بلدتي المحرُومة والعالم

عندما وضعتُ مخطوطًا يضمُّ بعض الرّحلات التي قادتني إلى عواصم بلدانٍ عربيّة وأجنبيّة بعنوان «ما لم يعِشهُ السندباد»، بين يدي الأستاذ عبدالعزيز السريّع، هذا المثقّف المتفرّد الذي ربطتني به صلةُ محبّة وصداقة طويلة، كنتُ أنتظرُ ملاحظاته، وهو الحصيف والناصح بحكمة، قال لي بعد أن دقّقَ في نصُوص تلك الرحلات «أقترحُ يا صديقي، إنْ رأيتَ ذلك، أن تصفَ لنا قرية النّشوء ومدينة الجزائر العاصمة بملامحها العمرانية والبشريّة وأعلامِها من الناحية الوجاهيّة والاجتماعيّة والسياسية وكأنّك تزورُها منطلقًا من قرية المنشأ»، فأجبتهُ «فكرة رائعة. سأكتبُ ذلك، وهو هاجسٌ يسكنني، ويحفُرُ في ذهني منذ مُدّة طويلة. أنتَ تُحرّكُ في نفسي أشياءً عشتُ أضغطُ عليها، بينما ترغبُ في أن تصلَ قلوبَ النّاس. الحرمانُ... تلك هي البداية».
أبدأُ من الحُضنة التي أنتسبُ إليها، تاريخًيا وجغرافيًا، وهي المنطقة التي تنتمي إليها أعراشٌ وقبائل شرقَ الجزائر. يُجمعُ الباحثون على أنّ «اسم الحضنة مشتق من الاحتضان، وله دلالة جغرافية أكثر من غيرها»، والحضنة محاطة بحزام جبلي في شكل قوس من الأوراس وجبال بلّزمة من الشرق إلى جبال ونُّوغة غربًا عبر جبال بوطالب والمعاضيد شمالاً، إلى جبال بوكحيل جنوبًا، وتتصل بجبال بوسعادة وجبل سالات، ويذكر بعض الرحالة «أن منطقة الحضنة لم تخلُ من دار المُلك طيلة القرُون الأولى للفتح الإسلامي لبلاد المغرب».
يحرص أهلُ الحضنة، شأنهم شأن كثير من العائلات الجزائرية، على معرفة شجرة أنسابهم، ويحتفظ بعضهم بنسخ من هذه الشجرة المتوارثة أبًا عن جدّ، المنسوخةِ بخطّ مغربي قديم. وأذكر أن والدي الشيخ جمال الدين حصل في مطلع الثمانينيات على نسخة من نسبِ العائلة، تقع في أكثر من ثلاثة أمتار ونصفٍ تتوزّع فيها قبائل وأعراش الجزائر، قال إنها من الوثائق التي دُوّنت في العهد العثماني، جلبَها معهُ الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان في زيارته إلى الجزائر في 1975، ولا أعرف مصيرَها، فقد اختفت بسبب الإهمال أو عدم معرفة قيمتِها، ورغم هذا فإنّني احتفظت بنسب العائلة كما أورده المرحوم العلامة عبدالمجيد حبّة، هذا الرجل - الكنز الذي تخصّص في فكّ شفرةِ أنسابِ كثيرٍ من العائلات. ومما رواه لي أبي عن هذا الرجل الذي حضرتُ بعض مجالسه، في بسكرة. يكتفي بلحافٍ وعباءة بيضاء، ويجلس القرفصاء ويقطرُ علمًا. كنتُ على صغري أسمعه، ينتقل من رأي مذهبٍ إلى آخر، ويذكرُ عشرات العلماء، ويعيد بناء شجرة أنساب الذين يقصدونه لمعرفة أصولهم، فقد كان نسّابة، عارفًا بالبطون والأفخاذ والقبائل، ويكفي أن تذكر له لقبَ العائلة ليذهب بك بعيدًا في نسبك. وكان عالم لغة، وشاعرًا وفقيهًا، وله في كل معرفة نصيب. لقد اجتمعت فيه فضائل العلماء وطبائع الرّجال الذين لا يولدُون مرتّين، فقد شهد له أحد المستشرقين الألمان في زيارته لسيدي عقبة (بسكرة)، حيث قال بعد أن ناقشه طويلاً في شتى العلوم والمعارف «سأثبت صورة هذا العالم الجزائري في كتابي اعترافًا به وبعلمه وبمداركه في كل شيء حتى في أصول المسيحية، بل إنه أعلَم منّي بها»، وأخذ له صورة في قرية تهودة التي استشهد فيها قائد الفتح الإسلامي عقبة بن نافع.
وُلدتُ بالعين الخضراء (وكانت حتى العام 1973 يُطلق عليها عين الكلبة أو الكلباء كما جاء في بعض الكتابات، ولتلك التسميّةُ قصّة)، وهي مُكّونةٌ من أربعة أعراشٍ رئيسة، يطلقون عليها الزاوية، سيدي أحمد (السّحامدة)، أولاد الخضرة، أولاد سيدي عثمان (العثامين)، والضّحاوي. وتشكل هذه الأعراش عائلة واحدة، مندمجة ومتفاعلة فيما بينها اجتماعيًا وثقافيًا.
استفزاز ثقافي
رغم أنّ الاستعمار الفرنسي سعى إلى تشويه الشخصيّة الجزائرية وتمزيق نسيج الهويّة، بطمسِ أسماء الأماكن وإبدالها بأخرى هجينة ومشوّهة، ومنح العائلات ألقابًا غريبة ومسيئة، فإنّ هناك تسميات وُجدت لأسباب اجتماعية أو ثقافية، وكثيرًا ما انتشرت روايات عن الأسماء الغريبة التي تأخذها الأماكن أو الأشخاص والعائلات. فعين الكلبة، التي تحدّها شمالاً برهوم ومقرة، وشرقًا بريكة، وغربًا أولاد عدي القبالة وجنوبًا مسيف، وهي محاذية لشط الحضنة أو السبخة كما يطلق عليها. ويبدو تغيير الاسم منطقيًا، ذلكَ أن أهلَ المنطقة يرون فيه استفزازًا ثقافيًا واجتماعيًا لهم، ومن غير المعقول أن ينسبوا إلى مكان يحمل اسم كلبة، فاقترحوا تيمّنًا بالخضرة والنّماء اسم الخضراء، أو ربّما لكون ذلك يتناغم مع عرش أولاد الخضرة الذين يستوطنون مقرّ البلدية وضواحيها، فضلاً عن أنّ هناك تسميات لعيونٍ كثيرةٍ تحمل ألوانًا، كعين البيضاء (أم البواقي) وعين الصفراء (النعامة) وعين الزرقاء (تبسة) وعين الكحلة (الجزائر)، فلماذا لا تكون عين الخضراء، أو العين الخضراء؟
أما الأصل في حكاية عين الكلبة، فالسائد لدى عموم النّاس أنّ التسمية جاءت بسبب كلبة أصابَها عطشٌ كبير، تهدّدها وجِراءَها بالموت، فراحت تنبشُ الأرض، غير بعيدٍ عن السبخة (شط الحضنة) لينبجسَ الماء، فتروي ظمأ جِرائها، ويكتشف النّاسُ والرُّحّل عينَ ماءٍ في طريقهم، فأطلقوا عليها اسم عين الكلبة. وفي رواية أخرى أنّ قافلة مرّت بشط الحضنة حيث الملح، وأصابها ظمأ شديد، وكاد يهلك من فيها، فلمحُوا كلبة ترافقهم تحفُر في حافة الطّريق، ولمّا اقتربوا وجدُوا ماءً وفيرًا، فكانت الكلبة سببًا في نجاتِهم، ومن يومها صارت العينُ تحمل اسم الكلبة.
