سيرة الديكتاتور في رواية «عَوْ» لإبراهيم نصر الله
تواصل الرواية العربية، منذ نشأتها، توسيع فضاء مغايراتها الروائية وتعديد توظيفها، وهو ما يساهم في إثراء المتخيل الروائي بعديد من المغايرات التي تتعايش اليوم فيما بينها، جنبًا إلى جنب: الرواية الريفية، الرواية السير ذاتية، الرواية العائلية، الرواية السياسية، الرواية التاريخية، الرواية العجائبية، الرواية البوليسية، الرواية الأطروحة.
رواية «عَوْ» الصادرة في طبعتها الأولى، عن دار الشروق للنشر والتوزيع، سنة 1990، للشاعر والروائي الفلسطيني/ الأردني إبراهيم نصرالله، لا تخرج بدورها عن هذا الإطار؛ إذ يمكن تصنيفها، باعتبارها ـ «رواية سياسية»، تعيد نسج جوانب جديدة مما يفرزه الواقع العربي، من قضايا وسلوكات وإكراهات ثقافية ونفسية، سواء داخل الأرض المحتلة أو داخل باقي الأراضي العربية. وتلك هي روايات إبراهيم نصرالله، في انطلاقها، دائمًا، من الجزئي وهي تستهدف رصد وبناء الكلي ومطارحة أسئلته الشمولية. ففي روايته «حارس المدينة الضائعة»، على سبيل المثال، تصبح المدينة رمزًا للوطن وللأمة ككل، كما أن «سعد»، في هذه الرواية، يشكل امتدادًا رمزيا لـــ «سعد» في رواية «عَوْ».
أما ثلاثيته الروائية، الصادرة عام 2001، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بعنوان «الملهاة الفلسطينية»، والمكونة من ثلاثة نصوص روائية، هي: «طيور الحذر» و«طفل الممحاة» و«زيتون الشوارع»، فتعتبر، هي أيضًا، ملحمة روائية جديدة، كتبها إبراهيم نصرالله عن «الحكاية الفلسطينية» و«القضية الفلسطينية»، الممتدتين في التاريخ الإنساني وفي الأزمنة والذاكرة والأجيال والنصوص، وذلك ضمن مشروع روائي كبير، ما فتئ هذا الروائي يواصل تشييده، وتوسيع التعبير عن جزئياته وتفاصيله، في إطار نسجه لعوالم رمزية من التداخل بين الواقعي والتخييلي.
هكذا، إذًا، تكشف روايات إبراهيم نصرالله عن تجربة عميقة مع الكتابة والسرد، وعن امتداد وغنى كبيرين في التفكير والتخييل، وفي استلهام الحلم وتوظيف الرمز والسخرية وسرد التفاصيل الصغرى عن القضايا الإنسانية والمصيرية الكبرى. غير أن الطابع المميز لرواية «عو...»، لا يكمن، فقط، في تفكيرها في رصد جوانب من الأوضاع العامة (السياسية والاجتماعية والثقافية...) السائدة داخل الأرض المحتلة، كما رصدتها الرواية الفلسطينية في مجموعة من نماذجها المتميزة، بقدر ما أنها رواية تحاول، بعد الرواية الأولى «براري الحمى» لهذا الروائي نفسه، تجاوز طبيعة ذلك الرصد إلى حدود صوغ موضوع روائي طريف وعميق، يفرض نفسه، وبتلوينات عديدة، على الإبداع الأدبي العالمي عمومًا.
ثيمة الديكتاتور
يتعلق الأمر، هنا، باستثمار هذه الرواية لثيمة «الديكتاتور»، في شخص «الجنرال». وهي الثيمة التي وظفها الإبداع العالمي بكثافة، وخصوصًا الإبداع الروائي الأمريكولاتيني، حيث اشتهر بعض الأدباء الكبار باستثمار هذه الثيمة في نصوصهم الإبداعية: ألخو كاربانتي، ميكال أنخل أستورياس، غابرييل غارسيا ماركيز، روا باستوس، ومحمود درويش في العالم العربي، من خلال نصه الشهير «خطب الديكتاتور العربي»... هؤلاء كلهم - بالإضافة إلى آخرين غيرهم - اشتهروا برصد هذه الثيمة، انطلاقا من تنويع تجلياتها وتلويناتها داخل نصوصهم التي تؤرخ لمحطات ماضوية من التاريخ الديكتاتوري لبلدانهم، بما يفرزه من طابع مأساوي واستبداد سياسي، تم تجسيدهما، في نصوص هؤلاء، وعلى عدة مستويات.
