رقمنة الثقافة مستقبل يلوح بالأفق
ترتبط الثقافة بتاريخ وحضارة الأمم، فلكل حقبة ثقافتها وممارساتها الخاصة بها، فالثقافة نتاج اجتماعي وإنساني فهي مجموعة من العقائد والقيم والقواعد التي يقبلها أفراد المجتمع وتفهمها جماعة من النّاس؛ فهي وسيلة تعمل على الجمع بين الأفراد عن طريق مجموعة من العوامل السياسيّة، والاجتماعيّة، والفكريّة، والمعرفيّة، وغيرها من العوامل الأخرى.
وفي ظل المعطيات التقنية والتكنولوجية المتسارعة، تنامت الثقافات وتشعبت قنواتها وتغيرت الكثير من المفاهيم الفكرية لتأخذ منعطفًا حضاريًا مغايرًا يواكب الطفرات التقنية المتتابعة التي يشهدها العالم، والتي غيرت ملامح الفكر الثقافي وصياغته للولوج إلى آفاق الإبداع والابتكار ومجالات التنمية المستدامة. إلى جانب إقحامها في تفاصيل حياتنا الاجتماعية والمهنية وحتى الشخصية، الأمر الذي أدي إلى تغيير مفاهيم كثيرة وتشكيل ثقافات متنوعة قد تكون مألوفة أو غريبة لكنها تملكت زمام الأمور وصارت أساسيات وقوانين قد تضيف الكثير لنا وقد تزيل منها أيضًا الكثير. فدخلت في صناعات كثيرة وفي مجالات متنوعة أهمها الطفرات التي تشهدها صناعة الأفلام ودور السينما والمكتبات؛ إلى جانب تقنيات النشر والبث المباشر من خلال إدخال الهولوجرام (hologram) والواقع الافتراضي (Virtual Reality) والواقع المعزز (Augmented reality) وتقنيات deepfake والذكاء الاصطناعي، وغيرها من طفرات رسمت موسوعة الثقافة وأطر مستقبل المجتمعات، فضلًا عن تأثير التكنولوجيا الكبير في تعدد وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي وسهولتها وتعدد قنواتها وخلق عوالم واسعة النطاق، وما جسدته من انفتاح فكري، وإطلاق العنان لحرية التعبير وتنوع الكلمة والإبداع أثر بشكل مباشر على الوعي والإدراك وعزز مفهوم الثقافة على جميع المستويات؛ ناهيك إلى تنوع منافذ الثقافة والأدب والوصول لأكبر شرائح المجتمع من خلال وجود كم هائل من المواد الثقافية والمواقع المتنوعة والمتشعبة ومحركات البحث المتخصصة، والتي تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى وجود التقنيات المبتكرة والمتنوعة لتقديم خدمات متطورة والتي يمكن استخدامها لتسريع وتطوير عملية التدوين والطباعة والنشر وغيرها من مهام تعزز الثقافة وتحسن من مخرجاتها. وتلعب التكنولوجيا الإعلامية أيضًا دورًا كبيرًا في جعل الرسائل الإعلامية المُقدمة أكثر وضوحًا وشفافية، وهو ما يساهم في توثيق الحقائق والمحتويات والبيانات والمعلومات الإعلامية مدعومة بالصوت والصورة، والذي يتم داخل مواقع الحدث. وبالتالي فإنَّ استخدام التكنولوجيا في المجالات الإعلامية تكون من خلال استخدام العديد من التقنيات الخاصة والمتعددة، متمثلة في تقنية البث المباشر، والتي بدورها جعلت المتلقي يعيش لحظات الحدث نفسها، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ الوسائل الإعلامية ساعدت ودعمت التكنولوجيا الحديثة في الوصول إلى مصادر الأخبار، حيث تعتبر هذه المصادر بمنزلة مصادر حيادية وجديدة. كما تساهم الوسائل الإعلامية في استخدام مواقع التواصل الاجتماعية التي تعتبر من أهم الطرق البحثية المستخدمة لأجل الحصول على المعلومات، وتسهيل العمليات المعقدة في مواقع التواصل الاجتماعي. إلى