جدّي الشيّخ محمد الدرّاجي، المجاهد الثّائر والمصلح المربّي والقاضي أيّام حربِ التحرير، لم ألتق به، إنّما أذكر شيئًا من ملامِحه، ولم يكن عمري إذّاك يتجاوز الثلاث سنوات أو يزيدُ قليلاً، فهندامه الجزائري الأصيل، لا يفارق ذاكرتي، عباءة بيضاء، ولحافٌ أبيض، ولحية سوداء امتد إليها البياض. لم يعرفه الكثيرون، لكنهم لن يكونوا بحاجة إلى كبير عناء، إذا رأوا صورةَ رجُل يجلس يمينَ أو يسَار الشيخ عبدالحميد بن باديس رائد النهضة الإصلاحيّة في الجزائر، في الثلاثينيات، فقد كان واحدًا من معينيه، والمدرّسين معه في جامع سيدي قمُّوش بقسنطينة. كان بارعًا في اللغة وقضايا الدّين والفقه والعقيدة، هكذا يقول مَن كانوا قريبين منه. التحق بالأوراس لأكثر من عقدينِ، معلّمًا مُصلحًا، حاملاً همّ الهويّة والمنافحةِ عن الحقّ، ولم يتأخّر عن الانخراط في الثورة مجاهدًا، حتّى أنّ الذين فجّرُوا الثورة بالأوراس طلبوا منهُ إصدارَ «فتوى الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي»، وهو ما فعلهُ، وعزّز ذلك بشواهد كثيرة من القرآن والسنّة. كانَ قاضيًا طيلة سنين الثّورة، وأكرمهُ الله بأن يكون ابنه عبدالعزيز شهيدًا، وابنهُ الآخر جمال الدين مسجونًا حتّى إعلان وقف إطلاق النّار. وأكبر أحفاده، يذكره اليوم، ليذكّر به بعض من نسوه. ويُلف كتابًا عن سيرته ومسيرته.
أبي جمال الدّين، لم يكن مجرّد أبٍ، إنما كان أبًا وزيادة. كان أبًا بلا منتهَى. كان مدرستي الأولى التي نهلتُ منها ما أوصلني إلى ما صرتُ عليه. مدرسة القيم الإنسانية الحقّة، والوطنيّة الصادقة، والمحبّة الدائمة. كان مدرستي التي منحتني شهاداتي الأولى في التواضع والصدق والإيثار وحسن التعامل مع الناس، وحبّ العلم والمعرفة وخدمة المجتمع. كان مدرستي التي كلّما اقتربتُ من التخرّج منها إلاّ وأحسستُ أنّ شهادة الأبوّة لا ترتبط بمرحلة زمنيّة ولكنها تمتدّ مدى الحياة.
كانت مدرسة سي جمال مختلفة تمامًا عن المدارس التي مررتُ بها من الكُتاب بالعين الخضراء مرورًا بمدرسة عين اليقين بتازغت ولسان الفتى بتازولت وغيرهما من مؤسسات التعليم التي أخذتُ فيها نصيبًا من العلم والإفادة من خبرات عديد المعلمين الذين أذكرهم دائمًا بكثير من الاعتزاز والامتنان.
لم يكن مجرّد أب، بل كان مُعلمًا ومربيّا وصديقًا ورجلاً ذا حكمة وبصيرة وسداد رأي، يحتكمُ إليه النّاس، وأنا منهم، في مختلف القضايا وحتّى النزاعات.
كلّما ضاقت بي الدنيا، كان باب سي جمال مفتوحًا ليعيد ترتيب الأشياء ويقول كلمته النصوحة، فتنجلي الغيمة ويرتاح البال.
المشجع الأول
كان أبي أكثر الناس سعادة بما حقّقتُه في مسيرتي الأدبية والثقافية والسياسية، بل كان أوّل مشجّع لي، إذ كنتُ أقرأُ في عينيه الفرحة كلّما أنجزتُ شيئًا ذا قيمة، مثلما كنتُ أشعر في ملامح وجهه حالة الحُزن عند الخيبة والانتكاسة. لقد كان دائمًا بمثابة السّند الذي يلازمني في كلّ خطوة أخطوها أو مشروع أسعى إلى تحقيقه.
أبي جمال الدين هو امتداد طبيعيّ لجدّي. فهو رجل من نبتة دراجيّة أصيلة، معتزّ بهويّته ووطنيّته، يحبُّ العربيّة ويرفض التزمّت والغلوّ في الدّين، ويحاربُ الشعوذة والعبث بعواطف النّاس. يجنحُ إلى الاعتدال في كلّ شيء. ذاك ما تعلّمه من مدرسة والده، والقيم التي نشأ عليها بين الأوراس والحضنة.
ولعلّ ميزة عائلة آل ميهوبي أنّها بيتٌ للقرآن بامتياز، فالجدّ الأكبر محمد المبارك كان معلّمًا وناسخًا للقرآن، وأبناؤه محمد الدراجي وعمر والدرّاجي وعلي والمسعود وإبراهيم والصالح وعبدالحميد كلّهم حافظون لكتابِ الله ومحافظون عليه. فلا عجب أن يسير الأحفاد على دربهم، محصّنين بالقرآن والتنشئة الأصيلة.
كان أبي يوقّرُ العلماء ويحترمُ المثقفين، ويعتزُّ بالشهداء ويجلُّ المجاهدين ويرفع من شأنهم، ولا غرابة أن يفرد لهم أجزاء من مذكراته التي نشرها في 2021، صيانة لذكرى كلّ واحد منهم، مستحضرًا مقولة الشهيد مراد ديدوش «إذا استُشهدنا حافظوا على ذاكرتنا»... وكان يوصيني دائمًا «الثورة والشهداء والمجاهدون خطٌّ أحمر. لا تُقصّر في حقّ من جعلوكَ على ما أنتَ عليه».
