الكوميديا بين الصناعة الجادة والتحديث الموازي

الكوميديا بين الصناعة الجادة والتحديث الموازي

عادة ما يتم التعامل مع الكوميديا بوصفها معادلة للتفاهة، برغم أن الشواهد تدل على انفتاح أفقها حتى يمكن اعتبارها معادلة لثقافة تعيش حركة مستمرة، يحدوها تطور كبير وسعي حثيث نحو التحديث. ولقد عانت الكوميديا بعض سوء الفهم منذ القديم؛ إذ حلّت ضيفًا مظلومًا منذ ترجم ابن سينا الكوميديا والتراجيديا بالفخر والهجاء، وذلك في ترجمته «فن الشعر» لأرسطو، فقد رأى فيهما مرادفًا قريبًا من ظلال معنى المصطلحين الأجنبيين، فضلاً عن أنه كان يحتكم إلى ما يعلم من أنواع أدبية يستطيع المقاربة بينها وبين النوعين الوافدين. 

 

تغير الأمر مع زيادة الوعي بالمصطلحات الدرامية، فترجموا الكوميديا بالملهاة، والتراجيديا بالمأساة وهو أمر نابعٌ من الالتفات إلى الجو العام المسيطر على الأحداث، وغيرها من تقسيمات لا تقيم حدودًا فاصلة.

وتشهد الأعمال الكوميدية ونجومها اهتمامًا شديدًا في العصر الحديث، وتتنوع منصات عرضها، وبرغم ذلك فإن تاريخها لم يُكتب بعد، ويعتمد الكثيرون مقولات شديدة العمومية تمثل المعالجة المتسرعة، وتعكس نوعًا ازدراء قيمتها وتراجع الاهتمام بها، ومن ثم فلابد أن نثمن - ابتداء - كتابة الدكتور وليد الخشاب لمؤلف كامل عن شخصية فؤاد المهندس، صدر أخيرًا عن دار المرايا بعنوان «مهندس البهجة: فؤاد المهندس ولا وعي السينما»/ مراوحًا بين تحليل أعمال «الأستاذ» - كما كان يُطلق على فؤاد المهندس - السينمائية والتلفزيونية والمسرحية والإذاعية، وإن صرف الكتاب جهده الأكبر نحو السينما. وربما كان فؤاد المهندس واحدًا من قلة جمعت بين المسرح والسينما والإذاعة والتفزيون بتوازن معقول يميل إلى السينما خلال فترة الستينيات محاولاً إزالة آثار النكسة؛ إذ قدم في عام 1968 وحده سبعة أفلام، حاول الكتاب قراءتها مع غيرها بوصفها نوعًا من المبالغة في جرعة الكوميديا لتقديم التسلية والتعزية في أوقات «الاكتئاب القومي» بعد الهزيمة المرة، أو نوعًا من إلقاء اللوم على المجتمع وعيوبه حتى كانت أعمال فؤاد المهندس تجسيدًا لخطابات وتوجهات غالبة داخل المجتمع الناصري، واستمراره في هذا الدور حتى صارت الكوميديا وسيلة لتمرير تفاعلها مع المجتمع ومناقشة التغيرات الجذرية فيه، ولعله أراد إثبات الدور الاجتماعي عبر برنامج إذاعي ظل يقدمه عقودًا وهو «كلمتين وبس»، فضلاً عن إلحاحه على الدور ذاته حين قدم فوازير للأطفال، فجمع الإمتاع مع انتقاد المجتمع نقدًا إصلاحيًا إيجابيًا.

وينطلق الكتاب من فرضين فينظر للكوميديا مسألة صناعة جادة، ورؤيتها على هذا النحو تفيد فهمنا للمجتمع وثقافته وتاريخه، كما أنه يقيم توازيًا بين أفلام فؤاد المهندس وحراك الثورة السياسي والاجتماعي، ويرى أثره باقيًا بسبب من ذلك، وهو ما يفسر زوال آخرين لم يرتبط مجدهم الكوميدي بخلفيات مميزة ورؤية متكاملة تحمل فنهم إلى ساحة الخلود. ويدور الكتاب في أفكار محدودة، ولكن هاجس الشرح هو الذي أدى به إلى حجمه الكبير، ولعله كان منشورًا على هيئة مقالات مفردة، ومن ثم فقد تَقبل إلحاحه على بعض الأفكار، إلى حد تكررت معه فقرات كاملة كحديثه عن دور شهر سبتمبر في حياة فؤاد المهندس وجمال عبدالناصر، أو إطنابه - في مواضع متفرقة - عن دور الاقتباس في الدلالة على محاولات التحديث، والخروج عن صورة المهرج المرتبطة بالكوميديا العربية القديمة، فجمع حداثة الغرب عبر كوميديا الموقف بجانب موروثات البهلوان في الثقافة الشعبية القديمة.

