مسكوكات بلاد السند في العصر الأموي «الدّمة الأموية»

مسكوكات بلاد السند في العصر الأموي  «الدّمة الأموية»

مثلت سكة النقود في العهد الأموي مظهرًا من مظاهر قوة الخلافة والسيادة والسيطرة المركزية، إذ كان من أبرز أولويات الدولة بعد فتح المناطق والأقاليم الجديدة إرساء نظام نقدي يقوم على قاعدة التبعية للنظام النقدي المركزي، مع إعطاء صلاحيات محددة لدور السكة في الأقاليم لإصدار النقود محليًا، واقتصر ذلك على الدراهم والأفلاس، دون الدنانير التي نسبت مباشرة إلى الخليفة، ووضعت تحت إشرافه المباشر. ولم تكن بلاد السند والبنجاب استثناءً عن هذه القاعدة، إذ عرفت في مرحلة مبكرة من الفتح الأموي ضرب النقود الفضية، لكنها تفردت بعد ذلك في إصدار ضروبها المميزة، التي مثلت علامة فارقة في تاريخ النقد الإسلامي.

 

شهد عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان تحولًا نقديًا شاملًا، تمثل في ضرب النقود العربية الصرفة وسيلةً لدعم الاستقلال الاقتصادي والسياسي والإداري عن بيزنظة وفارس، كبرى الإمبراطوريات المجاورة للدولة العربية الناشئة آنذاك، والتي بدأت أركانها بالتوطد في إطار حركة تعريب النقود والدواوين والتركيز على إبراز الكيان العربي وعامل اللغة. إذ كانت اللغة أساسًا جامعًا في قالب دين التوحيد الآخذ بالانتشار خارج الجزيرة العربية والمنطقة العربية، وذلك عن طريق الفتوحات والتجارة والتأثيرات الحضارية. وقد أسهمت هذه الجهود كثيرًا في توجيه دفة التاريخ العربي الإسلامي في شتى المجالات، الاقتصادية والسياسية والإدارية والعلمية، بالتركيز على اللغة العربية.

وما إن توطدت أركان الدولة، بدأ سك النقود العربية الصرفة (في عام 77هـ) وأخذت تلك النقود بالانتشار في حواضر الخلافة، فسكت الدنانير الذهبية على أساس المركزية في عاصمة الخلافة دمشق، وكانت تخضع مباشرة لإشراف الخليفة أو من يمثله، وتم تداولها في شتى أقاليم الدولة وحواضرها، وكانت تمثل ركنًا أساسيًا من أركان الخلافة ومظهرًا من مظاهر الحكم وسلطان الخليفة. أما الدراهم والأفلاس فكانت تصدر بعيدًا عن الرقابة المباشرة لدار السكة في العاصمة، حيث تركت لدور السكة المحلية في المدن والأقاليم حرية ضرب الدراهم والأفلاس (الفلوس)، مع الالتزام بتصاميم الدراهم الموحدة التي اعتمدت مركزيًا، دون الأفلاس.

ومع اتساع رقعة الدولة، طرأ على سكة النقود تطورات مهمة، حيث ظهرت مسكوكات محلية لم تخضع لضوابط السكة التي كانت تعتمد في مركز حكم الخلافة أو في مدن السكة الرئيسية (أي الدنانير والدراهم الكاملة). ومن تلك المسكوكات النقدية الفريدة ما يعرف بدمة السند. 

كانت الدمة عملة فائقة الصغر، يبلغ وزنها نصف غرام تقريبًا أي ما يعادل دانقًا واحدًا، وقد ضربت بأمر الوالي الأموي، عامل السند، وتحمل اسمه، وتأتي في تصاميم لا تحمل شبهًا للنقود المعتمدة مركزيًا. ومثلت تلك المسكوكات من حيث القيمة والوزن سدس الدرهم الأموي الكامل، وقد ضربت في مقر حكم الولاة الأمويين، مدينة المنصورة في بلاد السند، التي تمتد حاليًا على معظم دولة باكستان، والحواضر الأخرى، التي أسسها الجيش الأموي الفاتح بعد استقرار الحكم. واقتصر تداولها على المناطق الخاضعة لولاية الحاكم الأموي في شتى مدن السند، مثل «الديبل» (مكان كراتشي الحالية)، و«قندابيل»، و«قيقان»، و«لاهور»، و«قصدار»، و«الميد»، و«الملتان» المجاورة للهند، وكانت تصدر لتوفير حاجة تلك الحواضر المحلية، والقرى والدساكر المحيطة بها إلى النقود وبما يتوافق مع سياساتها النقدية المحلية.

