الحراك الطلابي بالجامعات الغربية دفاعًا عن فلسطين
شكّل الحراك الطلابي بالجامعات الأمريكية والأوربية وفي العالم «الغربي»، حدثًا بارزًا في الساحة العالمية، بل حدثًا مفاجئًا لكل المتابعين ولصنّاع القرار وللرأي العام. ذلك أنه مع بدء طوفان الأقصى الذي جرى يوم السابع من أكتوبر 2023، والذي نفذته حركة حماس وذراعها العسكري «كتائب القسام» بمعية فصائل المقاومة الأخرى، فجر ردود فعل متابينة، بل منددة للهجوم من طرف الآلة الإعلامية الغربية المدعومة من طرف اللوبي الصهيوني المتغلغل في دواليب صنع القرار في هذه الدول.
وقد كان لافتا أن ينجر بعض المفكرين المرموقين من أمثال «يورغان هابرماس» للتنديد بهذا «الهجوم» (الذي هو دفاع عن النفس ومقاومة مشروعة لمن سلبت أرضهم واستبيحت أعراضهم). ولم تمض سوى أيام معدودات، حتى انفضح الكيان الصهيوني من خلال أعمال الإبادة الجماعية والتوجيع والقتل الجماعي للبشر وللحيوان، والحرق العشوائي لقطاع غزة الذي لم يعد صالحًا للعيش، بعدما دمر هذا الكيان كل معالم الحياة فيه. ويمكن القول إننا نشهد أكبر وأخطر إبادة جماعية لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث، والذي ترتكبه العصابة الإجرامية لدولة «إسرائيل» على الشعب الفلسطيني وعلى قطاع غزة تحديدًا.
في هذا السياق المحموم، والذي أهدرت فيه الحكومة المتطرفة الصهيونية (أو النازيون الجدد) العديد من الأرواح (أزيد من 36 ألف شهيد والذين لم يسلم منهم لا الأطفال ولا الشيوخ ولا النساء ولا الأطباء ولا الصحفيين ولا كوادر العمل المدني سواء من جنسيات فلسطينية أو عالمية)، وأكثر من 80 ألفًا من الجرحى والمعطوبين والمصابين، والذين من المرجح أن ينضافوا إلى عداد الشهداء، بسبب تدمير الكيان الصهيوني لكل المستشفيات المتواجدة في قطاع غزة، وعدم السماح للمرضى والمصابين بالخروج للعلاج خارج قطاع غزة. وبعد أن شاهد العالم بشكل مباشر الإبادة الجماعية للفلسطينيين والغزويين، انتفض الرأي العام معبرًا عن غضبه من هذه الأعمال الوحشية غير المسبوقة، من خلال المظاهرات والوقفات والتعبيرات الاحتجاجية التي تنوعت في أشكالها ومظاهرها (كحصار محطات المترو أو القطارات أو الشوارع الرئيسية) وأمام البرلمانات ومقرات الحكومات وأمام السفارات وغيرها، مما أحدث ضغطًا كبيرًا وعارمًا على الدول الأوربية وعلى الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا والتي تساند العدوان الصهيوني.
حراك جامعي
وقد انخرط الطلاب والطالبات والأساتذة في الجامعات المرموقة عالميًا في الولايات المتحدة الأمريكية كهارفرد وكولومبيا وييل وماساشوتس وتيكساس وكالفورنيا وبوسطن وغيرها والتي وصل عددها إلى 75 جامعة. وبعدها اتسعت رقعة الاحتجاج إلى جامعات أوربية عريقة (كأكسفورد وكامبريدج ببريطانيا والجامعة الحرة ببلرين ألمانيا، ومدرسة العلوم السياسية والسربون بفرنسا وجامعات أخرى ببلجيكا...) وبأستراليا. فكيف يمكن قراءة هذا الحراك الطلابي في أرقى الجامعات العالمية دعما للقضية الفلسطينية؟ ما هي الآليات التي استند إليها في حراكه؟ ما هي تداعيات ذلك على دعم القضية الفلسطينية سياسيًا واستراتيجيًا؟
هناك بعض وسائل الإعلام المأجورة والتي يمسك بها اللوبي الصيهوني في دول الغرب (أمريكا وأوربا وأستراليا)، وحتى بعض الباحثين للأسف (كحالة عالمة الاجتماع اليهودية «إفا اليوز») من ادّعت أن هذا الحراك الطلابي ليس سوى تسلسل الطلاب العرب وسط الطلاب في هذه الجامعات، وتجييش الرأي العام لمعاداة السامية وهي الحجة التي وظفتها الباحثة اليهودية (إيفا إلوز- Eva ILLouz) صاحبة العديد من الكتب التي تعالج إشكالية الحب والعواطف في زمن النيوليبرالية، ولعل آخرها كتابها الموسوم بـ la fin de l’amour:enquête sur un désarroi contemporain Edition Seuil, 2020. وهي أيضًا الحجة التي يسوقها صناع القرار في الدول الغربية لتكميم الأفواه ومحاصرة الأشكال الاحتجاجية التي أطلقها الطلاب وعموم المواطنين الأحرار في العالم الغربي. وقد فند هذه الحجة، مشاركة العديد من المواطنين اليهود الذين يحتجون على دولة «إسرائيل» لممارستها الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. وقد كان وقع ذلك كبيرًا على كل من يقف مع «إسرائيل» ويساندها ويدعمها سواء بالمال أو بالسلاح أو بالدعم السياسي.