قضايا متشعبة
أذكر أنني في طفولتي كنتُ أسترقُ السّمع في المجالس التي يقيمُها والدي في بيتنا بباتنة، حيث يأتي شيوخٌ وأئمّة ومثقفُون. يخوضُون في قضايا متشعبة، وكنتُ منبهرًا بما يقولون، وأتفاعل معهم عندما يرفعُون أصواتهم في جدال حاد. وعندما يغادرُون أقول لأبي إنّ فلانًا أسكت الجميع، وفي اليوم الموالي يعطيني بعض الدنانير ويقول لي هذه هدية من ذاكَ الذي امتدحتهُ.
ورغم أنّ والدي ليس أديبًا ولا كاتبًا، ولكنّه كان صديقًا للأدباء، لا يتوانى في السؤال عنهم وعن أحوالهم، وأحيانًا يفيدني بأخبار كتّاب أو أدباء كاد يطويهم النسيان. فأقول بيني وبين نفسي «أما كان أولى به أن يرأس اتحاد الكتاب أفضل منّي». وأذكر مرّة أنْ كُنّا في مقهى بمدينة سطيف، وكان على موعدٍ مع أحد معارفهِ القدامى، وعند وصولهِ سألهُ: من هذا الشاب؟ قال «ابني عزالدّين» فضحكَ صاحبُه وقال له «أنتَ أبوهُ وهو أكبرُ منك».
كان يحرصُ على اصطحابي معه في اللقاءات والمنتديات الثقافية والفكرية، وأذكر أنني حضرت ملتقى الفكر الإسلامي بعنّابة 1976، وهناكَ كنتُ قريبًا من البوطي والكعاك والسبسي والصّاوي والغزالي وإحسان عباس وأحمد حمّاني ومحمّد أركُون وغيرهم. ومن خلاله تعرّفت على شخصيات جزائريّة فاعلة من مجاهدين ودُعاة ورجال فكر وثقافة. وكلّما زاد اتساع دائرة معارفي في الفضاء الثقافي والسياسي أبقى مدينًا لوالدي بذلك. لقد شكّل والدي البوابة التي ولجتُ من خلالها هذه العوالم التي صقلتِ اهتماماتي بالثقافة والممارسة السياسيّة.
ذكريات تقاوم النسيان
في العام 2014 زرتُ تازغت بعد غياب قارب الخمسينَ عامًا. عدتُ إلى «عين اليقين»، مدرستي الطينيّة الأولى والتقيتُ ببعض من درسُوا معي، وكان الوالد بجانبي. وبعد سنوات زرتُ مدرسة «لسان الفتى» بتازولت، والتقيتُ مجموعة ممن كانوا معي في القسم نفسه، وتبادلنا ذكريات لا زالت تقاوم النسيان. أهمها الصّفعة التي كانت مكافأةً لي لنجاحي في امتحان العبُور إلى المرحلة المتوسّطة، ولتلك قصّة رأيتُ أن أسردها لما فيها من حكمة.
وصلتْ نتائج امتحان العُبُور من الابتدائي إلى المتوسّط، وقام مديرُ مدرسة «لسان الفتى» الشيخ الهاشمي دردُور، سليل عائلة عريقة في العلم والنضال، بتعليق القائمة على جدار المدرسة، فأسرع التلاميذ والآباء لقراءة أسماءِ أبنائهم، إنْ هم نجحُوا أم لا، ولمّا كان الوالد يعملُ بمدينة باتنة، فإنني تسلّلتُ بين الملتفّين حول القائمة إلى أن وجدتُ أنفي في الورقة، ورحتُ رغم التدافُع، أقرأ الأسماء وخاصّة الذين تبدأ ألقابهم بحرف الميم، فلم أعثر على اسمي، وأخذتني قشعريرة الخوف، ليس من الرّسوب ولكن من صفعةٍ مؤجّلة من الوالد. أقرأ الأسماء وأعيدُ، ثم قلتُ سأبدأها من أسفل إلى أعلى، وإذا بي أجدُ اسمي مدوّنًا ما قبل الأخير، أي في ذيل القائمة. تأكّدتُ من أنّني من الناجحين، فخرجتُ من تلك الزّحمة بأشق الأنفس. وأسرعتُ كالبرق، وأخبرتُ والدتي التي فرحتْ كثيرًا، وانتظرتُ لعلّها تُكرمني بدينار أو نصف، لكن ذلك لم يحدُث، لكنّها فهِمتني، قالت «سيأتي أبُوك بعد ساعة». ساعةُ صبر لا تُطفئُ فرحَة عُمْر.
خلال هذه السّاعة، كنتُ أُمنّي نفسي بدنانير معدُودة، أشتري مجلّة «مقيدش» ومرطّبات ومشرُوبات غازيّة وأشاهدُ فيلمًا هنديّا نخرجُ منهُ بعيونٍ منتفخة لموتِ البطل أو البطلة، وأدخل ملعب تازُولت لمشاهدة ديربي الغريمين «الصّول وتيمقاد». وأنا أسبحُ في خيالاتِ المنتصر، دخل الوالد، والشّرر يتطايرُ من عينيه. كنتُ مع الوالدة في فِناء البيت، قال لي «تعال...»، فتقدّمتُ مطمئنًا، مُرتاحًا. سألني: «نجحت؟» قلت له «نعم نجحت...»، ولم أكدْ أكمل التّاء... حتّى ارتسمت أصابعُه على خدّي. والويلُ لي إذا بكيتُ. لكنّ تدخّل الحاجّة مسعُودة منع الصّفعة الثّانيّة. قالت له «هو يقول لّك نجحتْ... وأنتَ تضربُه؟»، فردّ بغضبِ الأب الذي يرفضُ الخسارة «كنتْ في المدرسة. وقرأت كل الأسماء، ولا وجود لاسمه»، ولم ينظُر إليّ أبدًا، بينما كان يردّد «كارثة... كارثة» حتّى أنني شعرتُ وكأنّهُ يحمّلني هزيمة أمريكا في فيتنام تلكَ الأيّام.
بقيتُ واقفًا كمسمارٍ في قلب الفِناء، بينما دخل الوالد الغرفة، ولحقتْ به الوالدة، فلم أنجح في فكّ شفرة صُراخهما. لكنّ بعد دقائق، خرج، وهو يقول لي «سأعود إلى المدرسة وأسأل المدير سي الهاشمي». ولا أكتمُكم أنّ الشكّ ساوَرني، وقلتُ في نفسي «ربّما لم أنجح... ولماذا لم يُوضع اسمي مع حرفِ الميم مثل الآخرين؟». بقيتُ كالمسمار منتظرًا عودة الصّفعة التي لا تُردّ. أمّا الوالدة فاكتفت بالقول: «أرجو ألاّ تكون كذبتَ علينا؟»... وقرأتْ في عينيّ الصّدق.