لقد كانت مسرحية «أنا وهو وهي» اقتباسًا لمسرحية «رأي المستشار القانوني» من تأليف جيلبرت ويكفيلد، ومسرحية «حواء الساعة 12»، وهي اقتباس لمسرحية «الروح المرحة» لنويل كوراد، وكذلك «سيدتي الجميلة» عن بيجماليون لبرناردشو، فضلاً عن مواضع عدة يتعالق فيها عمل فؤاد المهندس مع أفلام ومسرحيات عربية عدة، فكان الاقتباس - كما يراه وليد الخشاب - قبسًا نورانيًا للبحث عن حداثة غربية، ومحاولة لتجاوز المهرج القديم. وقد يتطرف الكتاب أحيانًا في قراءة العمل الفني على ضوء فرضيته، ويفتقد أحيانًا قرينة نصية تجيز تأويله، فضلاً عن تكلف الصلة أحيانًا أخرى.

 

علامة كوميديا

لم يتوقف الكتاب كثيرًا أمام تقديم سيرة غيرية لفؤاد المهندس، وتعامل معه بوصفه علامة كوميديا يتجاوز النظرة الدونية ورؤيته مجرد مادة للتسلية، ولم يبالغ في دوره فيصنع الكتاب من فؤاد المهندس صنمًا، ولكنه حاول قراءة أعماله مرتبطة بطبيعة العمل الفني من جهة، ومحكومًا بسياق إنتاجه من جهة أخرى، فلم ينسب له عبقرية طاغية أو أصالة مطلقة فأشار إلى ما يدين به فؤاد المهندس وجيله من ممثلي الكوميديا بالكثير لنجيب الريحاني وريادته والاهتمام الشديد بالجانب الاجتماعي في الكوميديا، وظل على وفائه وإيمانه بدور الكوميديا منكرًا الضحك للضحك.

وبرغم حماسته لظاهرة المهندس تراه يشرح علاقته مع البعض كعمق ما يدين به لعبدالمنعم مدبولي، ويذهب إلى أن الأخير قد «صنع» المهندس. وفي الوقت ذاته يشير الكتاب إلى كثير من ملامح الاقتباس في أفلام فؤاد المهندس انصرف فيها إلى شارلي شابلن وتقليده في حركاته وطريقته الأرستقراطية، مع محاولة لصبغ ذلك بصبغة محلية وكذلك فقد جمع المهندس بين الرقص والغناء والاستعراض في أفلامه، فهو الكوميديان الذي تعتبر أعماله تجليًا لأفكار كانت مكبوتة ومبعدة من مركز المجتمع، مختبئة في هامشه.

وقد جاءت معظم أفلام فؤاد المهندس مقتبسة عن أصول إنجليزية، في سياق يفترض أن يعتمد التحرر الوطني بينما جاءت الكوميديا مقتبسة عن الإنتاج الثقافي للمحتل السابق، وجاءت تابعة في فترة كانت تزهو بالاستقلال الوطني ولكن هذا التعامل يعكس التفاعل الخلاق للحداثة العربية، ولكنه لا يبتعد عن بدايات المسرح عبر الترجمة والنقل ثم التمصير أو التعريب قبل الدخول في مرحلة التأليف.

وبعد النجاح الكبير لفيلمي أنا وهو وهي واعترافات زوج المنتجان عام 1964 كانت جرعة الفارس (Farce) والتهريج لدى فؤاد المهندس، ويرى المؤلف ذلك فرعًا عن توجه الدولة الناصرية لدعم التسلية غير المسيسة الهادفة لإثارة الضحك، حتى لو اعتمدت السطحية، بل والتفاهة لإلهاء الجماهير عن بعض المشكلات الداخلية والخارجية.

 

نظرة سطحية

في الفصل الأول يحاول تقديم مدخل تاريخي اجتماعي لفهم إطار تفاعل المجتمع مع إنتاج المهندس بعد سطوع نجمه عبر برنامج «ساعة لقلبك» ولكن عبر مؤسسات رسمية يراها المؤلف نوعا من علاقة الكوميديا بمحاولات التحديث، وهو ما ينسحب على الرياضة أيضًا من جهة اعتمادها التسلية وصناعة الحشد الجماهيري المطلوب آنذاك، وكيف أصبح الضحك جزءًا من الإنتاج الثقافي للمجتمع، بعيدا عن نظرة سطحية تصف أعمال فؤاد المهندس بالبعد عن الواقعية، ولكنها تناوش التقاليد المستقرة وقد تهاجمها بأسلوب يعتمد على التلطيف اللغوي والمجتمعي والهروب الذكي من الرقابة.

