في انتظار الوباء القادم!

في انتظار الوباء القادم!

  لعلّ هذا العنوان الفاجع هو خلاصة ما ينتهي إليه قارئ كتاب «صناعة الأوبئة... الحفاظ على التنوع البيولوجي ضرورة حتمية لصحة الكوكب» لـماري مونيك روبان، ترجمة: محمد السباعي (روافد القاهرة 2023م)، قد يبدو لك العنوان صادمًا خاصة بعد محنة وباء كوفيد19- (مطالع 2020م)، الذي فتك بملايين البشر وحول العالم كله إلى محجر صحي... بكل أسف، لم يزل العالم في منظور جمهرة الباحثين في الأمراض المعدية عُرضةً لمزيد من الأوبئة؛ لسبب بسيط، وهو أن أسباب وجودها قائمة، وكل ما تقوم به البشرية من بحوث تقتصر على معالجة المرض، ولكنها لا تواجه الأسباب التي أدت إلى وجوده وانتشاره. 

 

ما يحاول هذا الكتاب تأكيده عبر مقابلات موسّعة لـ«اثنين وستين» باحثًا، أن كوفيد 19- ليس سوى قمة جبل الجليد، وهم يجمعون على أنّ الحلّ لا يكمن في الاستعداد لوباء آخر، بقدر ما يكمن في معالجة أسباب الخلل بين البشر والبيئة التي يعيشون فيها: البحار والأشجار والحيوانات الأليفة والحيوانات البرية... إلخ. «الحلّ يكمن في التساؤل عن موقع البشر على سطح هذا الكوكب، وعن ارتباطهم ببقية العالم الحيّ، الذين يمثلون منه نوعًا واحدًا فقط من بين الأنواع الأخرى، وفي انسجام تام أيضًا، يقول الاثنان والستون عالمًا: «لا يمكننا أن نقول: إننا لم نكن نعلم».

يتحدث الدارسون هنا عن مفهوم شامل للصحة في التفاعل بين البشر والحيوانات والنظم البيئية، وذلك على النحو الذي يقترحه المروِّجون لـOne Health «صحّة واحدة»  Planetary Health «صحة كوكبية». ولم يأتِ هذا التصور عبثًا، ولكنه يستند على حقائق وخلاصات علمية انتهى إليها البحث في أسباب الأمراض المعدية. 

كان العالم بعد الحرب العالمية الثانية يظن - فيما يقول «ستيفن مورس» - أستاذ فيروسات بجامعة روكفلر بنيويورك - أنه حقق انتصارًا حاسمًا على الفيروسات؛ فقد كان الطب الحديث بمضاداته الحيوية ولقاحاته، والصناعة الزراعية بمبيداتها الحشرية، يقوضان إمبراطورية الأوبئة. وذلك إلى الحد الذي جعل السير «فرانك ماكفارلين بيرنت» – نوبل 1960 - يكتب قائلاً: «إذا لاحظنا المجتمع الطبي في أمريكا الشمالية أو أستراليا، يمكننا اكتشاف أن عددًا كبيرًا من المستشفيات المخصصة لعلاج الحمى قد تم إغلاقها، بينما مستشفيات أخرى تم تحويلها إلى استخدامات أخرى». 

لم تكن هذه مجرد شهادة من باحث مرموق، فقد صاحبتها وقائع متعددة تؤكد حقيقة أن منتصف القرن العشرين يُعد تتويجًا لواحدة من أهم الثورات الاجتماعية الطبية في التاريخ، «وهي القضاء التام تقريبًا على الأمراض المعدية»، وهذا ما جعل منظمة الصحة العالمية تبدأ في تفكيك مكتبها المخصص لمكافحة السُّل والأمراض المعدية، وكذلك فعلت الولايات المتحدة.

لم تفرح البشرية بهذا الانتصار طويلاً، فسريعًا ما هبت رياح الذعر على الأطلسي عام 1988 عندما اكتشف الدارسون أولى حالات السّل المقاوم للمضادات الحيوية، لم يكن أحد يتوقع ذلك، بل على العكس، كان الباحثون يعتقدون أن هذا المرض أصبح من الماضي!

