«مخخة المتون»
يروي أمين نخلة في كتابه «في الهواء الطلق» أن مجلسًا جمعه في بيروت بالعلامة الكرملي صاحب مجلة «لغة العرب» ودار الحديث فيه عن الكناية والمجاز والاستعارة وتحجّر الواسع في العربية. فقال أمين نخلة للكرملي: ما لنا في هذا الزمن، زمن السيارة الكهربائية، لا نزال نقول، مثلًا فلان شديد الشكيمة، وإنما الشكيمة الجديدة المعترضة في فم الفرس. فقال الكرملي: تريد إذًا أن نقول شديد الديركسيون... ويضيف أمين نخلة في كتابه: فأنفتُ أنا من مجاوبته وأمسكت عن الحديث. وهنا تدخّل بعض مَن كان في المجلس فقال: لا هذه ولا تلك، بل نقول عنيد، ويتم المعنى.
وينشر أمين نخلة بعد ذلك في مجلة «المشرق» فصولًا في طائفة من دقائق اللغة متخذًا لها هذا العنوان «مخخة المتون» من سجعة للإمام الزمخشري في «الأساس»، وهي قوله: «الزيت فخ الزيتون والمحواشي مخخة المتون»، فما كان من الكرملي إلا أن تصدّى له فنشر في مجلة «العرفان» فصلًا إضافيًا بعنوان «نظرات في مخخة المتون» قال لأمين نخلة فيه أشياء من نحو: «استغربت هذا العنوان وقلت في نفسي: لعلّه يحاول أن يعلّمنا اللغة الواقواقية»، ولاذ أمين نخلة مرة أخرى بالصمت ولم يجاوب الكرملي.
وقد حلّت لي كثيرًا عبارة الأنفة من المجاوبة الواردة في حكاية الأمين ووحّدت فيها من النبل ما يستحق الإشارة إليه. بدايةً لا تتضمن عبارة الأنفة من المجاوبة موقف تكبّر أو هزيمة. ذلك أنه كان باستطاعة أمين نخلة أن يردّ على الكرملي وأن يسفّه ما ذهب إليه بل وأن يجعله أضحوكة المجلس. ولكنه آثر عدم الدخول في مواجهة معه لاعتبارات كثيرة، وأنف بالتالي من مجاوبته ولاذ بالصمت. ولا شك في أن عدم المجاوبة في ذلك المجلس وفي مجالس ومنابر أخرى، يتضمن نبلًا وابتعادًا في الوقت نفسه عن السلبية. فأيّ سلبية في موقف أراد صاحبه منه، ولو بصمت، زجر الضحالة وترك الساحة للرداءة تصول فيها وتجول. ومن غير الممكن اعتبار عدم المجاوبة ضعفًا، فهو في حقيقة أمره شجاعة ورغبة في عدم خوض معركة أو معارك يتمنى كثيرون خوضها أو المشاركة فيها في حين ينسحب سواهم منها.
لأسباب كثيرة من تجنب هدر الوقت أو صرفه في ما لا يجدي، فضلًا عن أن المرء كثيرًا ما يجد نفسه أمام مَن يأنف من مواجهته. فكثيرًا ما يصاب المرء بالإعياء أمام الثرثرة وأخواتها. ومع أنه لا يُنسب لساكت قول، كما يقول الفقهاء فإن الساكت في حضرة الضحالة يقول أشياء كثيرة ولا يمكن اعتباره ساكتًا ■