وسبق ذلك ضرب الدراهم الأموية الكاملة مباشرة بعد فتح السند، إذ ظهرت دراهم سكت في الديبل (ديبل) سنة 95هـ، وهي مماثلة للدراهم الأموية ذات التصميم والمأثورات المعتمدة مركزيًا، مع تميزها عن غيرها مثل سائر الدراهم الأموية الكاملة بالإشارة إلى مكان السكة.

 

فتوحات السند

تكللت جهود العرب المسلمين بفتح بلاد السند والبنجاب في سنة 92هـ تحت قيادة محمد بن القاسم الثقفي، ابن عم الحجاج بن يوسف، بعد محاولات كثيرة في العقد الثاني من القرن الهجري الأول استهلت بالغزوات التي قامت في عهدي الخليفة عمر بن الخطاب والخليفة عثمان بن عفان (رض)، تبع ذلك محاولات متفرقة، تركز جلها في خلافة الوليد بن عبدالملك. وقد دفع اشتداد هجمات القراصنة في مياه الخليج العربي (خليج البصرة)، في العقد التاسع من القرن الهجري الأول، والتي كان مصدرها تلك الأنحاء من القارة الآسيوية، بالحجاج إلى التعجل في إرسال حملات عسكرية إليها.

كان فاتح السند محمد بن القاسم الثقفي واليًا على فارس في سن السابعة والعشرين من عمره، ووجهه الحجاج على رأس الجيش إلى بلاد السند والبنجاب، بعد عدة محاولات سابقة لم تتكلل بالنجاح. فجهزه بالعدة والعتاد، وجرد لهذه المهمة العظيمة ستة آلاف جندي من أهل الشام، إضافة إلى من كان معه من الجنود، فاستطاع حشد نحو عشرين ألفًا تحت قيادته، وخصص الحجاج للجيش مؤونة قوامها ستين ألف درهم «60.000.000». وأصابت المهمة نجاحًا كبيرًا، فأقام الثقفي على ولاية السند ثلاث سنوات، انتهت باستدعائه إلى دمشق من قبل الخليفة الجديد سليمان بن عبدالملك، الذي حكم عليه بالسجن لأسباب تتعلق ببعض الخلافات السياسية مع الحجاج الذي عقد الخلافة لأخيه الوليد بن عبدالملك، إلى جانب تهم أخرى وجهت إليه، فقضى في السجن. وبذلك تعطلت الفتوحات في جبهة السند وانكفأ المسلمون في تلك المنطقة، ونشبت الثورات والفتن في بعض أنحائها. وبدأ بعض حكام السند الذين غادروها إلى كشمير بمحاولة العودة إلى البلاد، واستطاع بعضهم استرداد سلطته، مستفيدًا من الاضطرابات التي أصابت الخلافة الأموية في زمن سليمان بن عبدالملك.

 

ولدى تولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة في سنة 99هـ كتب إلى حكام السند يدعوهم إلى الإسلام والطاعة، فاستجابوا وانضوت بلاد السند كلها تحت سلطان الخلافة الأموية في دمشق، ودخل سكانها وحكامها الإسلام وتمثلوا روح الحضارة العربية واتبعوا تقاليدها. إلا أن هذه المناطق ستعود إلى الاضطراب بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز، ومرة أخرى في أواخر عهد الخلافة الأموية، قبل أن يسترد العباسيون السيطرة عليها مجددًا.

وقد أرسل الجنيد بن عبدالرحمن المري (الدمشقي) على رأس جيش لفتح بلاد السند مجددًا سنة 107هـ، فنجح في ذلك، وعينه هشام بن عبدالملك واليًا عليها، ودامت ولايته حتى سنة 111هـ. ثم أعقبه تميم بن زيد العتبي فولي السند سنة 111هـ/729م. ونزعت الأوضاع السياسية إلى الاستقرار، وجلب توطد نظام الحكم الأموي الذي استمر ردحًا من الزمن، الاستقرار الاقتصادي للإقليم، وبدأ نشاط دور السكة المحلية لتوفير النقود ذات الصبغة العربية الإسلامية المحضة، الخالية من التأثيرات الأجنبية. إذ ضربت هذه النقود تحت إشراف العمال الأمويين مباشرة، وبعيدًا عن السلطة النقدية المركزية لعاصمة الخلافة.

