جيدة لأكثر من 1000 عام، ويكمن السر في أن الخشب لا يمكن أن يتعفن، إلا عندما يكون به هواء وماء معًا، لذا فإن نقص الأكسجين في الأرض الموحلة أنقذ الخشب من عوامل التعرية والتلف. وحملت مياه البحيرة كمية كبيرة من الرواسب والتربة التي امتصها الخشب، وامتلأت الفراغات بينهما بالصخور والحجارة فأدت هذه الرواسب بدورها إلى تسريع معدل تحجر الخشب، كما أثرت كيفية وضع الأكوام بشكل كبير على مدة بقاء الهياكل.
تأسست المدينة بهذا الشكل عام 697، بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية. وخلال العقود التي تلتها، أصبحت البندقية مدينة تجارية وصناعية غنية، تشتهر بصناعة الزجاج والأدوية والسفن بالإضافة إلى بيئتها الثقافية المفعمة بالحيوية.
هيمنت البندقية على طرق التجارة على البحر الأبيض المتوسط، من آسيا إلى إفريقيا، وأصبحت موطنًا لطبقة التجار الأثرياء تحكمها أقلية من الأرستقراطيين. كان دوق البندقية أهم كيان سياسي ويتم انتخابه من قبل برلمان ولاية المدينة، وكان على الدوق أن يعيش في قصر دوكالي، الذي يعتبر الآن من أهم الأماكن السياحية وأبرز معالمها المبنية على الطراز القوطي، ثم بدأ تراجع البندقية كمنطقة بحرية قوية مع افتتاح طرق تجارية جديدة في المحيط الأطلسي في القرن الثامن عشر.
الأخوان بولو
ولد ماركو بولو في هذه المدينة عام 1254. كانت عائلته ثرية تمتهن التجارة، ذهب والده نيكولو وعمه مافيو في رحلة تجارية طويلة إلى القسطنطينية، وبعد الإقامة فيها لعدة سنوات، أدرك الأخوان أن الوضع السياسي أصبح محفوفًا بالمخاطر فغادرا إلى مدينة سولدايا الساحلية عام 1260، وعملوا في تجارة الحرير والأحجار الكريمة والفراء والتوابل. وبعد عام اندلعت الحرب الأهلية، ولم يتمكنوا من العودة عبر نفس الطريق، فقرروا الهروب شرقًا. وهكذا انتهى بهم الأمر إلى قضاء ثلاث سنوات في بخارى في أوزبكستان، غير قادرين على الانتقال إلى أي مكان آخر. وبعد عام وصل سفير مغولي إليهم، وطلب من الأخوين الذهاب لزيارة قوبلاي خان، حفيد جنكيز خان، الذي كان يسيطر على مساحة كبيرة من آسيا ومسؤولًا عن إعادة فتح طريق تجاري بطول 5000 ميل بين أوربا وآسيا الذي يطلق عليه طريق الحرير. في هذا الوقت كانت الإمبراطورية المغولية التي أسسها جنكيز خان منقسمة إلى أربع ممالك، وهي مملكة مغول القبجاق في شمال البحر الأسود ومملكة مغول فارس، ومملكة آسيا الوسطى ومملكة الخان الأعظم وموطنها الصين، وجميع هذه الممالك تحت سيطرة الخام الأعظم قوبلاي.
سافر الأخوان إلى الشرق، عبر سمرقند، ثم عبر صحراء غوبي الخطرة، مرورًا بتورفان وهامي ودونهوانغ، ووصلوا أخيرًا إلى بكين في عام 1266. كان قوبلاي خان، الخاقان الخامس للإمبراطورية المغولية مهتمًا بمقابلة الأجانب الغربيين. أراد أن يعرف عن أوربا، وعن البابا والكنيسة الرومانية. وبعد قضاء عام في الصين، طلب منهم قوبلاي خان السفر إلى أوربا وتسليم رسالة منه إلى البابا كليمنت الرابع. وفي هذه الرسالة طلب الخان من البابا أن يرسل له مئة رجل من العلماء لتعليم شعبه المسيحية والعلوم الغربية، كما أراد من البابا أن يحضر له من مدينة القدس الزيت من مصباح القبر المقدس في كنيسة القيامة. ولحماية عائلة بولو أثناء رحلة العودة، منحهم قوبلاي خان جواز سفر دبلوماسيًا فاخرًا عبارة عن لوح ذهبي منقوش بطول قدم وعرض ثلاث بوصات، مما أعطى الإخوة حقوقًا كبيرة في الحصول على السكن والمؤن والخيول والمرشدين في جميع أنحاء الأراضي التي يسيطر عليها الخان. استغرق الأمر من الأخوين بولو ثلاث سنوات للعودة إلى البندقية، ووصلا في عام 1269.
