ملف غازي القصيبي: في الشعر والرواية والسياسة وأشياء أخرى.. غازي القصيبي.. حياة متشظية

ملف غازي القصيبي: في الشعر والرواية والسياسة وأشياء أخرى.. غازي القصيبي.. حياة متشظية

لم يكن أمامي - وأنا بصدد الإعداد لملف صحفي يحتفي بتجربة غازي القصيبي المتعددة الجوانب، المتشظية بين الكتب، المتفرعة الأصول، والضاربة في كل فج اختلف الكثيرون حول مستوى عمقه - إلا أن أنبه منذ البداية إلى أنه ملف موجز إن لم يكن مبتسرا. فلا يمكن لعدد من الصفحات التي خصصتها مجلة العربي لمثل هذا الملف أن تحيط بالتجربة القصيبية من كل مناحيها، وأنا أصف التجربة بـ«القصيبية» ليس نحتا لمصطلح جديد اعتمادا على فكر عبرت عنه تلك التجربة في كل تجلياتها كما ينبغي مثلا، بل احتيالا على صعوبة الإلمام بتلك المناحي الكثيرة التي سال فيها حبر الراحل الكبير، والتجليات المختلفة التي عبرت عنها بخطه الأنيق الدقيق في تسمية واحدة دالة أكثر من تلك الكلمة الاحتيالية، والتي ربما تشير بشكل أو بآخر الى اتساع التجربة أكثر من إشارتها إلى خصوصيتها، وهو الاتساع الذي ظل يتنامى حتى لحظات القصيبي الأخيرة كما يبدو مما ترك وراءه من كتب ومخطوطات، وكما يقول شهود السرير الأبيض.

نبدأ من النهاية، ولا نهاية لمن ترك وراءه أنهارا من الحبر وأطنانا من الورق وعشرات من العناوين، والكثير من الأخبار والحكايات والأسرار المرشحة بعد موته للتناسل من بعضها بعضًا. لكنها نهاية الكائن البشري الذي قاوم المرض بالمزيد من الكتابة، وكان على وشك الرحيل الأبدي عندما تسلم كتابه الأخير «الزهايمر»، وكأنه يعتذر للذاكرة، والتي لا بد أن أنهكها المرض، بشكل كتابي جديد، وإن كان كما يبدو غير مكتمل من خلال احتفائه بأكثر الأمراض فتكا بتلك الذاكرة في تاريخ البشرية.

قارئ رواية «الزهايمر» يكاد يجزم بأن القصيبي لم يكملها، وأن فصلا، وربما فصولا كثيرة، كانت بانتظار مزاجه في صورته الروائية التي تبلورت في السنوات الأخيرة، ليرسم فيها مسارات وشخصيات وعلاقات ونهايات وربما بدايات أخرى لم تكتمل. لكن نهاية الجسد قد اقتربت لحظتها الأخيرة قبل نهاية الرواية، فكان أن خرجت «الزهايمر» إلى النور، كما يبدو، لتصير الكتاب الأخير الذي يراه غازي قبل أن يغمض إغماضته الأخيرة مبتسما بهدوء بعد أن أعجزه المرض عن إطلاق قهقهته الشهيرة كلما انتهى من حكاية طرفة من طرفه التي لا تنتهي.

سألته مرة في إحدى لقاءاتي القليلة معه إن كان يعتبر نفسه شاعرا من الدرجة الأولى، فرد بتواضع، لم أعتده من القصيبي شاعرًا، قائلا: لا. وعندما أبديت له دهشتي الممزوجة بالإعجاب على الرد غير المتوقع، أضاف بجدية: ولكنك لم تسأليني عن شعراء الدرجة الأولى كما أراهم. قلت له: من تعني؟ أجابني: المتنبي طبعا.. وقهقهة.. منتصرا.

هل كان يعتبر نفسه في المرتبة الثانية بعد المتنبي العظيم؟ شاعره المفضل والذي لم يفارقه في كل ما كتب تقريبا؟ لا أظن، ففي لقاء صحفي لاحق لي معه سألته عن خلافه مع نزار قباني فحكى لي في سياق الإجابة أنه صرح ذات يوم بأنه لا يقارن بنزار لأن نزار أشعر منه بكثير. هذا يعني أن القصيبي كان يعي أنه لم يكن شاعرا من الدرجة الأولى، وأنه يعترف بآخرين، مجايلين له أفضل منه، دون غضاضة، وأنه ربما لذلك حاول أن يكمل صورته الإبداعية التي تبلورت في الشعر وحده في البدايات بأشكال كتابية أخرى كالرواية التي اقتحمها برواية «شقة الحرية»، قبل أن تتوالى رواياته بعد ذلك في مستويات فنية أقل من المستوى الأول. لكنه لم يكتف بتلك الروايات التي كان ماهرا في حشدها بكل معارفه المعلوماتية وآرائه الفكرية بطريقة مباشرة في أغلب الأحيان، فقد أنتج عددًا لا بأس به من الكتب الأخرى مما يمكن إدراجها في سياق الكتب الفكرية والسجالية، بالإضافة إلى كتب المختارات والمقالات..وكل شيء. نعم كل شيء.