أما إبراهيم نصرالله، فيوظف ثيمة (الديكتاتور) لينسج عبرها عالمًا روائيًا متماسكًا، يتخذ من قضايا الإنسان وأحلامه ومشاعره، نحو ذاته ونحو الآخرين، المجال الخام لإعادة ترتيب العلائق والتحولات الذهنية التي تطال الإنسان العربي، وسط تبعية فكرية وجمود في التفكير السياسي وفي الضمائر والمواقف، وأيضًا وسط سقوط ثقافي، يجسده، في هذا النص، «الصحفي القاص أحمد الصافي». ويتم استيحاء ذلك داخل فضاء من التعايش القسري الذي يفرضه الجنرال على هذا المبدع، من ناحية، وعلى عشاقه من القراء، من ناحية ثانية، في الوقت الذي تدخل فيه المؤسسة الإعلامية في شرك التبعية والسكون والتمويه الخادع.
في هذا السياق، تبني رواية «عو...» دلالتها العميقة التي تراهن على تبليغها، انطلاقًا من إقامة جدليات متعددة بين شخوصها الأساسيين (الجنرال والكاتب والقارئ والكلب)، بموازاة مع شخصيات أخرى مرجعية، يتم اجتلابها إلى هذه الرواية، بناء على وظيفتها المرجعية التي تقوم بها، في ارتباطها بنوع معين من الشخصيات التي لها صيت في عالم الإبداع الأدبي، العربي والعالمي: زكريا تامر- رينيه دوبستر- نجيب محفوظ - تولستوي - أحمد شوقي - فوكنر - يحيى الطاهر عبدالله - غسان كنفاني.
هكذا، إذًا، يحاول الروائي إبراهيم نصرالله، داخل هذا الفضاء من التوازي بين الأسماء المتخلية والمرجعية في هذا النص، أن يرسم لنا جوانب من المعاناة التي يعيشها الكاتب والمبدع العربي، في سياق أوضاع تاريخية وسياسية وتعبيرية، يطغى عليها الاستبداد السياسي وغياب الحريات، بناء على ما يفرضه الجنرال من أساليب تعوق فعل الكتابة ودور الإبداع، في مجتمعات مختلفة ومغلوبة على أمرها.
اهتمام لافت
وإذا كانت الرواية الأمريكولاتينية قد أولت اهتمامًا لافتًا لمسألة «تمثيلية الدكتاتور» في النص الواحد، على مستوى صيغ التلفظ والتوزيع السردي، بما أن شخصية الديكتاتور، هنا، تجسد، في الآن ذاته، ذاتًا للتلفظ وذاتا للملفوظ، وهو ما يفتح، يقول فلاديمير كرزنسكي، فضاء التمثل الروائي أمام لعب طوبولوجي، فيما يتصل أساسًا باستمرارية أو عدم استمرارية السرد، إنه، في مقابل ذلك، لا يمكن الحديث في الأدب العربي الحديث عن نمطية معينة خاصة بالتوظيف الصوتي والذاتي لشخصية «الديكتاتور»، في غياب تقليد أدبي وتراكم إبداعي مكثف يوظف هذه الثيمة (الديكتاتور) وينوع من أشكال رصدها واستيحائها، بشكل مباشر وجزئي، وإن كانت مجموعة من النصوص السردية قد ساهمت، بشكل أو بآخر، في تسليط الضوء على جوانب معينة من الشطط في استعمال السلطة، والاستبداد السياسي في المجتمعات العربية.