أفرط المؤلف في ربط أفلام فؤاد المهندس بالدعاية للتجربة الناصرية، وبالغ في مظنة اعتمادها على ذلك التوجه؛ فبعض ما ذهب إليه ينطبق على تجارب أخرى بخلاف تجربة المهندس، وبعضه الآخر كان نتيجة فرط حماسته لفرضيته الأساسية، مازجًا بين التحليل الفني العميق والتنظير الأكاديمي الجاف أحيانًا، والمفيد غالبًا مثل حديثه عن «الفودفيل» وتفرقته عن «الفارس» (Farce) بما يشكّل حرجًا لبعض تفاهات تُقدّم الآن، تحاول الانتساب - خطأ - إلى الكوميديا.

بين فصل وآخر يلح وليد الخشاب على اهتمامه الأكاديمي الطابع بالبحث في المصطلحات من جهة، والتوظيف الاجتماعى من جهة أخرى، وهو جهد محمود للغاية لكنه يبغي إقامة حدود فاصلة، والحياة نفسها تنفر من إقامة الحدود، والفن إغارة على الحدود، والمسرح والسينما - بما هما مجال فؤاد المهندس الأساسي- صورة للحياة تحوي جميع خطوطها وألوانها، فدخول التراجيديا إلى الكوميديا وارد من هذا المنطلق كما أن دخول الكوميديا إلى التراجيديا مطلوب بدافع التنفيس عن المشاهد الذي قد يمل ويكتئب جراء كثافة التراجيديا فتكون الابتسامة الصغيرة الداخلة إلى طوفان الأحزان مساعدة على كسر حدة الجو العام للأحداث، وهو الدور الذي كان يقوم به فؤاد المهندس حال قيامه بأدوار ثانوية بعيدًا عن دور البطولة.

وكان المهندس متصالحًا مع تدرجه الطبيعي بين الدور الثاني وأدوار البطولة، ويشير الخشاب إلى ملمح زيادة نزعة المهرج لدى المهندس حين يقوم بالأدوارالمساندة للبطل في مقابل تمثيل أقرب إلى الطبيعية والبساطة حين يكون هو الممثل الأول. وهو الصوت الإذاعي الجاد صباحًا في «كلمتين وبس» والكوميدي مساء في «ساعة لقلبك»، وهو المناهض لأعراف المجتمع في حدود جامحة أحيانًا كما في «أنا وهو وهي» والداعية للفضيلة في «أرض النفاق»، ويربط بين «المهندس» ونموذج الطبقة الوسطى المتأورب، حسب تعبيره، ويؤكد ذكاء المهندس حين أصبح «عمو فؤاد» في فوازير الأطفال، وتراجع عن الفارس مع بداية الثمانينيات؛ إذ لم يعد المشاهد يتقبلها.

ويفهم حضور تيمة القرين في أعمال فؤاد المهندس على أن تأمل فكاهي في التأرجح بين التغريب والعودة للقديم، رافضًا اقتصار الأمر على اعتبارات فترة بعينها، وكذلك لعبه الدائم على تيمة غياب الأب الذي سرعان ما نكتشف أنه لم يمت، وأن غيابه مؤقت ومرهون بالبحث عنه وكأنه دعوة لفهم آخر للجذور/التراث الذي يعاني تجاهلاً أو استعلاء، فبادل تجاهلنا بفرار وغياب مؤقت. 

 

قيمة الكوميديا

 تعبّر الكوميديا عن تحرر وقتي ينعتق فيه الفرد من الواقع المعيش. إنها «إجازة» من الواقع. ولعلّ في ذلك ما يفسر سطوتها في الفترة الأخيرة. ليسـت الكوميـديا - في جوهرها الحقيقي - مجرد ضحك واستجداء «إفيهات» تجذب المشاهدين، بل إنها تستطيع أن تلعب دورًا مهمًا في إعادة بناء المجتمع وتأهيله لمواجهة أمور مصيرية تنتظر الأمم على مدار حياتها. ويُحسب لكتاب «مهندس البهجة» أنه يعيد الاعتبار إلى قيمة الكوميديا وأهميتها وبخاصة أن بحرًا من التفاهات يفور زبده هذه الأيام، أقسى ما فيه أنه يعادل بين الكوميديا والتفاهة ■