القوة الناعمة هل يمكن أن تكون سلاحًا؟

القوة الناعمة هل يمكن أن تكون سلاحًا؟

يبدو السؤال متناقضًا، فكيف تصبح القوة الناعمة سلاحاً خشنًا وكيف يمكن أن تخرج الوردة من غمدها لتحارب؟ فعلى مدى التاريخ لم تكف الجماعات البشرية عن التحارب، وهناك دائمًا سبب لقيام الحروب رغم كلفتها الدامية. لقد تصارع البشر حول الأرض، من يملكها ومن يرغم على الرحيل عنها؟ وحول المياه، من يمتلك الآبار ويتحكم في مسيرة الأنهار؟ وحول مصادر الطاقة، سر القوة والثروة لمن يمتلكها؟

 

أسباب تبدو منطقية، ولكن هناك حروبًا لم تكن منطقية على الإطلاق، فقد حاربت مدن اليونان كلها مدينة طروادة لعشرة أعوام من أجل امرأة، وحارب الإنجليز الصين ليرغموها على تعاطي الأفيون، وتحاربت دولتان في أمريكا اللاتينية من أجل مباراة في كرة القدم، صوت الحرب يعلو على كل الأصوات، فالتاريخ الإنساني هو سلسلة متصلة من الحروب، لم يعرف السلام إلا لمدة 150 عامًا وسط آلاف السنين، فقد انتصرت الدولة الرومانية على كل أعدائها، ولم يعد هناك من له القدرة على مقاومتها وفرضت نوعًا من حظر الحرب فيما يسمى «السلام الروماني»، ولكن هذه الفترة انتهت مع زوال روما وسقوطها تحت جحافل قبائل الشمال، وارتفعت أصوات طبول الحرب في كل مكان، ومع تطور العلم تطورت وسائل القتال وأصبحت أكثر فتكًا في الوقت الذي لم تتطور فيه وسائل تطبيب الجروح بالدرجة نفسها، وقد أحدث هذا خللًا في توازن الحروب، فأصبحت أشد عنفًا والضحايا أكثر عددًا، ومع ظهور القنبلة النووية وأسلحة الدمار الشامل أصبحت الحرب أشبه بانتحار للبشرية.

 

 بعيدًا عن القوة الخشنة

في إحدى جلسات مؤتمر دافوس الاقتصادية سأل أحد الصحفيين كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: لماذا تلجأ أمريكا في حروبها إلى القوة الخشنة وتتجاهل قوتها الناعمة؟ لم يجب الوزير ولكنه حدق فيه مستغربًا، كان باول عسكريًا في الأساس، لا يدرك أن للقوة وجهًا آخر، وأنها بالتأكيد لا تتفق مع النعومة، ربما كان الرجل الخطأ الذي يطرح عليه هذا السؤال، ولكن أمريكا كانت من أكثر الدول التي تعرف أهمية القوة الناعمة، فقد فشلت أكثر من مرة في فرض إرادتها بالقوة، واضطرت للانسحاب بطريقة مهينة أحيانًا، بل إن واحدًا من مفكريها هو الذي صاغ مصطلح «القوة الناعمة» هو الدكتور جوزيف ناي العميد السابق لجامعة هارفارد ومستشار الرئيس كلينتون للشؤون السياسية، فقد وضع في بداية التسعينيات كتابًا مهمًا يشرح مفهومه للقوة الناعمة، وهي قوة ذكية لا تُغني عن القوة الخشنة العسكرية، ولكنها وسيلة وأداة من أدوات الحرب، ولكن بأسلوب ناعم يستهدف في الأساس الهيمنة على الشعوب الضعيفة، وحسب رأيه فإن «القوة الناعمة» وسيلة أكيدة للنجاح في السياسة الدولية مع الدول التي لا تتحمل أي نوع من المغامرات العسكرية، فهي في هذه الحالة سلاح مؤثر يحقق أهداف أمريكا عن طريق الجاذبية والإقناع بدل إرغام الدولة أو دفع الأموال الطائلة لها، وموارد القوة الناعمة لأي بلد هي ثقافته بالدرجة الأولى إذا كانت تتمتع بالقدر الأدنى من الجاذبية في قيمه السياسية عندما يطبقها بإخلاص داخليًا وخارجيًا.