رحلة ماركو الأولى
في عام 1271، بدأت رحلة ماركو بولو الأولى، وكان عمره 17 عامًا عندما غادر مدينة البندقية بصحبة أبيه وعمه. توجهوا أولًا إلى ميناء عكا في فلسطين، للحصول على الزيت المقدس من كنيسة القيامة، ثم أبحروا إلى خليج الإسكندرية التي اشتهرت آنذاك بتجارة التوابل والحرير، ومنها سافروا عن طريق البر إلى مدينة باكو في أذربيجان، ثم اتجهوا إلى بغداد.
أبدى ماركو إعجابه بما رآه هناك ودون تفاصيل رحلته في بغداد في كتابه، وبالرغم من التدمير الذي حل بالمدينة أثناء الغزو المغولي لم تغير معالمها الجميلة، حيث ذكر الرحالة في أنها «أجمل وأوسع مكان رآه في هذا الجزء من العالم».
واصلت عائلة بولو طريقها على ظهر الجمال، إلى مدينة هرمز الساحلية الفارسية، وبعد فشلهم في العثور على أي قوارب سلكوا بدلًا من ذلك سلسلة من طرق التجار البرية التي تُعرف باسم طريق الحرير. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، ساروا عبر الصحاري والممرات الجبلية العالية وغيرها من الأراضي الوعرة، والتقوا بأشخاص من مختلف الأديان والثقافات على طول الطريق. وفي عام 1275، وصلوا إلى قصر قوبلاي خان الضخم في بكين لتسليمه رسالة البابا والزيت المقدس. كتب ماركو بالتفصيل عن أول لقاء له معه في كتابه: «لقد ركعوا أمامه وسجدوا بكل تواضع، واستقبلهم بإكرام وطرح العديد من الأسئلة حول أحوالهم بعد رحيلهم، ثم قدموا الرسائل التي أرسلها البابا والزيت المقدس الذي سر به وثمنه كثيرًا. عندما رآني الخان العظيم، سأل «من هذا؟». قال والدي: «سيدي، إنه ابني ورجلك المخلص». قال الخان: «إنه مرحب به». كانت الحفاوة التي رحب بها الخان العظيم وكل حاشيته بوصولنا عظيمة».
رحلة الصين
كان ماركو قادرًا على التحدث بعدة لغات مختلفة ومنها المغولية التي يتقنها جيدًا، أرسله الخان في عدد من المهام الخاصة إلى أماكن مختلفة في الصين وبورما والهند، وهي أماكن نائية لم يكن من الممكن أن يزورها أي أوربي حتى القرن التاسع عشر. أعجب قوبلاي خان بماركو وعينه في مناصب عليا في إدارته في حين أن والده وعمه تفرّغا للتجارة. أظهر ماركو خلال عمله مهارة عالية جدًا لدرجة أثارت إعجاب ودهشة الخان، ثم عيّنه حاكمًا على ولاية ينغ تشاو. وكان ماركو أول أوربي يحظى بمكانة رفيعة في بلاط الإمبراطورية المغولية.
العودة إلى البندقية
عندما كان قوبلاي خان في أواخر حياته، بدأت عائلة بولو تقلق بشأن ما سيحدث لهم عند وفاته بعد أن جمعوا كميات كبيرة من الذهب والمجوهرات، وهل سيتمكنون من إخراجها من الصين دون حماية الخان. وفي نفس الوقت، كان الخان مترددًا في السماح لهم بالرحيل.
وبعد سنوات عديدة من السعي للإعفاء من الخدمة، حصلت عائلة بولو على إذن من قوبلاي للعودة، عندما طلب منهم مرافقة أميرة مغولية متجهة بحرًا من مملكته للزواج من أرغون خان مملكة فارس، ووعد آل بولو قوبلاي بالعودة مرة أخرى بعد أن يقضوا فترة بالبندقية. رافقت سفينة عائلة بولو أسطول مكونًا من 14 قاربًا انطلقت من الصين، وكانت الرحلة مروعة، كما وصفها ماركو بولو في كتابه، حيث هلك أكثر من 600 راكب خلال هذه الرحلة، أثناء مرورهم مبحرين في بحر الصين الجنوبي إلى سومطرة، ثم في المحيط الهندي، إلى الخليج العربي، وأثناء وجودهم في بلاد فارس، علمت عائلة بولو بوفاة قوبلاي خان. ومع ذلك، فإن الأشخاص الذين قابلتهم عائلة بولو أثناء سفرهم عبر المناطق الداخلية احترموا لوح الحماية الذهبي الذي منحهم إياه الخان العظيم.