أمّا ما كان من أمرِ الشيخ جمال الدين، ففي طريقه إلى المدرسة التي تبعدُ بحوالي مئتي متر عن البيت، لمحَ المدير سي الهاشمي غير بعيدٍ عنها، وقبل أن يُلقي عليه التحيّة، عاجلهُ المدير «مبروك عليك سي جمال. ابنك من النّاجحين». وبدا لي أنّ حال الوالد أضحى كمن سقط في حوضِ جليد، وفرّت من لسانه الكلمات، قال له «لقد بحثتُ في الناجحين من حرف الميم، ولم أجده...» فأجابه سي الهاشمي رحمه الله، وكان صديقًا مُقرّبًا منه: «أثناء تأدية الامتحان بباتنة، يتمّ جمعُ التلاميذ الذين يتجاوزُون العدد المطلوب في كلّ قسم، ويمتحنوا في قسمٍ آخر، بمعنى تجد الباء والكاف واللام والميم... لهذا جاءت القائمة بترتيب الناجحين بحسب كلّ قسم، وهو ما قبل الأخير في القائمة». فقال الوالد «لقد فعلتُها كبيرةً مع الطفل». ورَوى له ما حدثَ معي، ولكم أن تتصوّرُوا الموقف. تأكّد الوالد من صِدق كلام المدير، وعادَ إلى البيت.
لم أغادر مكاني. بقيتُ ثابتًا كأنّني وَتَدٌ دُقّ في الأرض، بينما كانت الوالدةُ تُعدّ قهوةً أو تطبخُ شيئًا ما. دخلَ الحاج جمال الدّين هادئًا، تقدّمَ خطوتين نحوي، وأنا أنظرُ إلى الأرض، قال لي «ارفعْ رأسكْ...»، ثم ابتسمَ وقال لي بعدَ أنْ جعل خدّهُ قريبًا منّي «هيّا... رُدّ صفعتك». وهنا بكيتُ.
ولن أصفَ لكم، سيلَ اللّوم الذي كالتْهُ له الوالدة، لكنّهُ لمْ ينزعجْ من ذلك، فقد كان سعيدًا جدّا بنجاحي. أعطاني دينارين، وقد تضحكُون من ذلك، فالديناران في تلك الأيّام يكفيان لتحقيق ما كنتُ أحلم به، سينما ومرطبات ومشروبات ومجلة مقيدش ومتابعة مباراة في كرة القدم. ويبقى في الجيب الخير والبركة.
أعرفُ أنّ كثيرًا منكم، أو من آبائكم، عاشوا موقفًا كهذا، أو أسوأ. فلا ينظرُ الواحدُ على أنّ أباه يتّسمُ بالقسوة عندما يؤنّبُ ابنهُ، ولو بصفعة في لحظة غضب، ولكنّهُ الخوف من الإخفاق، ففي تلك السنوات، لا رهان للعائلة إلاّ في نجاح أبنائها، وفي ذلك بناء لدولة الاستقلال التي كما قيل «ما حكّ جِلدكَ مِثْلُ ظُفرِك».
أمّا أمي الحاجة مسعودة... فقبل أن تبلغ الخامسة والستين لم تكن تعرف شيئًا من الأبجدية، لا تكتُب ولا تحسب. لكنّها وجدت عزاءها بوفاة أخي توفيق شاهين عام 2003، في أن تدخل مدرسةَ محو الأميّة، ولم تتوقف عن تعلّم القراءة والكتابة وهي على مشارف الثمانين. وصارت قادرة على قراءة القرآن، وشيءٍ من الأذكار، وتجاوزت ذلك إلى قراءة الجرائد، كلّما تعلّق الأمر بابنِها، شاعرًا أو مديرًا أو وزيرًا أو في أيّ موقعٍ كان. ولعلّ الموقف الذي شدّني كثيرًا هو أني كلّما كلمتها طلبت منّي إحضار بعض كتب محْو الأميّة الخاصة بالمستويات العُليا، ورغم أني كثيرًا ما أنسى طلبها، فإنني أحرصُ على ألاّ أنسَى هذا، إذ أنّني فوجئت في إحدى زياراتي لها، أنها تطلبُ مني نسخًا من روايتي «اعترافات أسكرام»، تحتفظ بواحدة، وتقدّم نسخًا منها لطلبة من جامعة سطيف، طرقوا بابها راجين وساطتها لدى ابنِها للحصول على نسخة من الرواية، وهو ما قمتُ به. لكنّ الذي بلغني أنّ أمّي، تُجهد نفسها لتقرأ بعض فصُول الرّواية، لتكون في غنًى عن معرفة مضمونها من أشخاص آخرين. ومن يملك القُدرة على قراءة كتابٍ من خمسمائة صفحة.
صفعةٌ تاريخية
سُئلتُ مرّة عن طفولتي فأجبتُ «بدأتُ رحلتي حافيَ القدمين في بلدتي العين الخضراء، ويمكنني أنْ أقول، إنني حين فتحتُ عينيّ على الدنيا، وجدتُني طفلاً فوق العاشرة، لا يذكر أشياءَ كثيرة عن طفولة لم يعشها. في السنوات الأولى من الاستقلال، لا ماء ولا كهرباء ولا مدارس، إذْ كان يحيطُ بنا الحرمانُ من كلّ جانب، مثل كثيرٍ من مناطق الوطن، فكانت الكهرباء وكرة القدم واللافتات المضيئة والرجال بربطات العنق والنساء اللواتي ينتعلن أحذية الكعب العالي والأطفال الذين يتسابقون بدراجات هوائية... كانت كلها أشياء من كوكبٍ آخر. وحين جلبَ لي أبي، جمال الدين، ذات ليلة «صندلاً» من النيلون، كنتُ أنتظرُ الصّبح، لأتباهى به أمام أترابي من الأطفال، ولكن الذي حدثَ أنني عدتُ مساءً إلى البيت حافيَ القدمين، لأنني نسيتُ الصندل في الحصيدة (الحقل)، وكانت فاتورةُ ذلك صفعةٌ تاريخية من أبي، وتمشيطًا للحقلِ طول الليل، تحت ضوءِ مصباحٍ، بحثًا عن النّعل الملعُون الذي لبستُه بعد سن التاسعة أو العاشرة. وكما يقول المثلُ الشعبي «مَن اعتاد المشيَ حافيًا... ينسى حذاءه».
والشّيُ بالشّيء يُذكر. أذكرُ أنّني تلقيتُ من أبي ثلاث صفعاتٍ تاريخيّة، الأولى عندما اعتقدَ أنّني لم أنجح، والثّانية عندما أضعتُ حذائي، والثّالثة عندما غضبتُ منهُ في أمرٍ عائليّ... ومع ذلك تعلّمتُ من كلّ صفعةٍ معنى أن يكُون لك أب يُعلّمُك كيف تتحمّل وتتأمّل، تتعلّم وتتألّم. أبُوك من يتكلّم.
وأذكرُ أنّ حلاّق القرية كانَ يأتي بعتادهِ، مقصّ وصابُون مارسيليا، مرّة في الشهر وننتظرُ دورنا في طابور طويل، وإذا لم يأتِ يتكفّل بالأمر أحدُ الأقارب الذي يتعامل مع رؤوسنا كتعامله مع الماشيّة حين يقومُ بجزّ صُوفها.