تقف أمريكا وسط عالم تستطيع التأثير فيه بقوى غير السلاح، فالعديد من الدول،  تعاني من فشل بناء الدولة الوطنية، فقد صعدت هذه الدول بعد رحيل الاستعمار محمّلة بوعود وآمال لم تستطع أن تفي بها، وتعرضت للعديد من الضغوط الاقتصادية والحصار السياسي، بحيث عجزت عن أداء دورها، وأصبحت عرضة للتفكك، والبديل هو الدولة الطائفية والعرقية، ولكن المخاوف هنا وهي بالرغم من كل الشعارات البراقة التي تسوقها أمريكا حول إقرار الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان والتأكيد على الحريات العامة، فإن الكثير من علامات الشك من أن الهدف الفعلي هو إضعاف الدول حتى تمهد الطريق لنفسها ولحلفائها لتفرض سيطرتها على الجميع. 

 

قوة روحية ومعنوية 

إن قوة الدولة الناعمة، وحتي تكون لها مصداقية، يجب أن تمتلك قوة روحية ومعنوية لتجسد ما تطرحه من أفكار ومبادئ من خلال فنها وآدابها، أي أن الثقافة هي طريقها الأمثل للتعبير عن قوتها الناعمة، وأن تكسب من خلالها احترام الآخرين، وأن تستطيع التأثير في سلوكهم عبر الجاذبية والاحتواء، دون حاجة لاستخدام القوة أو الإكراه، ولا يعني هذا أن تستخدم قوتها الناعمة فقط ولكن مثل أمريكا يجب أن تبقي قوتها الصلبة في موقف الاستعداد فهما يكملان بعضهما البعض.

 

تحديات تواجه العرب

عالمنا العربي في وضع لا يحسد عليه، فعليه أن يتخذ خيارات صعبة في وقع معقد مليء بالتهديدات، وتمثل إسرائيل تهديدًا حقيقياً لا يقتصر على أرض فلسطين، ولكن أطماعها تمتد إلى أماكن أوسع، وإسرائيل لا تخفي ذلك بل تعلنها وتوثقها في خرائطها، لذلك علينا أن نعي ونحن نختار الطريق الذي نسلكه أن هناك عدوًا يترصدنا ويهدد الاستقرار في منطقتنا، والمشكلة في صراعنا مع إسرائيل، أننا نحتاج إلى سلاح متطور لا يمكننا تصنيعه، وإذا أردنا أن نتصارع معها على المستوى الخشن فلن نستطيع المواصلة دون مصدر محايد للسلاح وهو الأمر الذي لم يوجد بعد.

بشكل عام، فلا يوجد في العالم العربي دول عدوانية بالمعنى السياسي المعروف، أو دول تحاول فرض سياستها على الآخرين، لذلك لا تحاول أي منها أن تكون مدججة بالسلاح كما تفعل إسرائيل، وما تملكه الجيوش العربية في معظمها هي أسلحة دفاعية تحاول أن تتقي بها عدوان الآخرين، فقد اتخذ العرب بطبيعتهم أسلوب القوة الناعمة اعتمادًا على تراثهم وتاريخهم الموغل في القدم، فالأرض العربية هي التي احتضنت كل الأديان السماوية بكل ما فيها من تعليمات تحض على المحبة والإخاء، فالمبادئ الإنسانية العامة هي جزء من تراثها ونتاج حضارتها، ولا ننكر أنه كانت هناك بعض الخلافات العربية التي ترتب عليها بعض من الصراعات، ولكنها أوضاع يجب أن تنتهي وعلى العرب استخدام قواهم الناعمة في التعامل مع العالم.

