الجوع الخفي
يحذر المتخصصون في التغذية حول العالم من اتساع دائرة الجوع الخفي - الذي يعرف بنقص المغذيات الدقيقة كالزنك والحديد وفيتامين أ، وحمض الفوليك، وفيتامين ب 12، وسواها - فقد كشفت بعض التقديرات العالمية عن معاناة طفل من كل طفلين في سن ما قبل المدرسة، وامرأتين من كل ثلاث نساء في سن الإنجاب من نقص أحد المغذيات الدقيقة، على الأقل، وفقًا لمجلة «ذا لانسيت غلوبال هيلث» - Lancet Global Health The - ولا يقتصر هذا على البلدان الفقيرة أو المتوسطة التي تلجأ إلى نظم غذائية منخفضة التكلفة وذات خيارات محدودة فحسب، بل يشمل بلدانًا غنية كبريطانيا وأمريكا، حيث تتأثر امرأة من كل اثنتين في الأولى، وامرأة من كل ثلاث نساء في الثانية.
ويدعو المهتمون إلى توسيع نطاق تدابير التدخل القائمة على أدلة علمية والفعالة اقتصاديًا، ووضع استراتيجيات مواجهة قادرة على الوصول للمجتمعات النائية والمهمشة تفاديًا لحدوث مشكلات صحية خطيرة تعيق النمو وتضعف المناعة وتؤثر على تطور الدماغ والوظائف الحيوية الأخرى، وتتسبب بإصابات فقر الدم، والعمى، والالتهابات، وتؤدي إلى الوفاة.
استراتيجيات التدخل
تؤكد د. نيكول لو، أستاذة التغذية ورئيسة مركز بحثي بجامعة سنترال لانكشاير ببريطانيا، أنه من بين استراتيجيات تحسين كثافة المغذيات في النظام الغذائي، استخدام المكملات الغذائية التي توفر حلًا مباشرًا لنقص المغذيات الدقيقة في السياقات المستهدفة، حيث يمكن التعامل معها بفاعلية. وتوجد أدلة قوية على فعالية برامج تحسين الوضع، كما هي الحال في عنصر الحديد، حيث أدى توفير مكملات الحديد للنساء في سن الإنجاب إلى تحسين حالات فقر الدم وتحسين صحة الحوامل على مستوى العالم. وهناك أدلة أخرى تفيد بأن مكملات الزنك في مرحلة الرضاعة والطفولة المبكرة تزيد من معدلات النمو. وإن كانت - المكملات - لا تعد خطوة عملية لعلاج الجوع الخفي على مستوى السكان، لأنها باهظة الثمن، وتعتمد على قدرة الوصول لمن هم أشد عرضة للخطر. أما بالنسبة للأفراد، فيمكن أن تقدم المكملات حلًا قصير الأجل، بينما لا تحل مشكلة النظام الغذائي الفقير في عناصر التغذية على المدى البعيد.
وأضافت في ورقة بحثية عرضت في أحد مؤتمرات مجتمع التغذية - مجتمع يسعى لتقدم البحث العملي في مجال التغذية منذ 1941 ومقره الرئيسي في لندن - أنه إلى جانب المكملات الغذائية توجد استراتيجية إضافة المغذيات الدقيقة إلى الأغذية أثناء معالجتها، أو إضافتها إلى الطعام مباشرة قبل استهلاكه، مثل مساحيق المغذيات الدقيقة المتعددة. ومن أنجح التجارب العالمية في هذا الصدد، إضافة اليود إلى ملح الطعام، لمنع تبعات صحية ترتبط بدور اليود المهم في تخليق هرمون الغدة الدرقية، ويعتبر تعزيز الملح باليود إجباريًا في عديد من البلدان.