كانت الظروف قاسيّة، فلم يكنْ ذنبُ والدي أنِ التحقتُ بالمدرسة كبيرًا، ولم أدرس المرحلة الابتدائية كاملة، وهو العام الذي انتعلتُ فيه حذاءً جلديًا مُريحًا، وشاهدتُ التلفزيون، ورأيتُ الناس محلّقين حول ملعب ترابيّ لكرة القدم. وحين أخبرني أبي أنه سيأخذني معه إلى مدينة باتنة، لم أنمْ تلك الليلة، فقد كان همّي الوحيد، أنْ أرى التلفزيون، هذا الشيء العجيب، ولفرطِ دهشتي وأنا أتابعُ، في مقهى شعبيّ، برنامج «لُغتُنا» الذي كان يعدّه آنذاك المرحومان جمال الدين بغدادي وعلي فضّي، كنتُ حريصًا على ألاّ ترمشَ عيناي، فتضيعُ منّي صُورةٌ واحدة ولو كانت بالأبيض والأسود.
طفولة منسية
هكذا كنتُ أشعرُ أنّ حالة الدّهشة والاكتشاف، تتعاظمُ يومًا بعد آخر، فقررتُ أنْ أنتقمَ من الحرمان، مثل الآلاف من أبناء الاستقلال الذين حُرمُوا أبسط الأشياء، فدخلتُ المدرسة على كِبر، في نهاية الستينيات، أي بدءًا من الرّابعة ابتدائي، ثم انتقلتُ سريعًا إلى الأطوار الأخرى، تحدُوني في ذلك رغبةٌ في تداركِ ما لم أعرفهُ أيام الطفولة المنسيّة أو الميّتة أو ما بلغتُهُ في الوقت بدل الضّائع. فقد انتسبتُ أوّل مرّة لمدرسةِ عين اليقين بتازغت (باتنة) ثم السّعادة (بريكة) ثم لسان الفتى (تازولت) ثم متوسطة ابن باديس (باتنة) وثانوية عباس لغرور (باتنة) والشهيد قيرواني (سطيف) والشهيد ابن بعطوش (بريكة)، وليس لكم أن تسألوا عن سببِ كثرة المدارس، فأبي كان كثير الترحال. هو يجري وراء لقمة العيش، ونحنُ نجري وراءه، مكدّسين في حقيبتهِ، لكننا عشنا سعداء، لأننا تعلّمنا الصّبر والتواضع والمحبّة وخدمة النّاس. لهذا شخصيّا أشعرُ بمتعةٍ كبيرة عندما أستعيد بعض فتافيت الذاكرة وأتقاسمها مع غيري ممن كانوا مثلي أو أفضل قليلاً. أعيدُ تلك المشاهد دون مساحيق، ودون عقدة الخوف من رواية سيرة ليست مُبهجة ولا مُبهرة. لكنها سيرة طفل جزائري علّمهُ أبوه كيف يكبر جزائريًا صالحًا وصادقًا ومفيدًا، وإذا أخطأ فالصفعة جاهزة.
حين اقتربَ أبي من المدينة قليلاً، أقمنا بقرية تازّغت، فأخذني كبيرًا لمدرسةٍ يعلُوها سقفٌ وبها ماءٌ وكهرباء وكراسي. سألني أوّل معلّم لي، سي قدّور سعودي، هل تعرف القراءة؟ قلت نعم، فوضع أمامي كِتابًا وقال لي «اقرأ هذه الجملة»، فشرعتُ ألتهمُ تلك السّطور. أوقفني، وأخرجَ كتابا آخر، وقال لي «اقرأ هذا» ولم أُبْقِ سطرًا واحدًا من الصّفحة، وأخرجَ كتابًا ثالثًا، فابتلعتُ ما به كسابقيه، ثم نادى على أبي وقال له إنّ مستواي يفرضُ عليّ حَرْق المراحل، وتمّ إلحاقي بالسنة الرّابعة فالخامسة ابتدائي. واكتشفتُ مُتعةَ أنْ تقرأ جالسًا على كُرسيّ ملتصقًا بطاولة وأمامك سبّورة وطبشورٌ، وحولكَ أطفالٌ تكبرُهم أو يكبرُونك سنًا. إنّها دهشة المعرفة الأولى.
معلّمُنا الآخر، سيّد علي الصّيد، تعلّمتُ معهُ أبجديّة اللغة الفرنسية، وكان يطلبُ منّا نحنُ الأطفال في نهاية الدّرس، أنْ نجمَع ما قيمتُه ثلاثين دينارًا، لنشتري كرة قدم، ويعلّمنا هو كيف نلعبُ مثل الفرق الكبيرة، ويحرصُ على ألاّ يَعلمَ آباؤنا بذلك، والأفضل أنْ يكون تحصيل المبلغ من الأمهات، وهو ما فعلناه، لكنّ الذي حدثَ، أنّنا في أوّل يوم من اللعب بالكرة، كسرْنا زُجاج أحدِ الأقسام، فغضبَ سي قدّور المعلّم والمدير، وأنّبَ سيد علي، بينما أطلقنا نحنُ الأطفال أقدامنا للرّيح.
الدهشة الأولى
كنت أسعى وراء تفاصيل الأشياء، أريدُ أنْ أفهم ما لا جوابَ له، وأجيبَ عن أسئلة لم تطرح عليّ، إنّها الدهشة الأولى، تعيدُ هيكلة الوعي بكل شيء. فالحرمانُ هو الدافع إلى تدارك ما فاتَ، وهو المحفّز على تحقيق أمنياتٍ ولو كانت صغيرة. اكتشفتُ الكِتاب، لأنّني سليلَ عائلة عُرِفَ عنها اهتمامُها بالعلم والتعليم، فقرأتُ، دون فهم كامل لما أقرأ، كتابَ «المستطرف في كلّ فنّ مُستظرف» للإبشيهي، وكتاب «الأمَالي» لأبي علي القالي، و«العقد الفريد» لابن عبدربّه، وألف ليلة وليلة، ومخطوطات لم أعدْ أذكرها، وَرثها أبي عن جدّي الشيخ محمّد الدراجي. ولأنني أنعمُ بذاكرة تحفظ كلّ شيء بما في ذلك المُهملات. كنتُ إذا قرأتُ نصًا حفظته إلاّ الحساب لم أهضمه، ولم أشعُر إلا وأنا أكتبُ أشياء أزعم أنها شِعر أو خواطر، ومع مرُور الوقت، وجدتُ من يشجّعني ويهتمّ بما أكتبُ في مقدّمتهم الشيخ العلاّمة موسى الأحمدي نويوات، إلى أن التحقتُ بزمرة الذين أدركتهُم حِرفةُ الأدب من الكتبة والكُتّاب، وصرتُ كلّما استهواني شيءٌ أسرعتُ بفضولي لأكتشفه، فحياتي في النهاية حالة اكتشاف مستمرّة.