العرب وقوتهم الناعمة

مصر كان لها السبق في استخدام قوتها الناعمة، واستفادت من الرابط الأعظم الذي يجمعها مع بقية الدول وهو رابط اللغة، وتسلمت راية الريادة في الآداب والفنون، وكانت أول من اقتحم عالم السينما وأنتجت أفلامًا ناطقة باللهجة العامية المصرية التي أصبح العرب على اختلاف ثقافاتهم يفهمونها، وكذلك الأمر بالنسبة للإنتاج الأدبي، فقد أصدرت الكتب والمجلات التي تسافر للأقطار العربية النائية بأرخص الأسعار، فقد كانت تمتلك بفضل قوتها البشرية أكثرية عناصر القوة الناعمة بين العرب إضافة إلى وجود أغلب الحائزين على الجوائز الأدبية والفنية والعلمية في المنطقة إلى مصر، كما تجتذب البلاد سنويًّا عددًا كبيرًا من السياح العرب، ويمثل «الأزهر» مركز إشعاع روحي لشعوب العالم الإسلامي، سواء من خلال الوفود الكثيرة التي يرسلها إلى البلدان الشقيقة، أو من خلال الطلاب الآسيويين والأفارقة والأوربيين الذين يفدون إلى جامعة الأزهر لينهلوا من علومها الدينية. 

ومع تأثر الدور المصري بسبب الظروف الاقتصادية، برز المشروع الثقافي الكويتي بعده بسنوات، فقد صدرت مجلة العربي في أواخر الخمسينيات، تحمل النتاج الفكري والثقافي من كل كتاب العربية، لتدخل في كل بيت عربي، ولا زالت المجلة تقوم بهذا الدور حتى الآن، وقد لحقت بها جهود المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ليواصل نشر الثقافة الجادة من خلال سلاسل الكتب والمجلات المتخصصة، إضافة إلى إقامة المهرجانات الفنية التي يشارك فيها النجوم العرب، ومع ازدهار دول الخليج وتحسن مداخيلها الاقتصادية تقدمت الدول الخليجية إلى المشهد الثقافي العربي، وعرضت فيه إسهامات رائعة في الترجمة والطباعة والنشر وإقامة المؤتمرات والملتقيات الثقافية والفنية.

 

إسرائيل والوجه الدموي 

على الجانب الآخر يقف العدو متحفزاً، ففي الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بالعدوان على الشعب الفلسطيني وترتكب دون وازع من ضمير عشرات المذابح ضده، تحاول أن تغزو عقول الشباب العرب والمسلمين المهتمين بالشأن الفلسطيني، وذلك بغية القيام بعملية غسيل دماغ تدريجية، من خلال قلب الحقائق، ومحاولة تبييض صورة إسرائيل العنصرية، وهي تستخدم قوتين في آن واحد، وهما القوة العسكرية والقوة الناعمة، وذلك باستخدام الماكينة الإعلامية الإسرائيلية الموجهة، والاعتماد على الإعلام الأمريكي والأوربي الرسمي الذي يعتبر إسرائيل واحة للديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، رغم عنصريتها التي انكشفت أخيرًا، وقد نجحت إسرائيل في السنوات الماضية في استثمار قوتها الناعمة وأقامت شبكة من العلاقات التجارية والسياسية الواسعة مع القارة الأوربية، أو مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو مع القارة الإفريقية، وآسيا، وساعدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على تهيئة الظروف لبناء علاقات إسرائيلية تجارية وسياسية وثقافية مع دول مختلفة في العالم، خصوصًا بعد انتهاء الحرب الباردة. وتستهدف هذه النشاطات لتعزيز القدرات المهنية من خلال الدمج بين البعدين النظري والعملي، والدمج بين البحث العلمي وتطبيق المشروع على أرض الواقع، وذلك عبر التعاون مع وزارات مختلفة ومعاهد مهنية وأكاديمية ومراكز بحث في إسرائيل. وترى إسرائيل أن قوتها العسكرية المتطورة وامتلاك الخيار النووي ضمانان قويان لأمنها من جهة، ولاستمرار نفوذها في إطار العلاقات الدولية من جهة أخرى، خصوصًا أن قضية الأمن تعتبر القضية الأهم في إطار الاستراتيجية الإسرائيلية. 

ولكن الصورة البراقة لإسرائيل قد تهاوت الآن، فقد غرقت في حمام الدم الذي تقيمه في غزة الآن، وأصبح شباب العالم يدركون أنها مجرد كيان استيطاني يريد أن يستولي على الأرض ويبيد سكانها الأصليين، وأنها ليست واجهة حضارية ولكن مجرد وجه قبيح دموي، ويعرفون أن إسرائيل لا تعترف بالقوة الناعمة لأن عقيدتها الأولى هي التوسع والعدوان ■