تتقدم رواية «عو...»، إذا، باعتبارها نصًا يبئر موضوعه الحكائي العام، الراصد لمسألة الديكتاتورية والتسلط السياسي والإرهاب الفكري، حول شخصية «الجنرال»، هذا الذي يجسد في هذه الرواية صورة الديكتاتور، بما يوازيه من وظائف تخضع لتركيب حكائي متعدد في النص، يتجسد من خلاله التوتر والعنف والتعذيب والإرهاب، إلى غير ذلك من أنواع الممارسات المرتبطة، في هذه الرواية، بمجال الكتابة والإبداع أساسا، وإن كانت رواية «عو...» تحاول، في مرات قليلة، تجاوز مأزق العلاقة الأحادية (سلطة - إبداع) إلى تقصي جوانب أخرى للتسلط السياسي الذي يمارسه الجنرال، ويفرضه تجاه شخوص أخرى تصارع من أجل البقاء، سواء كانت شخوصا بشرية أو حيوانية، إلا أنها تبقى، مع ذلك، معلقة بشباك الجنرال وبممارساته السلطوية المتعددة. وقد تمكن الروائي إبراهيم نصرالله من رسم معالم وصيرورات هذه الشخوص، ومن ترسيخها بعمق فني، في خطين متعارضين:
- خط تصاعدي، يتجسد في تنامي التسلط السياسي واتساع مجالات هيمنته، وهو الذي يمثله الجنرال وحراسه.
- خط انحداري، يمثله الكاتب والصحفي «أحمد الصافي»، بما أنه يلازم صورة تجسد المثقف العربي الملتزم بمبادئه الخاصة وبقضايا بلده العامة. ويتجسد الانحدار، هنا، في صورة الرضوخ الذي يُفرض على المثقف بشتى الطرق والوسائل. وهو الرضوخ الذي يتحول معه الإنسان إلى حيوان يصدر صوت الكلاب، نتيجة لما يتعرض له المثقف، هنا، من شتى أنواع الإرغامات النفسية والجسدية والتعبيرية.
انتشار الأمية
يقدم «أحمد الصافي»، في الرواية، باعتباره كاتب قصة، يشتغل صحفيًا في إحدى الجرائد المحلية، غير أن الأصداء التي تخلفها قصصه ومقالاته في نفوس الناس والقراء، هو ما سيصعد من تسلط الجنرال على «أحمد الصافي» وعلى إبداعه وكتاباته. يحدث هذا، بالرغم من وعي السلطة بما يشهده المجتمع العربي من انتشار للأمية وضآلة في فئات القراء، كما جاء في الحديث التالي: «ثم ما الذي يمكن أن تحققه قصصك في عالم عربي لا يقرأ...
أنا أعرف أن أفضل زملائك الكتاب الكبار. ومط كلمة «الكبار» حتى سالت حروفها لزجة على عنقه - مثل نجيب محفوظ، وابتسم بسخرية - لا يطبعون أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف نسخة من كتبهم لعالم عربي يصل عدد سكانه إلى أكثر من 150 مليونًا» (ص 13-14).
من هذا المنطلق، يمكن توزيع نوع الممارسة الإرهابية التي تقوم بها السلطة السياسية، تحت إشراف زبانيتها التي تتجلى سلوكاتها في التحقيق والاعتقال وممارسة التعذيب، إلى شكلين:
- ممارسة مهادنة، تختار الطريقة غير المباشرة في تنفيذ الإرهاب النفسي والسقوط الفكري.
- ممارسة غير مهادنة، تختار الطريقة المباشرة في الإرهاب، من خلال ممارسة التعذيب الجسدي المؤدي، أحيانًا، إلى الموت الآني المؤجل، وهي ممارسات ينفذها الجنرال تجاه المعتقلين من الجنود والثوار والقراء. وقد اختار الروائي نموذجًا أساسيًا من بين النماذج البشرية التي خضعت لشتى أنواع التعذيب المؤدي إلى الموت، والمتمثل أساسا في شخصية «سعد» المتورط في تهم عديدة، أهمها اتهامه بحيازته لإحدى قصص «أحمد الصافي» التي تشكل خطرًا أكبر من كتابة المقالات. لذلك، فإن هم الجنرال ومساعديه، حسب المحكي، هو العمل على إلغاء «أحمد الصافي» كقاص.