 

الدّمة الأموية الأولى

ولي تميم بن زيد السند ثم خراسان ولم تمتد ولايته للسند أكثر من سنتين، وسك دمة السند ونقش عليها عبارة «الله أحد الله الصمد»، وعلى الظهر: «ما أمر به تميم بن زيد». ولعل ما قام به هذا العامل الأموي كان لا يختلف عن الإصلاح النقدي الذي أدخله معاوية في المشرق العربي، إذ كانت بعض ضروب الدمة الهندية في التداول آنذاك، وكانت توسم بتصاوير آدمية وحيوانية، ورموز محددة. وتشير المعطيات التاريخية إلى أن الوحدة النقدية - الدّمة - استخدمت أساسًا للعملات الفضية منذ الأزمنة القديمة في تلك المنطقة.

 كان الوالي الأموي تميم أول عامل مسلم يأمر بضرب الدمة الفضية في السند، بعد انقضاء أربعة عشرة سنة من إصدار الدرهم الأموي الكامل في الديبل، المدينة الساحلية للسند وعاصمتها (كراتشي الحالية)، والذي كان خلوًا من اسم الوالي أو العامل المحلي شأنه شأن الدراهم الأموية الكاملة. ثم تولى ولاية السند الحكم بن عوانة، ما بين سنتي 112هـ - 122هـ، وأسس مدينة المحفوظة واتخذها عاصمة للإقليم، وقصد منها توفير ملتجأ لمن تبقى من مسلمي الهند المجاورة، بعد ارتداد سكانها، ففر الهنود المسلمون وغيرهم ممن وفد مع الجيوش الأموية واستقر فيها، إلى السند. وبعد سنوات قليلة أسس الحكم مدينة أخرى أسماها المنصورة، واتخذها عاصمة بعد المحفوظة، وظلت كذلك لما يربو على ثلاثمئة سنة.

 

نشاط السكة

 شهدت ولاية الحكم بن عوانة نشاطًا واضحًا في ضرب النقود، وقد ساعد على ذلك استقرار حكمه لفترة لعقد من الزمن، فظهرت في عهده فئتا الدمة ونصف الدمة، وبلغ وزن الأولى حوالي خمسين غرامًا (سدس الدرهم) والثانية نصف ذلك، وكانت مأثوراتها على الوجه «أمر به الحكم بن عوانة»، وعلى الظهر «لا إله إلا الله» (في فئة الدمة) و«محمد رسول الله» (في فئة نصف الدمة). ولعل الفئة التي سكت رسميًا حملت اسم «سدس الدرهم» و«نصف سدس الدرهم»، أو أن العادة جرت بتسميتها درهمًا، لأن المأثورات ذكرت الفئة بصيغة المذكر (أمر به).

وقد استمد اسم الدّمة (في البراكريتية)، أو الدراما (في السنسكريتية) من اسم النقد الفضي، المشتق من كلمة «دراخما» (اليونانية)، على الرغم من حجمها الصغير جدًا مقارنة بالدراهم الكاملة أو الدراخما. ولذلك فإن اسمها الذي حملته كان مجازيًا، ولعله استخدم في اللغة المتداولة لتأكيد صلتها بالدرهم، لا سيما وأنها سكت من الفضة، وحملت صفة النقد بمادتها وبقوتها الإبرائية الرسمية، وليس بحكم سكتها الرسمية فقط.

إضافة إلى الدمة، ضرب الحكم الأفلاس النحاسية وظهر على بعضها اسم عاصمته «المحفوظة» وعلى بعضها الآخر اسم «المنصورة» (العاصمة التي أسسها لاحقًا)، وكانت مشابهة للأفلاس الأموية بصفة عامة.

 

ما بعد الحكم بن عوانة: مرحلة الاضطراب

استمرت ولاية الحكم بن عوانة إلى سنة 122هـ، وكانت الدولة الأموية في تلك الفترة تعيش إرهاصات أفول نجمها، وتخطو نحو السنوات الأخيرة من عمرها، حيث ستشـتد الاضطراب والثورات والحركات المناوئة للحكم الأموي، والتي تركزت في خراسان، بدءًا من سنة 127هـ، وسينتهي ذلك بسيطرة العباسيين على السلطة، وانقضاء عهد الخلافة الأموية. وولي السند بعد الحكم، عمرو بن محمد، واستمر عاملًا عليها ما بين عامي 122-126هـ. 

 حيث سك الدمة، وكانت مأثوراتها «لا إله إلا الله» (على الوجه)، و«عمرو بن/ محمد» (على الظهر)، ثم تولى ولاية السند محمد بن عرار الكلبي 127 - 128هـ الذي سك الدمة وكانت مأثوراتها «الله ولي/ محمد (بن)/ (عرار)» و«محمد/ لله وحده».

وسك العامل الأموي سليمان بن سُليم الكلبي (الحمصي) ما بين سنتي 128 – 130هـ الدمة الفضية وكانت مأثوراتها على الوجه: «لا إله/ إلا الله» ضمن شكل مربع تتكون أضلاعه من نقاط كبيرة، وعلى الظهر «أمر به/ سليمان بن/ سليم». 