وبدأت سلسلة الأوبئة في الظهور، مثل داء الفيالقة في 1976 والإيبولا 1969م وصاعقة الإيدز 1981م... يحدد مورس حجم الإشكال بأن المعامل تركز على العملية التطورية أو «الطفرة وإعادة تجميع الجينات»، دون انشغال كافٍ بـ«العوامل التي سمحت بمسببات الأمراض الحيوانية المنشأ - أي من أصل حيواني - التي تقفز فجأة إلى الإنسان».

يتحدث «مورس» من زاوية علمية خالصة، وبعيدًا عن أي كلام حول نظريات المؤامرة، ليؤكد على أن الفيروسات تنتشر عبر طريقين:

الأول: وراثي، ويقصد به العملية التطورية، وفيها «يدخل العامل المسبب للمرض والذي يأتي عادة من منشأ حيواني، إلى مضيف جديد، حيث يخضع لإعادة الترتيب أو إعادة التركيب قبل أن ينتشر في مجتمعه السكني الجديد». 

والآخر: بيئي واجتماعي، وله علاقة مباشرة «بتطوير الزراعة وأنشطة صناعية معينة، مثل التعدين وقطع الأشجار، مما يسمح للإنسان بالتلامس مع الحيوانات البرية ومسببات الأمراض المتداخلة في مناطق طبيعية لم تمس من قبل».

 

لمحة تاريخية 

يقدم الكتاب في كل فصل لمحة تاريخية تؤسس لتاريخ الأوبئة وعلاقتها بالبشر، والملاحظ أن علاقة البشر بالأوبئة قديمة وراسخة، وهذا مقبول في ظل الفرضية الأساسية التي يركز عليها الباحثون، وهي أن الأمراض المعدية مرتبطة بالأساس بنشاط الإنسان، أو بتعبير أدق بالتوسع في هذا النشاط، الذي يمتد تاريخيًا عبر تدجين الحيوانات، فقد دجّن الإنسان الكلب منذ أكثر من 17000 عام، ومع ثورة العصر الحجري الحديث أي قبل 12000 عام ظهر التدجين بشكل موسّع في آسيا وإفريقيا وأمريكا، فَدُجِّنت في آسيا: البقر والخنزير والدجاج والبط، وفي إفريقيا: الحمام ودجاج غينيا، الأوز والحمير... إلخ. 

وما يؤكده الدارسون هنا أن عملية التدجين بحد ذاتها ليست سهلة، فهي عملية مجهدة للحيوانات، ومن ثم تصبح بيئة خصبة لانتشار العدوى، وباقتراب هذه الحيوانات من البشر تمرّ من خلالها العوامل المعدية، مثل فيروس الطاعون البقري الذي تستضيفه الماشية - ظهر في القرن السادس قبل الميلاد - ليتسبب في الإصابة بالحصبة.

والملاحظ، أو ما يجب التأكيد عليه، أن العدوى لا تنتقل من الحيوانات إلى البشر فقط، إذ يُمكن للبشر أن ينقلوا بدورهم العدوى إلى الحيوانات أثناء حقبة التدجين، فعلى سبيل المثال وجد أن عامل السل البقري منحدر في الأصل من عامل السل البشري.

ولا يقف البعد التاريخي عند هذا القدر، إذ يلح الدارسون على ارتباط الأوبئة بنشاط البشر وانتقالهم من مكان إلى آخر عبر السفر أو الهجرة... ولعل حركة الاستعمار كانت من أكثر المحفزات لانتشار الأوبئة، فتاريخيًا أيضًا «يرتبط المرور المتكرر للفيروسات من الرئيسيات (مثل القرود) إلى البشر بأنشطة صيادي وبائعي لحوم الطرائد، لكن الظهور الحقيقي مرتبط بالتوسع الاستعماري الذي بدأ في القرن التاسع عشر، حيث أدت الطلبات على العاج والخشب ثم الكاوتشوك، مع إزالة الغابات بشكل كبير، إلى جانب العمل القسري للقرويين في المزارع وبناء السكك الحديدية، إلى تغيير النظم البيئية والمجتمعات التقليدية التي تسهل انتشار فيروسات جديدة». هذا ما صنعت أيدينا!