ورأت د. لو أن نجاح استراتيجية دعم الغذاء الوطنية كثيرًا ما تعتمد على التوزيع الفعال للمنتج المدعم والقدرة على تحمل تكاليفه، بحيث تتمكن جميع فئات المجتمع من الحصول عليه؛ كما تعتمد على محو الأمية الصحية لتمكين الناس من اتخاذ قرارات مستنيرة؛ إضافة إلى مراقبة الإنتاج والمنتج المدعم بعناية لضمان الجودة والسلامة؛ والتنسيق والاستثمار على المستوى الإقليمي، إن لم يكن على المستوى الوطني. وأشارت إلى دراسة حول استهلاك الملح المعالج باليود في مجتمع ريفي في باكستان، كشفت عن وجود قصور في الوعي بفوائد اليود الصحية. ورغم توفر الملح المعالج باليود في السوق المحلي، إلا أن ارتفاع سعره قليلًا شكل عائقًا أمام شرائه. كما لم يكن إنتاج هذا الملح خاضعًا لمراقبة الجودة. وكان مستوى اليود في الملح المدعم قد انخفض بشكل ملحوظ عن المستوى المطلوب. كما لا ينبغي الانحياز إلى المناطق الحضرية، بسبب وجود شبكة توزيع أكبر للمنتجات المدعمة، أو لتفوق مجتمعاتها اجتماعيًا، واقتصاديًا، ومن حيث الثقافة الصحية.
تدعيم الغذاء الحيوي
أما استراتيجية تدعيم الغذاء الحيوي - وفقًا للورقة - فهي تعزيز محتوى المغذيات الدقيقة في الغذاء، إما عبر برامج الاهتمام بالمحاصيل أو الطرق الزراعية العضوية - كإضافة الأسمدة الغنية بالمغذيات - أو مزيج من الأمرين. ويعد الدعم الحيوي حلًا جذابًا للجوع الخفي، حيث تفشل التدخلات الأخرى، فهو يوفر طريقة معقولة التكلفة لتحسين تناول المغذيات الدقيقة بين الفئات المعرضة للخطر من السكان. وبعد دعم النبات، يمكن للمزارعين توزيع البذور على نطاق واسع وإعادة إنتاجها. كما تنخفض التكاليف الجارية إلى حدها الأدنى بعد التكلفة الأولية لبرنامج التدعيم. ويمكن جمع أدلة قوية على التحسن في حالة تغذية فئات مستهدفة، برصد تأثير استهلاك الأغذية المدعمة حيويًا على المؤشرات الحيوية لحالة المغذيات والنتائج الصحية عبر دراسات التغذية التي يتم التحكم فيها بعناية في الظروف التجريبية. فعلى سبيل المثال، أثبتت دراسات أن استهلاك نشا القمح المدعم بالزنك يمكن أن يزيد من امتصاص الزنك بنسبة تتراوح ما بين ثلاثين وسبعين في المئة.
ونصحت د. لو بالتنوع في الغذاء الذي كلما زاد، قل خطر عدم كفاية النظام الغذائي من حيث إمدادات المغذيات الدقيقة. وذكرت بأنه قد تم تطوير طرق قائمة على استبيانات لتقييم تنوع النظام الغذائي، حيث يتم تنظيم الأغذية وفقًا لمجموعات كالبقول، والمكسرات، والبذور، ومنتجات الألبان، والخضراوات ذات الأوراق الخضراء الداكنة، وغيرها، ومن خلال المعلومات التي يقدمها المستجيب للاستبيان - كعدد مرات استهلاك الأطعمة داخل كل مجموعة - يمكن تحديد درجة التنوع. وأشارت إلى دراسات حول التنوع الغذائي في بيئة فقيرة بباكستان، لاحظت ارتباط التنوع المنخفض بارتفاع معدل انتشار نقص الزنك. ولكن ما أثار الدهشة أنه لم يتم رصد أي نقص في عنصر الحديد؛ ويعتقد أن ذلك بسبب تناول الناس للحديد المتسرب من أواني الطبخ. ولهذا لا بد من اطلاع الباحثين على ممارسات الطبخ المحلية، ومعرفة مدى توافر المنتجات الغذائية المدعمة في الأسواق - كالزيت المدعم بفيتامين أ - قبل تفسير النتائج.
الأغذية الزرقاء
من جانبه، أكد د. كريستوفر غولدن، أستاذ التغذية وصحة الكوكب المساعد بكلية الصحة العامة بجامعة هارفرد على أهمية الغذاء الأزرق - الذي يأتي من بيئات بحرية أو بيئات مياه عذبة - في مواجهة الجوع الخفي، وقال في مقابلة إذاعية برعاية جامعة كوينلاند إن هذا النوع من الغذاء يشكل قطاعًا لكسب العيش لمئات الملايين من الناس، في البلدان الساحلية وغير الساحلية وهو قادر على دعم التغذية بالمغذيات الدقيقة لمئات الملايين من البشر حول العالم.