وبعد 24 عامًا عادت عائلة بولو إلى البندقية، محملين بالعديد من كنوز الشرق الأقصى، لكن لسوء الحظ كانت المدينة في حالة حرب مع مدينة جنوا المجاورة. شارك ماركو في الحرب وسُجن. في المعتقل أمضى ماركو وقته وهو يملي قصص السفر على زميل له في الزنزانة وهو كاتب المغامرات آرثر روستيكيلو من بيزا، وبينما كان بولو يسلّي الجميع بحكاياته، كتبها روستيكيلو ودونها بالفرنسية، ثم انتشرت بعد ذلك بعدة لغات.
بعد إطلاق سراحه عام 1299، عاد ماركو بولو ليصبح تاجرًا، وتزوج وأنجب ثلاثة أطفال، ثم توفي في يناير عام 1324، ودفن في كنيسة سان لورينزو في البندقية، بعد أن ساعد في إلهام جيل لاحق من المستكشفين، منهم كريستوفر كولومبوس الذي أبحر إلى العالم ومعه نسخة من كتاب ماركو بولو، والرحالة البرتغالي فاسكو دي جاما.
العالم الأعجوبة
ربما كان من الممكن أن يُنسى ماركو بولو لو أنه لم يدون رحلاته وينشرها، ولأن ثروة المعلومات التي قدمها عن الصين والأراضي المحيطة بها غير مسبوقة في عصرها، لكن الشيء الأكثر أهمية هو أن ماركو بولو ساعد في إقامة اتصالات غير مسبوقة بين الشرق والغرب، وكان أول أوربي تعرف بعمق على حقائق المجتمع المغولي في الصين وقدم صورة عنه في مختلف الميادين، وأثرت مشاهداته بشكل كبير على رسامي الخرائط الأوربيين، مثل فرا ماور الذي رسم خريطة العالم الدائرية عام 1450. وبسبب تركيزه على المعلومات التجارية المفيدة للمهتمين بالتجارة الدولية، قدم وصفًا دقيقًا عن الصين وأطلق عليها «جنة التجار»، كان مهتمًا دائمًا بالسلع التي تنتجها المناطق التي يزورها، وكيفية ارتباطها بأوربا. على سبيل المثال ذكر، أن مدينة تبريز تتمتع بموقع ممتاز، لذا فإن البضائع التي يتم جلبها إلى المنطقة تأتي من أماكن عديدة. وذكر أن الفرس ينتجون أفضل وأجمل السجاد في العالم. ذكر أيضًا الكثير من الابتكارات التي لم تظهر بعد في أوربا، مثل وصفه لحرق الفحم للتدفئة والنظارات، وكشف أن قوبلاي كان أول مَن ابتكر العملة الورقية وإنها كانت تصنع من لحاء أشجار التوت، وقد أعطيت هذه العملة الشرعية والحماية كأنها مصنوعة من الذهب والفضة وكانت تختم بالخاتم الملكي ويعد تزويرها جريمة عقوبتها الإعدام. وتحدث ماركو عن خدمات البريد في الإمبراطورية، وقال إن شبكة من الطرق كانت تربط العاصمة بالولايات، وقد شيّدت عليها محطات بريدية والمحطة تتألف من مبانٍ ضخمة ويحتفظ في كل منها بأربعمائة من الخيل حتى يتمكن العاملون في الدولة والسفراء تبديل خيولهم المتعبة بخيول مستريحة.
في بغداد اهتم ماركو بالوصف الجغرافي وربطه بالنشاط الاقتصادي، ووصف نهر دجلة الذي يجري في وسط المدينة وينقل به التجار بضائعهم من بحر الهند وإليه، وأشار إلى السفن التجارية التي ترسو في ميناء البصرة والنخيل الذي ينتج أجود أنواع التمور في العالم، ثم تطرّق إلى صناعة الحرير المغزول بخيوط الذهب وصناعة المجوهرات الثمينة في المدينة، حيث ذكر في كتابه: «جميع اللؤلؤ المنقول إلى أوربا من الهند تتم عملية الحفر فيه في بغداد». وذكر أيضًا: «كانت بغداد المقر الرسمي السابق للخلفاء العباسيين»، وهو أول توثيق للرحالة الإيطالي لأحوال العالم الإسلامي، حيث وصف الخليفة بأنه «الوالي الأعظم لجميع المسلمين، كما هو البابا لجميع المسيحيين».