الأمر إذن يتصل - في الماضي والحاضر - بالنشاط البشري، ولكنه في الحاضر بدا أكثر حدة وجذرية؛ نظرًا للتوسع في العدوان على الطبيعة، وهذا بالضبط ما تقرره منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة FOA، إذ «تعد الزراعة الأحادية لأشجار المطاط ونخيل الزيت بمثابة «غابات»، وهي أشجار غالبًا ما تزرع بعد تدمير الغابات الاستوائية، وأظهرت عديد من التحليلات البعدية أن هذه المزارع ليست صحية، من حيث التنوع البيولوجي أو صحة التربة أو الأمراض المعدية، فهي توجد أرضًا خصبة لأوبئة الأمراض المنقولة بالنواقل، مثل حمى الضنك أو فيروس زيكا أو شيكونجوفيا التي تنتقل عن طريق البعوض».

ولا يتوقف الأمر على قطع الغابات وتغيير البيئة، وما يترتب عليه من فقدان الموائل الطبيعية لأنواع متعددة من الحيوانات والطفيليات، لا يتوقف الأمر عند هذه التغييرات الكبيرة أو الملحوظة فحسب، ولكنه يمتد ليشمل التغييرات الجزئية التي قد لا ننتبه لتأثيرها القوي، ومن ذلك مثلًا عمليات شقّ الطرق داخل الغابات؛ إذ تتسبب في حدوث «نوبات مناخية صغيرة»؛ تنتج عن ارتفاع درجة حرارة الأرض، وغني عن التأكيد أن شقّ الطرق يتطلب إزالة كثير من الأشجار على طول هذه الطرق، ويتسبب ذلك بشكل مباشر في تفتيت المجتمعات الحيوانية وتشتيتها، وقد يجبر الثدييات الكبيرة إلى الهرب من النشاط المثير للاضطراب على الطريق، فتضطر بعض الحيوانات إلى تغيير سلوكها في بعض الأحيان، وفوق هذا كله فإن شقّ الطرق ذاته مقدمة لنشاط صناعي أو زراعي أو تنمية حيوانية، واستقرار البشر وانتشار الصيد الجائر... إلخ.

يتحدث الباحثون هنا عمّا يطلقون عليه الفيروسات الناشئة، أي الفيروسات الجديدة، ولنا أن نعلم وفق سيرج مورون - الباحث بمركز التعاون الدولي في البحوث الزراعية - أن ما تم وصفه من «الطفيليات لا يزيد عن %10 وهي مع الميكروبات والفيروسات تمثل أكثر من نصف الكائنات الحية على الأرض».  

ما يحاول الدارسون التأكيد عليه أننا نحتاج إلى تعديل علاقتنا بالبيئة، وهو ما يعني أن على العالم أن ينتبه إلى المخاطر التي تحدق به، فالتحديات الكبرى في عالمنا تحديات بيئية في المقام الأول.

 ما يؤكد عليه البرفسور شهيد نعيم - أستاذ علم البيئة والتطور والبيولوجيا البيئية بجامعة كولومبيا - هو استعادة الموائل الطبيعية وزيادة التنوع البيولوجي وزراعة الأشجار، فذلك أنجع وسيلة لمواجهة الاحتباس الحراري ونشاط الفيروسات المعدية، وهذا يوجب على الإنسان تغيير نظرته إلى البيئة وإلى وجوده في الحياة، باعتباره جزءًا من الطبيعة وليس أسمى ما فيها، ولا يجب أن تقاس فائدة الطبيعة بما تقدمه لنا من منافع أو بما تقدمه من فوائد، فكل ما في الطبيعة هو جزء منها، والفيروسات جزء من الطبيعة، بما يعني أنها في ذاتها لا تمثل مشكلة، ولكنها تصبح مشكلة بسبب السلوك البشري. 

وخلاصة القول هنا، أن صحة الإنسان ورفاهيته مرتبطتان بشكل وثيق بالتنوع البيولوجي وصحة النظم البيئية... و«حقيقة الأمر أن أصغر حلزون في عمق ألف متر تحت سطح البحر، أو أي طحالب بسيطة على سطح الغطاء الجليدي في القطب الجنوبي تساهم في عمل كوكب حيّ، لأن كل الأشياء مرتبطة ببعضها... إذ لا يمكن لرفاهية الإنسان أن تزدهر إلا في عالم طبيعي مستدام ومرن». 