لقد اتخذ سلوك السلطة تجاه هذا الكاتب ذلك النوع من الممارسة، بغاية القبض على صيرورة «أحمد الصافي» القاص، واستدراجه للوقوع في شرك السلطة، حتى يصبح الكاتب «طبالاً» لصالحها لا ضدها، وهو ما يشير إليه المحقق «الأنيق»، في قوله الموجه إلى «أحمد الصافي»: «إن مهمتي هنا أن أعيدك إلى وعيك... أن أرشدك، أنبهك، أن أفتح عينيك على الحقائق... ولا أظن أنني مضطر أن أفعل ذلك باعتقالك مثلاً... بسجنك وتعذيبك... فنحن أيضًا لا نريد أن نجعل من أي منكم بطلاً... ولأنك لن تكون بطلاً في يوم ما... وهذا وعد قاطع مني، فإني أنصحك أن تكون إنسانًا محترمًا على الأقل...» (ص14).
رهان حكائي
من هنا، تتخذ هذه الرواية من رصد مجموعة من التحولات التي تطال صيرورة شخصية «أحمد الصافي» ونموها العكسي (الانحداري) رهانًا حكائيًا، يسير بموازاة مع بقية الرهانات الحكائية الأخرى، تلك التي يُبرز عبرها الروائي صورة الجنرال، وهي تتلون وتسمو يومًا بعد يوم، بما أن الرواية تتخذ من صيرورة المحكي اليومي، بالرغم من اعتمادها لتقنية الاسترجاع المكسر لتلك الصيرورة، أفقًا حكائيًا، يتتبع أهم الممارسات السلطوية التي ينهجها الجنرال يوميًا، بالليل والنهار، لأن ظل السلطة ومداها لا يتوقفان إلا ليبدأ من جديد، كما أن المساس بـ«الجنرال» هو مساس بكل الجنرالات... ولا أحد يقبل به» (ص 46-47).
على هذا النحو، تسري هذه الممارسات على الإنسان كما على الحيوان والطبيعة، فالكل يجب أن «يتحول» بحسب رغبات الجنرال وتخطيطاته «الهندسية» والإرهابية، فالبلد بدأ يتقوض بموازاة مع تقوض الإنسان الذي سلبته السلطة قيمه وأخلاقه ومبادئه تجاه ذاته وتجاه مجتمعه، لكي ترده عديم الفاعلية، كما تقوض الحيوان (المجسد، هنا، في الكلب)، باعتباره من المخلوقات الموازية للإنسان في الروايات التي تتخذ من مسألة التسلط السياسي مجالها الحكائي والأيديولوجي.
فإذا كان «سعد» (القارئ) قد تعرض للتعذيب الجسدي، فإن «أحمد الصافي» (الكاتب) يتعرض (للترويض)، هذا الذي تكشف الرواية عن مدى قساوته على الفعل الأول (التعذيب). ولا أدل على ذلك من المقطع الروائي، ما قبل الأخير، الذي ننقله كاملا لأهميته، نظرا لكونه يصور لنا الحالة النهائية التي آل إليها «أحمد الصافي» بعد مجموع ما تعرض له من سقوطات، انمسخ معها من إنسان إلى كلب يتعايش مع كلب الجنرال في حظيرة الجنرال: «ظلا يحتكان (أي كلب الجنرال وأحمد الصافي) كصديقين التقيا بعد غربة طاعنة حول رقبة الكلب، عندها فقط غضب الكلب، زمجر، ونبح، وتقافز مبتعدًا، ثم عاد وهدأ... اقترب أحمد ثانية منه، مارسا طقوس الاحتكاك الطيبة ببعضهما من جديد، اطمأن الكلب، امتدت يده وانتزعت الطوق بلطف، رآه الكلب يضعه حول رقبته... زمجر من جديد غاضبًا، وللحظة أحس أنه افتقد شيئًا يخصه، دار حوله... نبح بصوت مرتفع... عو...عو... عو...» (ص 173) ■