تحدث بولو أيضًا عن تدريس الشريعة الإسلامية، وعلوم أخرى مثل السحر والفراسة والفلك. وتتناقض هذه الرواية مع العديد من الكتب التاريخية التي أكدت تدمير المغول للمكتبات والمدارس عقب غزو بغداد. ومن بين هذه الروايات غير الموثوقة، تحدث ماركو عن المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين (1213 - 1258)، أنه «جمع كنوزًا أكبر وأضخم مما جمعه أي ملك آخر على مر العصور، وأنه استهان بشدة بقوة جيوش المغول التي تحاصر بغداد، فخرج بجيشه للقائهم، ووقع في كمين المغولي هولاكو، وتم أسره، وسقطت بغداد أمام الجيش المغولي». وتختلف هذه القصة عن الرواية المعروفة في المراجع التاريخية العربية، والتي تنص على أن المستعصم بالله بقي في قصره داخل بغداد، ولم يخرج أبدًا لقتال المغول بنفسه، وعندما أيقن انتصارهم الوشيك، خرج إليهم مستسلمًا، كما تتناقض القصة الروايات التي أكدت أن الخليفة قُتل بعد أن تم وضعه في كيس وركلته خيول المغول حتى مات. وذكر بولو إحدى القصص الغريبة التي انتشرت في أوربا في العصور الوسطى، وهي أن الخليفة المستعصم بالله «اعتنق المسيحية سرًا، وكان يلبس صليبًا حول رقبته ويخفيه تحت ملابسه».
إلى جانب وجود العديد من القصص والأخبار التي جمعت بين التاريخ الحقيقي والأساطير الشعبية. ولعل هذا ما يفسر الإقبال الكبير على تداول الكتاب عبر القرون.
إلا أن بعض النصوص أثارت جدلًا في رحلات ماركو بولو، فقد كان الكتاب غير واضح في بعض الفصول، هل الكاتب هو بولو أم روستييلو؟ أحيانًا يكون النص بضمير المتكلم، وأحيانًا بضمير المخاطب، وأن بولو لم يهتم كثيرًا بالتأكد من صحة المعلومات التي ذكرها في كتابه، وأنه سرد العديد من القصص الشعبية الفلكلورية التي سمعها بغض النظر عن صدقها. ويقال إن الكتاب الأصلي ضاع، وتمت ترجمته عدة مرات إلى لغات مختلفة، وغالبًا ما تتعارض هذه الترجمات مع بعضها البعض.
المدينة الغارقة
على مر السنين، بدأت البندقية تغرق لأن مستوى سطح البحر كان يرتفع، وبلغ ستة أقدام أعلى مما كان عليه قبل 1600 عام، بسبب ضغط أحمال مباني المدينة وطرقاتها، وبسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض الذي أدى إلى ارتفاع منسوب مياه البحر، ويقول الخبراء إن المياه ستغطي الساحل الأدرياتيكي، ومدينة البندقية بحلول عام 2100.
مكتبة «أكوا ألتا»
كانت وجهتنا في صباح اليوم التالي إلى مكتبة أكوا ألتا. مررنا عبر الأزقة والشوارع الضيقة، كنا محاطين بأشخاص يرتدون أزياءً من جميع الألوان والأشكال، البعض كان يسير معنا، والبعض الآخر كان يقف على الأرصفة كالتماثيل الحية.
حتى لو كنت تعيش في البندقية، ستضيع بسهولة بسبب بنية الشوارع التي تشبه المتاهة. ولهذا السبب وضع السكان المحليون لافتة في كل شارع تقريبًا توضح كيفية الوصول إلى الساحات والشوارع الرئيسية.