واعتبره سبيلًا لتمهيد الطريق نحو نظم غذائية صحية ومستدامة؛ ومدخلًا لتحقيق هدف التنمية المستدامة الثاني - من أهداف 2015 السبعة عشر- المتعلق بالقضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي مع حلول 2030؛ ولا سيما مع تراجع الأراضي الصالحة للزراعة والمخصصة للغذاء، وارتفاع عدد السكان، وتفاقم التغيرات المناخية المسببة للجفاف وندرة المياه، إضافة إلى إيجابيات تأتي مع زيادة الابتكار، والتوسع في تربية الأحياء المائية، وزراعة الأسماك، وإعادة تأهيل المخزون السمكي، والصيد بطرق مستدامة.
وتوقع - من منطلق خلفيته في علم البيئة وعلم الأوبئة ودراسته لتأثر صحة الإنسان بالتغيرات البيئية، وبحثه حول النظم الغذائية وتأثير التغير البيئي عليها - ارتفاع إنتاجية الغذاء الأزرق، الذي يشمل آلاف الأنواع من الأسماك، واللافقاريات أو الرخويات كالمحار وبلح البحر وسواها، إضافة إلى النباتات المائية مثل الأعشاب البحرية والطحالب، مع حلول 2030 أو 2050 كحد أقصى، بحيث يمكن مقابلة نقص المغذيات الدقيقة في البلدان المختلفة من جانب، والمساهمة في التقليل من استهلاك اللحوم المصنعة المرتبطة بأمراض كالسمنة، والسكري، والسرطان، من جانب آخر.
وأكد تفوق الأطعمة الزرقاء على غيرها من الأطعمة، لكونها غنية من الناحية الغذائية، وتتميز بتأثير أقل على صحة البيئة، حيث تنخفض بصمتها الكربونية إذا تم الصيد أو الزراعة بصورة صحيحة. فالمحار، وبلح البحر، كمثال، ليس غنيًا غذائيًا فحسب، بل له أثر إيجابي على الطبيعة. فهو ينقي البيئة من الملوثات، ويمتص الكربون المضر، ولا يحتاج لمدخلات تغذية لإنتاجه. أي منفعة للبيئة وللصحة العامة في الوقت نفسه.
أدلة إرشادية
ولفت الانتباه إلى أهمية الاهتمام بالأغذية الزرقاء في البلدان الأكثر عرضة لخطر الجوع الخفي، والتي تعتمد حاليًا على هذه الأغذية، وتواجه غياب الأمن الغذائي، كبعض البلدان الأفريقية والآسيوية - مثل غينيا وغانا، ومدغشقر، وبنجلاديش - وأكد أنه يمكن التدخل بإنشاء مناطق بحرية محمية، أو حدائق بحرية وطنية تساعد على إعادة تأهيل الأرصدة السمكية في المناطق الساحلية، ليمتد الفائض المعاد تأهيله ويزيد من فرص الحصول على المأكولات البحرية. كما يمكن التفكير في تدابير تجارية وسياسات لضمان الحد من تصدير الأسماك المنتجة في البلدان التي تعاني غذائيًا. وتقنين عمل أساطيل الصيد التي تصطاد للحصول على مسحوق السمك أو تصطاد أنواع مختلفة من الموارد المهاجرة داخل مناطق في البلدان المعرضة للخطر غذائيًا، ثم تصدر بالكامل تقريبًا، أو ما يمكن وصفه بسرقة الموارد الغذائية الغنية من البلدان المحتاجة إليها لصالح بلدان لا تحتاجها من منظور التغذية.
وأكد على ضرورة الوعي بكيفية تحديد كفاءة وديناميكيات العدالة في صناعة تربية الأحياء المائية فيما يتعلق بإنتاج الغذاء. ومنح أولوية للمنتجات الغذائية الزرقاء الغنية بالمغذيات في الخطة العامة للأغذية الزرقاء - كما فعلت إندونيسيا عندما ركزت على إنتاج أنواع الأسماك التي تحتوي على فيتامين أ لمقابلة ما تعانيه من نقص في هذا الفيتامين في نظامها الغذائي - ويتطلب بلوغ ذلك توفير أدلة إرشادية غذائية وطنية لكل بلد من بلدان الأرض، تدمج فيها الأطعمة الزرقاء قصدًا للمساعدة على ضمان الحصول على هذه الأنواع من الفوائد الغذائية في النظام الغذائي بشكل عام.