 

ثم جاء بعده منصور بن جمهور الكلبي (129 – 132هـ) وضرب الدمة الفضية وحملت على الوجه «لا إله إلا الله» بأحرف طويلة، وعلى الظهر «نصر الله/ منصور»، وعيّن منصور عاملًا على العراق لفترة قصيرة عام 126هـ، وقد ظهر اسمه أيضًا على فلوس أموية سكت في زرنج (سيستان).

 

ويلاحظ أن مسكوكات تلك الفترة حملت تشابهًا كبيرًا من حيث الحجم (الفئة)، باستثناء نصف الدمة التي تميزت بها سكة الحكم بن عوانة، كما أنها اشتهرت بعباراتها المقتضبة ذات الدلالات الدينية، على غرار المسكوكات النقدية الأموية الكاملة. إلا أن مأثوراتها تركزت أساسًا على عبارة التوحيد بشقيها، نظرًا لصغر حجمها وضيق المساحة الصالحة للكتابة عليها.

 

السكة بعد نهاية الدولة الأموية

بعد انهيار الدولة الأموية وصعود الدولة العباسية (سنة 132هـ)، استمر ضرب الدمة في السند، تحت سلطة الولاة العباسيين. ومثلما اقتبس العباسيون عن الأمويين جميع أعراف السكة، في إصدار دنانيرهم ودراهمهم وأفلاسهم، توارثت أقاليم الخلافة أعراف السكة المحلية التي كانت سائدة أيام الخلافة الأموية، وسكت الدمة تحت حكم العباسيين وولاتهم بالمقاييس والمواصفات نفسها، مع إدخال تعديلات على المأثورات والعبارات المستخدمة عليها، تلائم نظام الحكم السائد. 

وقد استمرت سكة الدمة العباسية إلى سنوات قلائل سبقت انتقال السلطة إلى الحباريين/ الإمارة الهبارية (سنة 239/ 240هـ، 854م)، وهي سلالة عربية اتخذت المنصورة عاصمة لها، ودانت بالولاء للدولة العباسية، وبسطت سيطرتها على السند الوسطى والجنوبية. وتميزت مسكوكاتهم بأنها سارت على مواصفات سابقاتها، إلا أنها حملت عبارات مختلفة عما جاء  فيها، وسيقتبسها الحباريون في سكتهم التي ستظهر ما بين سنتي 240 – 400هـ.

ومع استقرار حكم الدولة الحبارية، ظهرت ضروب كثيرة للمسكوكات الفضية التي عرفت باسم الدمة الحبارية، وذلك ما بين سنتي 257هـ و400هـ. وحملت تلك المسكوكات خصائص سابقاتها الأموية من حيث الوزن والخط، مع بعض الاختلافات في المأثورات العامة التي ركزت على الشعارات المرتبطة بالدعوة إلى الحاكم. وكان أول من أصدرها عمر بن عبدالعزيز الحباري (عمر الأول)، الذي استمد السلطة مباشرة من الخليفة العباسي، ومارس الحكم بصفته أميرًا مستقلًا، وضرب الدمة الفضية وكسور الدينار الذهبي. وحملت الدمة التي ضربها شعارات الدعوة مثل «بالله يثق عمر وبه ينتصر».

 

موجز القول

تعد الدمة من المسكوكات الإسلامية الجديرة بالاهتمام، نظرًا لخصوصيتها التاريخية، وظروف نشأتها وتداولها، في مراحل تاريخية من عمر الخلافة الإسلامية. وهي توثق لفترات تميزت بحكم عمال الخلافة المحليين، سواءً الذين كانوا يعينون من قبل الخليفة، أو الذين استقلوا بإماراتهم أو مارسوا استقلالًا إداريًا، ودانوا بالطاعة للسلطة المركزية. 

وقد اشتركت هذه المسكوكات النقدية فيما بينها بأوجه شبه كثيرة، على مر المراحل التاريخية المختلفة. ومع أن دولة الحباريين زال سلطانها على يد الغزنويين، فإن سك الدمة لم يتوقف، وظهرت ضروب غزنوية للدمة إلا أن عيارها كان دون سابقاتها، سيرًا على السياسة العامة للسكة الغزنوية في تلك الحقبة. وهكذا لم ينقطع سك الدمة على امتداد أكثر من خمسة قرون، وهي فترة طويلة جدًا بمقاييس التاريخ، انتهت بالغزو المغولي، والقضاء على الخلافة العباسية والدويلات التابعة لها في السند وما وراء النهر وخراسان ■