وأخيرًا وصلنا إلى مكتبة أكوا ألتا. واحدة من أغرب وأجمل المكتبات العائمة في العالم. تقع بين قنوات المدينة. وبسبب ارتفاع منسوب المياه في البندقية قرر صاحب المكتبة «لويجي فريز»، استخدام الجندول والقوارب بدلاً من الأرفف لتخزين الكتب وبيعها. وتحتوي المكتبة على درج مصنوع بالكامل من الكتب القديمة بشكل جذاب يزيد من سحر المكان. ويتيح المكان للزوّار والسياح الاستمتاع بإطلالة على قنوات البندقية، تتضمن المكتبة كتبًا جديدة وكتبًا قديمة ومستعملة مصفوفة في كل أنحاء الزورق وفي هذه المكتبة اشتريت نسخة من كتاب ماركو بولو.
مقهى فلوريان
لا تكتمل الزيارة للبندقية بدون تناول كوب من القهوة في مقهى «فلوريان». يقع هذا المقهى التاريخي تحت الممرات المقوسة الواسعة التي تصطف على ثلاث جهات من ساحة القديس ماركو، الساحة الشهيرة في البندقية، وهو يعتبر أقدم مقهى في العالم حيث افتتح في عام 1720، وأول مقهى يستقبل النساء في إيطاليا أيضًا. ومنذ ذلك الحين، لم ينقطع مقهى «فلوريان» عن استقبال روّاده وتقديم القهوة والمعجنات الإيطالية لهم. شهد هذا المقهى الأنيق العديد من الأحداث على مدار 3 قرون، واستضاف الكثير من الشخصيات التاريخية من المثقفين والسياسيين داخل وخارج إيطاليا، كالكاتب الإيطالي كازانوفا، والمؤلفين الإنجليز مثل لورد بايرون وبيرسي شيلي وتشارلز ديكنز، والكاتب الأمريكي إرنست همنغواي، والممثل تشارلي شابلن وصولاً إلى المشاهير المعاصرين من مختلف دول العالم.
يتميز مقهى «فلوريان» بديكوراته العريقة المزخرفة بأعمال فنية غاية في الإبداع لكبار فناني القرن التاسع عشر، مثل الرسام الإيطالي جوليو كارليني، الذي زيّن المقهى إحدى قاعاته الست الشهيرة بـ 10 لوحات من إبداعه، لكن الشيء الوحيد الذي يجعل الناس تبتعد عن مقهى فلوريان هو أسعاره الخيالية، فكوب القهوة يتجاوز العشرة يورو. في حين هناك مَن يرى هذا المكان بأنه أشبه بمتحف صغير يستحق الزيارة. وبعد استراحة جميلة وقصيرة لتناول القهوة، واصلنا طريقنا.
كرنفال البندقية
من الممكن التعرف على الماضي العريق في كل مكان في البندقية. المباني القديمة المتناثرة على طول القناة الكبرى والمباني في مناطق أخرى مملوكة لعائلات تجارية ثرية تحتفظ باسم العائلة (مثل كونتاريني وكا داريو وكا ريزونيكو). ولا يزال كرنفال البندقية كما الماضي يمثل حدثًا شعبيًا غنيًا بالتاريخ، فهو أحد التقاليد الإيطالية التي تعود إلى القرن الحادي عشر. بدأ حين انتصرت مملكة فينيسيا على بطريرك أكويليا في عام 1162، فأقيم هذا الحدث احتفالًا وتخليدًا للنصر، وأخذ الناس يرقصون ويجتمعون في ميدان سان ماركو، مرتدين أقنعة تُخفي وجوههم.
الكرنفال فرصة نادرة للانغماس في الأجواء الباروكية لمدينة مليئة بالسحر. لهذا السبب يتدفق عشرات الآلاف من الضيوف إلى المدينة من كل أنحاء العالم. هناك العديد من الحفلات الفاخرة المقنعة التي تستحضر العصر الذهبي للاحتفالات في قصور البندقية العريقة، هذه الأماكن غنية بالمفروشات القديمة والأجواء التي لم تتغير تقريبًا بمرور الوقت.
في الفترة من 27 يناير إلى 13 فبراير 2024، أصبحت مدينة البندقية خريطة لرحلة ماركو بولو غير العادية، تقود الضيوف عبر الأزقة والشوارع والساحات، لكرنفال ينتشر في جميع أنحاء المدينة، من الجزر إلى البر الرئيسي، ليتتبعوا تلك المغامرة الاستثنائية.
معظم الأحداث تجري عادة حول ساحة سان ماركو، إلا أن الفعاليات تقام في كل حي تقريبًا، وحتى الجزر المحيطة، مثل ليدو وبورانو لها فعالياتها الخاصة، فالكرنفال حدث احتفالي أنيق، وليس صاخبًا.