 

درس كوفيد - 19

ربما كان المتوقع بعد زلزال هذه الجائحة أن ينتبه البشر إلى ما يحيط بهم من مخاطر، فيعملوا على مواجهتها أو التقليل من مخاطرها، ولعل هذا ما كان يدور بعقل ماري مونيك وهي تقابل هذا الحشد الفريد من هؤلاء العلماء من مختلف الجامعات الكبرى، فكانت تكثر من سؤال حول كوفيد: أسبابه وطرق مواجهته وهل نحن على موعد مع وباء قادم؟

سأكتفي هنا بعرض ثلاثة أسئلة وثلاث إجابات:

السؤال الأول: للبروفيسور لـ بيير إيبش - أستاذ الحفاظ على البيئة: هل كانت جائحة كوفيد19- متوقعة؟ 

الجواب: بالتأكيد! لأن الفيرس نتاج سلسلة من الأحداث ذات الأصل البشري التي تجعلنا هشين ومعرضين لأي شيء في أي وقت... مثل الضغط على النظم البيئية، والكثافة السكانية، والعولمة وطريقتنا في الحركة الفائقة، كل ذلك يجعل من هذا الوباء نتيجة مباشرة لعلاقتنا بالطبيعة وهوس غزونا للبيئة. السؤال الثاني: للبروفسير شهيد نعيم: هل غيرت جائحة كوفيد19- الطريقة التي ننظر بها إلى البيئة؟

الجواب: «أتمنى ذلك، لكن لسوء الحظ لست متأكدًا مما نفعله حقًا، أخشى أننا نكتفي بالبحث عن حلول تكنولوجية بحتة، والتي تتمثل في هذه الحالة في لقاح أو دواء، دون محاولة للتحديق الدقيق لما سمح لفيروس غير معروف حتى الآن بإصابة ملايين الأشخاص».

السؤال الثالث: للبروفيسور ماليك بيريس (أستاذ الفيروسات): إذا كنت تقرر أن الحيوانات الأليفة هي جسر وبائي بين الحيوانات البرية والبشر، وأن الخنازير تلعب دورًا مركزيًا في الشبكة المعدية التي يتشاركها البشر والحيوانات الأليفة، وأنه عندما يجد فيروس حيواني المصدر مفاتيح الانتقال إلى الخنازير فقد اكتشف بذلك الطريق الملكي لإضفاء الطابع الإنساني عليه... إذا كان ذلك كله مقررًا وثابتًا، فهل نسير في الطريق الصحيح؟

وكان جوابه: «لن أخفي عنك أنني مكتئب للغاية، إذا لم نُعد التفكير بشكل جذري في علاقتنا بالطبيعة والحيوانات، فسوف ندخل حقبة من الحجر المزمن الذي سيكلفنا الكثير من الناحية الإنسانية والاقتصادية».  

لنجعل هذه الإجابات خاتمة لهذا الكتاب المهم، الذي لم يكتف برصد الظاهرة ولكنه وضع أيدينا على الحل، كما أنه لم يروج لنظريات وافتراضات لا يمكن التثبت منها حول المؤامرات، واكتفى بالنظر في حقيقة الفيروسات وسلسلة تطورها وأسباب ذلك. 

القيمة الحقيقية لهذا الكتاب أو التحقيق المطول أنه عقد مقابلات مع اثنين وستين عالمًا، حول موضوع واحد، والأهم فيما تقرر ماري مونيك في خاتمة الكتاب «أنه لا يوجد أحد لم يعرب عن قلقه بشأن المستقبل القريب للبشرية».

لنقل إن هذا الكتاب بمنزلة ناقوس خطر أو طلقة تحذيرية نتوجه بها إلى أنفسنا وإلى المؤسسات المحلية والدولية ليقوم كل فرد وكل مسؤول بدوره تجاه الطبيعة، الطبيعة التي خلقها الله متوازنة، وصالحة، ولكن تدخلنا فيها أفسدها برًّا وبحرًا... فلن تكون جائحة كوفيد19- آخر الجوائح، إذا استمر سلوك البشر تجاه الطبيعة على ما هو عليه من تدمير وتخريب ■