إذن على الرغم من كون وسائل الإعلام وصناع القرار وبعض أشباه المثقفين من الذين انخرطوا في دعم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وعلى كل فلسطين، إلا أن الحراك الطلابي أربك الجميع، بل أحرج الحكومات الغربية التي تتشدق بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، فلأول مرة في حياتنا نشاهد كيف تحولت الجامعات الغربية العريقة، مسرحًا لتدخل قوات الشرطة والأمن لمنع الطلاب من التعبير سلميًا عن موقفهم المؤيد للقضية الفلسطينية ورفضًا للإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة الأبية.
سقوط الأقنعة
وكم كان مفاجئًا للجميع أن يرى كيف تحولت «القيم الغربية الديمقراطية» إلى سراب وإلى تحكم وتسلط واستبداد مما جعل البعض يطالب بإعادة النظر في هذه المنظومة القيمية التي يحملها الغرب جملة وتفصيلاً والتي تتميز بالحربائية والانتهازية والنفاق، خصوصًا عندما رأى العالم كيف تحركت الولايات الأمريكية ومعها العالم كله ضد روسيا في حربها على أوكرانيا، ولم تتحرك في العدوان على فلسطين، بل إنها ساندت الكيان الصهيوني ضد شعب أعزل. فقد سقطت الأقنعة وظهرت حقيقة الغرب وتحيزاته الاستعمارية التوسعية الاحلالية.
بالموازاة مع هذا المعطى العام، الذي يبين سبب انخراط الطلاب في دعم القضية الفلسطينة ورفضهم للتحكم وللإرهاب الممارس عليهم من طرف رؤساء الجامعات (كحالة نعمة شفيق رئيسة جامعة كولومبيا)، فإن التأمل في المعطيات السوسيولوجية للطلاب المحتجين ضد «إسرائيل» يبين بالملموس كيف وقع تحول في اتجاهات الرأي لدى هذه الفئة بلغة الأرقام. حيث بينت بعض استطلاعات الرأي التي تجريها المؤسسات البحثية (كالوب أو بيو ريسيرش)، أن فئة الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 18 و29 سنة ممن ينتمون للحزب الديمقراطي الأمريكي، وصلت إلى 47 في المئة ممن يؤيدون القضية الفلسطينية، بينما تصل النسبة لنفس الشريحة من المؤيدين للقضية الفلسطينية بنسبة 33 في المئة (أجري الاستطلاع في أبريل 2024) أي في عز الحراك الطلابي. كل ذلك يبين أننا أمام جيل جديد لم تعد تنطلي عليه المغالطات وتزييف الوعي التي يشتغل عليها العقل الغربي المتحكم في صناعة الرأي العام.
وقد فضح هذا الحراك الطلابي كل المقاربات المؤامراتية التي تدعي أن حركة حماس حركة إرهابية وأنها تقتل الأطفال وغير ذلك من الادعاءات الباطلة. ولعل مرد هذا الوعي الشبابي هو التحول الذي حصل في السنوات الأخيرة جراء وصول أصوات إعلامية عربية تتحدث باللغة الإنجليزية، والتي تقدم المعطيات من أرض الميدان ومن ساحة العدوان وليس كما يصنعها الإعلام المحابي للكيان الصهيوني. بيد أن هذا ليس هو المعطى الأول والأخير لقراءة هذا الحراك، بقدر ما يعني أن هذا الحراك، كان واضحًا في مطالبه وفي احتجاجاته، حيث طالب الطلاب جامعاتهم بوقف التعاون العلمي والأكاديمي مع الجامعات الصهيونية، خصوصًا في الاستثمارات الموجهة نحو صناعة الأسلحة (بلغ مجموع ما تستثمره نحو 100 جامعة أمريكية مع الكيان الإسرائيلي، 375 مليون دولار على مدى العقدين الأخيرين).