ونبّه إلى آثار انتشار التغير المناخي على الحياة البحرية وبيئات المياه العذبة، وتراجع القدرة على الحصول على المأكولات البحرية مستقبلًا، حيث تزداد درجة حرارة المحيطات وتهاجر الأسماك نحو القطبين، ويقل المتاح للصيد في المناطق الاستوائية، الأكثر حاجة للغذاء، إضافة إلى ارتفاع نسبة حمضية المحيطات، وزيادة الضغط الحراري، أو الإجهاد الحراري على البيئات البحرية الضعيفة بشكل خاص. وهذا، بخلاف القضايا المتصلة بسلامة الغذاء والمترتبة على ارتفاع درجة الحرارة على الأرض وتحت الماء، كالحاجة إلى توفير تبريد ملائم لمنتجات الغذاء من ناحية، ومواجهة أمراض تنتشر بسبب زيادة أنواع معينة من البكتيريا والفيروسات من ناحية أخرى؛ وغيرها مما يتسبب في زعزعة استقرار مصايد الأسماك، وتراجع فرص حصول الناس على المأكولات البحرية، وارتفاع معدلات نقص المغذيات الدقيقة بصورة أكبر في العالم كله.
معوقات بحثية
يتطلع الباحثون في مجال الجوع الخفي إلى تخطي معوقات، كتناثر بيانات المؤشرات الحيوية الممثلة للسكان لحالة المغذيات الدقيقة، والدراسات السابقة غير الممثلة التي لا تساعد على التقدير السليم لعبء الإصابة، وقدم بعض البيانات وندرتها كتلك المتعلقة بأطفال ما قبل المدرسة، والنساء غير الحوامل في سن الإنجاب، وقلة عدد المسوح الممثلة للسكان التي تشمل بيانات الأطفال في سن المدرسة والمراهقين والحوامل، والرجال، وكبار السن، واختلاف الطرق الميدانية والمختبرية، رغم توصيات توحيدها، مما يصعب من فرص مقارنة النتائج. وهذا إضافة إلى اقتصار جمع البيانات على عدد محدود من المغذيات الدقيقة الأساسية من بين تسعة وعشرين نوعًا. كأن تقوم دراسات على أساس العدد المقدر للمصابين بفقر الدم فقط - والذي لا يعد مرادفًا لنقص المغذيات الدقيقة، لأنه لا يسبب إلا جزءًا منه. كما أن هناك أسبابًا لفقر الدم لا علاقة لها بنقص المغذيات الدقيقة - في الوقت الذي تكون فيه التقديرات الصحيحة للمصابين ضرورية لتوجيه التمويل وترتيب أولويات البرامج.
ومع وجود كيانات مهتمة بموضوع الجوع الخفي، كمنظمة منتدى المغذيات الدقيقة الأمريكية - Micronutrient Forum - يتواصل السعي نحو دعم وتشجيع العمل الجماعي المتعلق بالمغذيات الدقيقة من خلال المنصات والخطط الاستراتيجية بتوفير المعرفة والموارد التقنية، والعمل على الربط بين المستويين العالمي والمحلي لخدمة أفكار رئيسية كمواجهة نقص المغذيات الدقيقة بالتدخل لصالح فئات محتاجة ومعرضة للخطر، وتشجيع الأنشطة ذات العلاقة، وتغذية النساء، وتوفير البيانات المتصلة بسوء التغذية لتجسير فجوة الناقص منها وغير المحدث. والأمل معقود على تعظيم الجهود الحكومية لإزالة المعوقات وتحسين الأوضاع، حتى بعد انتهاء عقد الأمم المتحدة للعمل من أجل التغذية 2016-2025 لتستمر الدول في التزامها بزيادة الاستثمارات الرامية للقضاء على سوء التغذية بجميع أشكاله في كل مكان؛ والتقليل من الأعداد المتزايدة لمن يعانون من غياب الأمن الغذائي والجوع الخفي ■