وما أن أحرزتُ شهادة الباكالوريا، اتجهتُ رأسًا إلى المدرسة الوطنية للفنون الجميلة التي كان يُسمح فيها لمستوى الثانوي بالالتحاق بها، وكنتُ الوحيد الحائز على باكالوريا، فقد كنتُ مولعًا بالرّسم والخط، وتسحرُني سريالية سلفادُور دالي كثيرًا. وأذكر أنني شاركتُ في ذكرى وفاة الرّئيس هواري بومدين بخمسِ لوحاتٍ، ففازت أربعٌ منها، ولكن لأسباب يطولُ شرحُها، بينها امتعاض والدي من التحاقي بها، توقفتُ عن متابعة دراستي بالفنون الجميلة، واتجهتُ إلى جامعة باتنة لدراسة الأدب، فاكتشفتُ أنّ هناكَ من طلبة السنة الرابعة، من أعدُّوا مذكراتِ تخرّج في الشّعر عن طالب في السنة الأولى، اسمه عزالدين ميهوبي، فاستهوْتني المدرسة الوطنية للإدارة (مدرسة كوادر الدّولة)، والتحقتُ بها في العام 1980، حيثُ قضيتُ أربع سنوات، جعلتني قريبًا من الحركة الأدبيّة بالعاصمة الجزائر، إذ أنني نلتُ الجائزة الوطنيّة الأولى للشعر في العام 1982 عن قصيدة «الوطن»، ومُنحت آنذاك 20 ألف دينار جزائري، وزّعت نصفَها على أفراد العائلة، وقضيتُ بنصفها الآخر، عطلةً لدى أقارب لي قريبًا من مدينة «نيس» الفرنسية.
وأذكر أنني حين ذهبتُ لاستلام جائزتي في فندق الأوراسي، كنتُ مرفوقًا بوالدي لكن منعُوه من الدّخول إلى قاعة حفل توزيع الجوائز لأنّ كلّ رموز الدولة حاضرون من حكومة وحزب، فقلتُ للمكلف بالتنظيم أو الأمن «لن أدخل إلاّ مع أبي. وإلا فاحتفظوا بالجائزة»، ذهبَ ثمّ عاد، ليأذن لنا بالدخول واستلام الجائزة من يدي مسؤول الحزب المُجاهد محمد الشريف مساعديّة رحمه الله.
كان والدي يرغبُ في أن أكون في موقع يليق بي وبما يشعرُ أنّني مؤهّلٌ له، كالإدارة مثلاً، لكنّه لا يمانعُ إذا اخترتُ مجالاً آخر ينسجمُ مع ميولي. هو يريدني ناجحًا وكفى. ورغم أنني أضعتُ عامين في دراسة الفنون الجميلة والأدب، إلاّ أنّ ذلك لم يحُل دُون تحقيق رغبة الوالد بدخول مدرسة الإدارة التي لا يدخُلها إلاّ من أوتُوا باعًا في المعرفة والتعليم.
سئلتُ عن دراستي للفنون والآداب، وماذا أفدتُ منهما. فأجبتُ «اكتشفتُ عوالم الجمال، لغةً وألوانا، ورأيتُ كيف يكونُ التفرّد داخل المجموعة، إذْ لا يكون إلاّ بالإبداع وتقديم الإضافة غير المألوفة. ولعلّ أقصرَ طريق ليكونَ للمرء موقعُ الامتياز في المجتمع، أنْ يوظّف مواهبه بالقدر الذي يُتيح له انتزاعَ احترام الآخرين، وهذا يقتضي جهدًا كبيرًا، وصبرًا على الظلم والمُماحكات والغِيرَة، لأنّ أعداءَ النجاح ينتشرُون كالفطريات في أرض الله. أمّا الإضافة التي يمكنها أنْ تعيدَ صياغة المشرُوع الذاتي للإنسان، فيمكنُ أن تأتي في مجال معيّن يكشفُ فيه عن مهاراتٍ وقدرةٍ في إنتاج القيمة المطلوبة، وشخصيًّا أشعرُ بالرّاحة عندما أنتهي من نصّ شعري أو مسرحي أو أقرأ في عيون الناس شعورًا بالرّضا عن أيّ شيء ذا قيمة، ولو في كلمة عابرة بمناسبة ما».
جمال سحر الجزائر
الجزائرُ، كما جاءَ في أدبيات التّوصيف، هي أكبرُ من بلدٍ وأصغرُ من قارّة، ذلك أنّها تمتدُّ على ما يفوق مليونين وثلاثمائة ألف كيلومتر مربّع، حتّى أنّني سمعتُ مرّة أحدهم يقُول «إنّ طولَ المسافات بين الشّمال والجنوب، يجعلُ الطائرة تلهث حتّى تصل»... ومع هذا، فأمكنني زيارتُها كاملة، مدنًا وقُرى، فصرتُ عارفًا بثقافة وتقاليد وعاداتِ وأعراف كلّ منطقة... لكنّ الذي أرادهُ منّي أبو منقذ، هو أنْ أصفَ بلدة المنشأ، وهي على صِغَرِها، حين غادرتُها لم تُكن عرفتْ الإسمنتَ وطريقَ الإسفلت، والماء الشّروب والكهرباء... لا شيء سوى مباني الطّوب الطّينيّة التي لا تحتاجُ إلى معماريّين، فكلّ واحدٍ قادر على بناء كوخِهِ، بأن يضعَ أعمدة يُطلقُ عليها «القنطاس»، ويستعين بمن يعرف لإعداد قوالبَ الطّوب، وسعفِ النخيل وقصب اليراع وأشجار السّدر لتمتين السّقف، وينامُ النّاسُ مطمئنّين. ومن ثوابت ذلك المسكن البسيط، أن يكُون به حوشٌ أو فناءٌ يكُون فسحَة للنّساء، وغرفة تُسمّى دار الضّياف، أو مكانٌ لاستقبال الضيوف. رُبّما ينزعجُ النّاس من وجُودِ بعض الزّواحفِ والعقاربِ التي تأتي دون استئذان، وقد تتسبّبُ أحيانًا في أذى أفرادٍ من العائلة.
لم تكُن بعين الخضراء في بداياتها شوارع، وإنّما مجرّد مساكن موزّعة بشكلٍ عشوائيّ، بحسبِ الأعراش والعائلات، وما يُميّزها هو ما يُطلقُ عليه «المكتب» وهو الإدارة التي أوجدتها السلطة الفرنسيّة أيام الاستعمار، أو الاستدمار كما يحبُّ المفكّر الراحل مولود قاسم تسميته. وهُناك ميزةٌ أخرى في بلدتي، هي أنّ عددًا كبارًا من أبنائها مغتربُون في فرنسا، ويعملُ أغلبُهم في مهنٍ بسيطة أو يكدّون في مصانع الحديد والسيارات... يُرسلُون لعائلاتهم حوّالاتٍ بريدية وملابس لأبنائهم كلّما عادَ أحدُهم من الغُربة... إنّهُ المصدر الأساس لسُكّان منطقة فقيرة، صاحبُ الحظّ فيها من كانت له أغنامٌ وماعزٌ أو سيّارة أو شاحنةٌ يعُول بها عائلته.