لم يكن القصيبي شاعرًا من الدرجة الأولى ولا روائيًا من تلك الدرجة، ولا مما يليها مباشرة إذن، وهو يعرف ذلك، ويعترف به من دون حرج، ولكنها ثقة الشاعر العالية بنفسه، واحترام القصيبي المتزايد لموهبته الإبداعية والتي تجلت في ميادين مختلفة، كانت ميزته الأساسية في السنوات الأخيرة أنه استثمرها بشكل استثنائي. فقد كان يكتب وينشر من دون أن يلتفت إلى الوراء، ومن دون أن يتردد ولو للحظة واحدة. كل ما يكتبه القصيبي صالح للنشر من وجهة نظره، ولذلك تفاوتت مستويات كتبه تفاوتًا رهيبًا بغض النظر عن نوعية الإبداع التي تنطوي تحت جناحه.

يحلو للبعض أن ينظر لغازي القصيبي بصفته، إشكاليا من نوع خاص، فهو القريب من السطلة دائما لم يكن لينسحق تحت وطأتها، وكان الشاعر الروائي قبل أن يكون الوزير السفير، وفي كثير من معاركه الصاخبة كان غازي القصيبي واضحا، بالرغم من الغبار الذي كان يحيط بهذه المعارك منذ معركته الأولى التي أشعل شرارتها ديوانه الشعري الثالث «معركة بلا راية»، حيث نظر إليه بعض المتزمتين عند صدوره العام 1970م نظرة شك سرعان ما تحولت إلى اعتراض ومطالبة بمنعه من التداول، لكن غازي الذي خرج من تلك المعركة منتصرًا استهوته اللعبة فكررها لاحقًا اختيارا مرات واضطرارا مرات أخرى، وعندما أعفي من منصبه الوزاري لأول مرة في العام 1984م بسبب قصيدة انتقادية قاسية كتبها تحت عنوان «رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة»، وهو عنوان تنبأ بالنهاية المنتصرة أيضا، بالرغم من أن غازي يصف ذلك الحدث بأنه «دراما إنسانية معقدة».

ويبدو أن كل الأحداث التي مرت بغازي القصيبي لاحقا في تشابكاتها السياسية والإبداعية ينطبق عليها ذلك الوضع الدرامي الإنساني المعقد، لكنه تعامل معها بخبرته الإدارية المشهود لها، والموثقة في كتابه الأشهر حياة في الإدارة.

على أن إحدى اكثر محطات غازي القصيبي إثارة بالرغم من وضوحها الشديد في انحيازها للحق الإنساني والوطني، والعروبي بصفته الأعمق، هي محطته التي تبلورت في عين العاصفة. فأثناء احتلال النظام الصدامي في العراق للكويت العام 1990 انبرى غازي للدفاع عن الحق الكويتي في سلسلة من المقالات العالية النبرة تحت عنوان «في عين العاصفة»، ثم جاء ديوانه الشعري الذي وثق تلك المحطة شعريا «مرثية فارس سابق»، وصدحت الحناجر بأغنيته التي يحفظها معظم الكويتيين كنبوءة للتحرير والتي قال في بعضها: «أقسمت يا كويت/برب هذا البيت/ سترجعين من خنادق الظلام/ لؤلؤة رائعة/ كروعة السلام»، فحق القسم، ورجعت الكويت من خنادق الظلام، ويأتي القصيبي ليحيي فيها ما أسماه بـ«أم الأمسيات»، وليتوشح بوشاحها الوطني الأرفع.

بقي أن نقول إن القصيبي الذي كثيرا ما استشهد، وهو يواجه معاركه المتلاحقه، بقول الأديب السوري محمد الماغوط: «ما من موهبة تمر من دون عقاب»، كان يكمل القول على طريقته الساخرة: «وما من موقف يمر بلا ثمن»!

هنا، في هذا الملف، الذي ساعد في إعداده الأديب السعودي أحمد الواصل، نحاول، عبر أكثر من مقالة، أن نلقي الأضواء على بعض مواهب غازي القصيبي وبعض مواقفه مرورا بالعقاب والثمن لكل ذلك.

 

 

 

سعدية مفرح