وقد كان لحجة هؤلاء الطلاب قوة كبيرة، لأنها بينت أن كل رصاصة أو سلاح أو طائرة ذكية أو روبوتات تصنع في إطار هذا التعاون العلمي، إلا وتكون موجهة لصدور وأجساد الفلسطينيين العزل. وهو ما يؤكد أن هؤلاء الطلاب قلبوا الطاولة على مسؤوليهم وعلى صناع القرار وفضحوا المستور في قضية الاستثمارات الأمريكية والأوربية والأسترالية الموجهة لدعم الكيان الصيهوني الغاصب.
معركة حضارية
ربما لأول مرة نشهد هذا التحول، فبعد حقبة الستينيات من القرن الماضي إبان الحرب الأمريكية ضد فيتنام، أو في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي في مواجهة الاباتيهد في جنوب إفريقيا، ها نحن جيل الألفية الثالثة، نشهد على معركة حضارية كبرى بين أقدم الاستعمارات الإحلالية وبين شعب أعزل يطالب بالحرية والاستقلال، شعب فلسطين وأرض المقدس، أرض الديانات والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
ولهذا اشتاط غضبا رئيس وزارء الحكومة المتطرفة «نتنياهو»، عندما تم فضح نوعية الاستثمارات الأكاديمية بين الجامعات الأمريكية والجامعات الصهيونية مع حكومته ولم يجد من رد ينطق به سوى السب والاتهام والتكفير؟
ختامًا، يمثل هذا الحراك الطلابي في الجامعات الغربية (الأمريكية والأوربية والاسترالية) حدثًا غير مسبوق، وعنوانًا عن تحول جذري في الوعي الطلابي، وفي الوعي بالقضية الفلسطينية وفي ابتداع أشكال للمقاومة غير كلاسيكية والتي تقدم الحجة الساطعة ضد الكيان الصهويني، وتقدم الجواب ضد عدوانيته ووحشيته وهمجيته، بلغة العلم والمعطيات الدقيقة، كنشر حجم المعاملات المالية بين الجامعات الأمريكية والجامعات الصهيونية، وأكبر من ذلك هو الدعوة للمقاطعة والتوقف عن هذا التعاون المشبوه واللاأخلاقي واللاإنساني والذي يستهدف في النهاية الشعب الفلسطيني الأعزل. ولعل في هذا أكبر درس للطلاب في الجامعات العربية، لاتخاذ هذا المسلك، كأحد المسالك القويمية في الاحتجاج وفي مساندة القضية الفلسطينية وفي دعم حقوق الشعب المحتل ورفع العدوان عليه.
مرحلة جديدة
ويمكن القول في ختام هذا المقال، إن القضية الفلسطينية دخلت منعطفًا جديدًا بعد السابع من أكتوبر 2023، بل إن العالم كله دخل مرحلة جديدة بعد هذا التاريخ، فقد توقف مسلسل التطبيع مع الدول العربية والإسلامية إلى غير رجعة، وقد بدأت بوادر الانفكاك من الاحتلال الصيهوني الإحلالي، كحقيقة ساطعة للجميع، وأن خيار المقاومة هو خيار صائب وأن ما أخذ بالقوة لا يمكن استرجاعه إلا بالقوة. وأنه مهما بلغ العدوان مبلغه في التدمير والقتل والإبادة والتجويع والحصار، فإن العبرة بالنتائج، والتحرر والاستقلال لهما ثمن باهظ، وخير دليل هو تجربة الجزائر ذات المليون والنصف شهيد؛ وتجربة فيتنام؛ وتجربة جنوب إفريقيا. وأن ما كان قبل السابع من أكتوبر لن يعود كما كان، وأن تاريخًا جديدًا يكتب في سجل النضال الفلسطيني بالدم والقتل والدمار والتجويع والموت والشهادة والاستقلال والتحرر ■