يمكن لأي شخص أن يتجول في الشوارع، ويرتدي الأزياء والأقنعة المزركشة، أو يحضر حفلة مسائية أو أوبرا أو حفلة موسيقية، في أحد القصور القديمة، ولم نفوت بالطبع هذه الفرصة وقمنا بشراء الأقنعة المصنوعة في البندقية من المحلات القريبة لارتدائها والتجول بها لنكون جزءًا من الاحتفال، والتقاط الصور التذكارية.
مع انطلاقة الكرنفال، رفع حوالي 600 مجدف يرتدون الزي الفلكلوري مجاديفهم للتحية، وهتفوا «كلنا ماركو بولو» أثناء قيامهم بالتجديف على طول القناة الكبرى من ساحة سان ماركو إلى جسر ريالتو.
ثم بدأت عروض أجمل أقنعة الكرنفال في ساحة الميدان الرئيسي، جنبًا إلى جنب مع موكب الجندول المائي على طول القناة الكبرى مع 12 فتاة تم اختيارهن لمسابقة للأزياء، بالإضافة إلى عرض الشوارع الذي ضم أفضل الفنانين العالميين، من الموسيقى ومسرح السيرك، وقد كانت نسخة 2024 لكرنفال البندقية من تصميم ماسيمو تشيكيتو، المدير الفني ومصمم الديكور لدار أوبرا لا فينيس.
وفي نفس اليوم تم تقديم عرض عشاء بعنوان «بلاط الخان العظيم» في كا فيندرامين كاليرجي، كان حفلاً مقنعًا، برعاية مصممة الأزياء أنطونيا سوتر، ومستوحى من رحلات ماركو، بين مماليك الشرق وأباطرة السهوب والتجار والعرافين والصوفيين، ويمزج بين الملابس الفخمة والعروض الفنية الشرقية.
تضمنت الفعاليات الأخرى لهذا العام معرضًا كبيرًا في قصر دوكالي لرحلات ماركو بولو في القرن الثالث عشر إلى آسيا، وعرضًا لكتابه الذي دون فيه مذكراته الشهيرة التي أعطت أوربا واحدة من أفضل الروايات المكتوبة عن آسيا وثقافتها وجغرافيتها وشعبها.
كانت هناك العديد من الأحداث التي لا يمكن تفويتها، من بينها العرض المائي المثير بعنوان «الأرض المجهولة»، والتي أقيمت في دارسينا غراندي، وهي قصة خيالية تنبثق من مياه المحيط، مستوحاة من رحلات ماركو بولو وتم سردها بطريقة رائعة من خلال لغة فنية سريالية إبداعية، كرحلة ماركو التي لا تعرف حدودًا.
وبالطبع للحضور إلى إحدى الحفلات الكبرى، فإن الالتزام بقواعد اللباس الإيطالية في حفلة تنكرية أمر لا بد منه، بالإضافة إلى القناع المزركش للحصول على تجربة أكثر أصالة.
كرنفال البندقية لعام 2024، كان حدثًا استثنائيًا لمدينة استثنائية، وعوالم مثيرة للخيال. جمع بين الشرق والغرب، والتاريخ والتراث الثقافي لهذه المدينة الأسطورية، ليحتفل ليس فقط بماضيها العريق، بل أيضًا بحاضرها النابض بالحياة ■
مدينة البندقية
بورانو (الجزيرة الملونة)
المدينة متاهة مبهرة من القنوات والجسور التي تصطف على جانبيها المباني المبنية على الطراز القوطي / ركوب القوارب الخشبية هي إحدى الأشياء المفضلة للسياح / البندقية أعجوبة هندسية بقنواتها المعقدة
تتميز مباني البندقية بالعمارة القوطية المليئة بالزخارف والنقوش والأعمدة المدببة
كنيسة سان ماركو من أشهر الكنائس في البندقية
«المدينة الغارقة» يقول الخبراء إن المياه ستغطي الساحل الأدرياتيكي ومدينة البندقية بحلول عام 2100
محلات القطع التذكارية في شوارع البندقية
محطة قطار البندقية
خريطة توضح المسار الذي سلكه الرحالة الإيطالي ماركو بولو برًا إلى الصين
ساحة الرسامين في البندقية
أجمل ما يميز مهرجان البندقية عروض أزياء العصور الوسطى والأقنعة الملونة التي تضفي الغموض على هوية أصحابها
جانب من مظاهر الاحتفال، قوارب خشبية وملاحون يهتفون «كلنا ماركو بولو»