النّاسُ، في بلدتي يعرفُون بعضهم، بل تفاصيل كلّ بيت، ولا يخفى سرٌّ على أحدٍ، كونُهم يُشكّلون تجمّعاتٍ سُكّانية من عائلات متقاربة، تربطُهم مُصاهرات تحت عنوان «زيتنا في دقيقنا»، ويقصدُون سُوق السّبت بمدينة مقرة صباحًا ويعُودُون بعد الظُّهر بمؤونة أسبُوع أو أكثر. وكان والدي يصحبُني معه، وأوّلُ ما يشدّني هو أنّني أقضي وقتي أقرأُ لافتاتِ الحوانيتِ والدكاكين الصّغيرة، مخبزة الشّعب، جزّار الأمل، البركة للمواد الغذائيّة، ملابس السّعادة، أحذية الأفراح ووو... وعندما أعُود مساء، أشرع في إعادة كتابة ما حفظتُه من لافتاتٍ، إنّما بإصبعٍي في الهواء... بينما يضحكُ أبي بعيدًا وهو ينظرُ إليّ. أعُود وفي جيبي حفنة من الحلوى التي أخفيها عن الآخرين. إنّها أنانيّة الأطفال المحرُومين من شيء يسمّى المدينة.
كنّا نقصدُ الأماكن التي تتوفّرُ على النّبق من شجر السّدرة الشّوكي والكمأة والفُقّاع، وعند الرّعي نتسابق، أو نلعب «عصا الليل» و«الخاتم» و«السّيق» و«الخربقة»... وكلّها ألعابٌ لا عرفُها أهلُ المدينة، لأنّها بنتُ البيئة التي تعطيكَ أكثر من ذلك. أمّا الأعراس، فطقُوسُها مختلفة، إذ كنّا بعد العشاء، نتحلّق حولَ الفُنوغراف، لنسمعَ أغاني من التّراث الجزائري، حمادة وحدّة بقّار وعمر البار ودرياسة ونورة وأحمد صابر، ونجوم المشرق المغرب، عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد وعبدالوهاب والدكالي وعليّة وغيرهم. ينتهي حفلُ السّماع بموتِ البطاريات.
أذكُرُ أنّ النّاس في بلدتي يُقيمونَ كلّ عام موسمهم الرّوحي والاجتماعي في منطقة تُسمّى قدّيشة، حيثُ يُذبحُ ثورٌ أو ناقةٌ تحت إيقاع طٌقُوس متوارثة، يعتبرُها الأجيال التي جاءت بعدنا ضربًا من السّلوك الوثني، بينما تبدُو مألوفة بالنّسبة لجيلنا في تلك الفترة، إذ لا تختلفُ عن بعض الممارسات التي تعرفُها مناطق عديدة من الجزائر في عيد ينّاير، المرتبط بالبذر والزرع. يقيمُ النّاسُ في قدّيشة مأدبة كبيرة ويُوزّعُ اللحم على الوافدين إلى ذلك الموسم الذي لم يعد يذكُرُه النّاس... وقديشة صارت أثرًا بعد عين.
عندما انتقلنا من بلدة العين الخضراء إلى تازغتْ ومنها إلى بريكة وباتنة فسطيف... كان بؤبؤ العين يتّسعُ أكثر لمباهج المدينة بينما يشعرُ أنّهُ كان يعيشُ خارج الزّمن عندما كان في بلدتِه الصّغيرة المنسيّة.
كان الوصُول إلى العاصمة الجزائر حُلمًا، وكأنّ الأمر يتعلقُ بالذّهابِ إلى زُحل أو المشتري. وأذكُر أنّ والدي أخبرني ذاتَ ليلة أنّهُ سيصحبُني إلى العاصمة، فقضيتُ ليلتي الطّويلة أنتظرُ الصّباح. وكأنّ الشّاعر يقصِدُني بقوله:
أَلا يا لَيلُ هَل لَكَ مِن صَباحِ
وَهَل لأَسيرِ نجمِكَ مِن سَرَاحِ
ألاَ يا ليلُ طُلتَ عليّ حتّى
كأنّكَ قدْ خُلقتَ بلا صبَاحِ
كانَ ذلك في منتصفِ السبعينيات، حيثُ تهيّأتُ للرحلة بأفضل ما عندي من ملابس كنتُ أخبّئُها لمواعيد استثنائيّة لا تتكرّر. وكانت كلّما عبرت بنا السيارة المُهترئة مدينةً، أسألُ أبي «هل هي الجزائر العاصمة؟»، فيردُّ «وهل رأيتَ البحر؟». أصمُت، وأنتظرُ عصفُورتي النّادرة، وبعد ثماني ساعاتٍ أطلّت علينا جزائر بني مزغنّة بخليجِها الواسع ومرتفعاتها التي تبدو من بعيد، مثيرةً، فأسألُ أبي مرّة أخرى «كيف يصِلُون إلى تلك الأماكن العالية؟»، فيردُّ ضاحِكًا «على بغالٍ مزوّدة بعجلاتٍ مطّاطية».
المدخل الشّرقيّ للعاصمة يبدأ بحيّ المُحمّدية، ويُطلق عليه لافيجْرِي، ولهذا قصّة ذات دلالات. أمّا لافيجْري فهو كاردينال فرنسي، كان يملكُ يدًا طُولى في سياسة التبشير بسُورية وتونس والجزائر، وقد سعى أن يجعل من التعليم أداتهُ في ذلك، مدعُومًا بالسلطة العسكريّة الفرنسيّة حيثما يكُون، فأسّس ما يُطلقُ عليه الآباء البيض، وكذا الأخوات البيضاوات. اعتبرَ الجزائر بوّابة إفريقيا لجعلها تحت الصّليب، وقد نشَر عددًا كبيرًا من الكنائس بين تُونس والجزائر، واستخدم أساليب الإغراء لاستمالة الأهالي البسطاء، من ذلك ما يُروى أنّهُ قصَد إحدى قرى منطقة القبائل بالجزائر بنيّة تنصيرِها بزرع فكرة أنّ القبائل البربريّة هي امتدادٌ للرّومان فلا صلةَ لها بالشّرق المُسلم.
في هذا القرية وزّع لافيجري نسخًا من مصحفٍ مُحرّف من القرآن الكريم بدعوى أن فرنسَا لم تأتِ لتحرمَ النّاس حقّهم في ممارسة شعائر دينهم الإسلامي، والدليل أنّها توزّعُ عليهم مصاحفَ مجانية... وبعد شهرٍ عاد لافيجري لينظُر ما عاقبةُ فعلتِه، وهل انطلت حيلتهُ على الأهالي الذين نشأوا على الفطرة. وجدهُم في انتظارِهِ، فأكرموا وفادته، ثم أعادُوا لهُ تلكَ النّسخ من المُصحف، وقال كبيرُهم: «لقد وجدنا فيه عيبًا، أردنا تنبيهكم إليه. وجدنا آيةً مبتُورة، لم يُعلّمنا آباؤنا على أن نحفظها كما جاءَ في مُصحفكم هذا الذي كُتبت فيه الآيةُ كما يأتي: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (سورة آل عمران - الآية: 85)، فأين سقطت كلمةُ (غيْر)، أعيدُوا للآية (غيْر) وحينَها يُمكنُ أن نقُول إنّكُم أهلٌ للثقة...» فعاد الكاردينال يجرُّ أذيال الخيبة، وأدركَ أنّ الأمر ليسَ كما كان يتصوّره.
ولجهوده التبشيريّة في الجزائر وتُونس خلّدتهُ فرنسا بتماثيل وتسميات مُدنٍ وأحياء وكنائس ومدارس، من ذلكَ أحد أكبر أحياء العاصمة، حي لافيجري، الذي ردّ عليه الجزائريُون بعد الاستقلال بإزالة اسمه وإبدالها بحيّ (المُحمّدية) تمجيدًا لنبيّ الإسلام سيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسلام... ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل تعزّزت الهُويّة المُسلمة للجزائر العاصمة وحيّ المُحمّدية ببناء جامع الجزائر الجديد قُبالة الشّاطئ الذي انكسر فيه أسطُول الملكِ الاسباني شارْلُكَان بعد مقاومةٍ شرسة من الأهالي أعقبتْها عاصفةٍ بحريّة عاتية شتّتت جيشه ودمّرت سُفُنه، وهو الذي جاءَ ليُوقف المّد الجهادي الإسلامي في البحرِ المتوسّط وإعادة مجد الصّليبيّة. الردُّ في الجزائر كان برمزيّة عالية، وهو مُحمّد والمئذنة.
معمار أوربي
كنتُ أنظرُ إلى البحر الممتدّ عبر الأفق إلى ما لا نهاية، ثم أضحكُ من نفسي، وأنا الذي كنتُ أسبحُ في قلتةِ (بركة) ماءٍ بوادي الجبّاس، معتقدًا أنّ هذه البركة هي أوسعُ من البحرِ الذي يتحدّثون عنه.
كلّما اتجهتِ السيارة نحو قلبِ العاصمة، تزيدُ دهشتِي من تلك العمارات الشّاهقة ذات النمط المعماريّ الأوربي، والسيارات مُختلفة الأشكال والألوان. حينَ وصلنا ساحة بُور سعيد، ولها قصّةٌ أيضًا، كُون الرئيس جمال عبدالنّاصر، عندما زار الجزائر بعد انتصار ثورتها واستعادة استقلالها، اتجه مع الرئيس أحمد بن بلّة إلى الحديقة المُسمّاة الجنينَة وألقيا كلمةً في الجُمُوع، وتمّت تسمية الحديقة ببور سعيد تخليدًا للمدينة التي قاومت العدوان الثلاثي على مصر 1956 بسبب دعمِها للثورة الجزائريّة.
كنتُ أنظرُ إلى حركة النّاس في تلك السّاحة، يُسرعُون في اتجاهات مُختلفة، وأتساءلُ ما الذي يدفعُهم إلى هذا؟، ثم أنتبه إلى النساء، حيثُ بعضُهنّ يحتفظ بالحايك الأبيض، بينما بعضهنّ الآخر بلباس أوربي متمدّن. وكان يُخلني منظرُ بعضهنّ الذي فيه تبرّجٌ فاضح، وأنا أجلسُ إلى جانب أبي في مقهى، تميّزُه الضّوضاء، وصوتُ مذياعٍ يبثُّ أغاني شعبيّة.
بعد الغداء، مررتُ مع الوالد عبر شارع باب عزّون الشّهير، الذي تكثرُ به الحوانيت وباعة القُماش، ومنه إلى ساحة الشهداء الفسيحة التي تُشكّلُ متنفّس حيّ القصبة العتيق الممتدّ نحو الميناء. وقفتُ طويلاً أمام مسجد كتشاوة الذي بناهُ العثمانيون، وعندما احتلّت فرنسا الجزائر حوّلتهُ إلى اسطبل لخيُول جنودها.
بدأتُ أكتشفُ العاصمة، وتتقلّص لدي مساحة الدّهشة، مع كلّ زيارة لها.. حتّى أنّني بعد التحاقي بها طالبًا في العام 1979، صرتُ عارفًا بخباياها وزواياها، ذلك أنّني أفضّل المشي بين الأزقّة والأحياء، مما جعلني قادرًا على رسمِ خريطة لها أفضل من تلك التي رسمها الأميرال الإيطالي بيري رايس في 1525.
صرتُ عاصميًا بحُكم الدّراسة والعمل والإقامة منذ مطلعِ الثمانينيات، فعشتُ كلّ التحوّلات التي عرفتها هذه المدينة التي أطلقَ عليها اسم إيكوزيُوم ثمّ جزائر بني مزغنّة لتستقرّ على اسم الجزائر عاصمة ودولةً... بل إنّ كثيرًا من بنات الاستقلال حملنَ اسم دزاير وحتّى جزائر تكريمًا لهذه الأرض المُقاومة، والمُباركة بما قالهُ أحدُ رجالها المُصلحين، سيّدي عبدالرحمن الثعالبي رحمهُ الله (1384/1471):
إنّ الجزائرَ في أحوالها عجبٌ
ولا يدومُ بها للنّاسِ مكرُوهُ
ما حلّ عُسرٌ بها، أو ضاق مُتّسعٌ
إلاّ ويُسرٌ من الرّحمنِ يتْلُوهُ
عدتُ بعد سنواتِ غيابٍ إلى بلدتي، العين الخضراء، وجدتُها اختلفت تمامًا، صارت مدينةً كتلكَ التي كنتُ أتمنّاها صغيرًا، والنّاسُ فيها أخذوا بنمط عيشِ أهل المدينة، وتفتّحت أمام أبنائهم آفاقٌ كثيرة... هكذا يجعلُ الحرمانُ من صاحبِه قوّة تغيير ناعمة.
شُكرًا لك أبا منقذ لأنّك أخرجتَ من ذاكرتي ذلك الطّفل الذي لا يتوقّف عن الحُلم، إذ لم يكتفِ بأن يكون سندبادًا منتهاهُ عاصمة بلاده، بل بلغ سور الصّين، وزار هافانا وأديس أبابا وموسكو ولندن وإسطنبول والكويت وبيروت ونواكشوط والخرطوم وواغادوغو... وغيرها من مدن العالم التي يحتفظُ في كلّ واحدة منها بذكرى لا تُنسى ■