جانب، أنها ساهمت في إحداث نقلة نوعية في الطرق والأساليب التي تتناول الأخبار الإعلامية بكافة أشكالها، وظهور أدوات مختلفة لذلك، مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز وغيرها من تقنيات. ناهيك عن دورها في تسهيل مهام تسويق الكتب المنشورة بشكل أكبر فاعلية، وظهور نوع آخر من الكتب وهي الكتب الصوتية والمرئية والتي أصبحت هي الأخرى ثمرة مهمة من ثمار التكنولوجيا الداعمة للثقافة، وغيرها من أدوات أحدثت طفرة نوعية وكمية وأثرت بصورة مباشرة على ثقافة المجتمع وفكره وتطلعاته. فمن تقنية الجيل الخامس وسرعتها الفارقة في مجال البث المباشر ونقل البيانات، إلى تطبيقات الواقع المعزز والافتراضي وتقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الذي صنع فارقًا كبيرًا على الفكر، والثقافة، والمعرفة، والطموح. كما أصبحت المؤتمرات تعقد عبر البث المباشر مع عدة جهات من مختلف الدول. بالإضافة إلى استخدام روبوتات (chatbots) لإنجاز بعض المهام واستخدام تقنيات عالية الدقة لتحليل البيانات واستنباط النتائج والتوصيات، والتي تلعب دورًا مهمًا في رسم سياسة مستقبل الأوطان والأمم.
الجانب المظلم للتكنولوجيا
إلى جانب ذلك من مميزات واستخدامات ممتعة ومفيدة، كان للتكنولوجيا جانب مظلم يتمثل في الفهم الخاطئ للحرية لدى البعض وتعمدهم لنشر مفاهيم وأفكار تسمم الفكر السوي وتشوه الثقافة في خضم وجود كثرة وتنوع في أدوات وبرامج التدوين والنشر، وسهولة استخدامها من دون رقابة أو محاسبة، الأمر الذي قد يهدد أمن الشعوب ويتلف فكرها ويعزز مفاهيم قد تؤثر على سلامتها وأمنها الاجتماعي والمحلي. إلى جانب نشر الإشاعات والمعلومات المغلوطة والتي تساهم بزعزعة الثقة لدى القارئ والمطلع بكل ما يجري من حوله من أحداث قد تكون غير صحيحة أو مبالغًا بها.
من جانب آخر، أثرت تلك الأدوات التقنية في ظهور أعداد لا يستهان بها من مدعي الثقافة والأدب وسراق الكلمة والأعمال الأدبية، سواء نصوص أو حتى أفكار، وصعوبة الحفاظ على حقوق الملكية الفردية لها، والتي تعتبر من الظواهر الأكثر فتكًا على ثقافة المجتمع وقيمه وضياع المبدعين والمفكرين وصعوبة الوصول إليهم، وخاصة إذا فقدوا أدوات النشر الإلكتروني المطلوبة، بالإضافة إلى ذلك، أثرت هذه التكنولوجيا وسرعة وتيرتها إلى تراجع واضح في معدل قراءة للكتب وتثقيف الفكر، حيث إنها عودت المستقبل على الرتم السريع من خلال نقل المعلومة بمقاطع صوتية ومرئية تتميز بالسرعة وهي نقيض القراءة التي تحتاج منها صبرًا وتأنيا للوصول للفكرة، إذ أوجدت تلك التقنيات بدائل للقراءة بطرق أسهل وأكثر سرعة وبعيدًا عن الرتم البطيء للقراءة والتي تتميز بالإمعان واللذة التي لا يشعر بها إلا القارئ نفسه.
إلى جانب كل ذلك، انتشار الاختراقات والجرائم الإلكترونية والتي تعتبر الهازج الخطير للتكنولوجيا بصورة عامة والثقافة بصورة خاصة؛ وبكل صورها المختلفة كالتجسس والاحتيال والسرقات والنهب الإلكتروني والتدمير الإلكتروني وتعريض ثقافة المجتمع ومدخراته الأدبية والثقافية للأخطار. فالسرقات الأدبية، مثلًا، تعتبر هاجسًا كبيرًا يعرقل، بل أحيانًا تمنع الكثير من الكتاب من المشاركة بأعمالهم الأدبية ونشرها. وتتنوع تلك السرقات لتشمل سرقة اللفظ، وتعد هذه السرقة من أهم وأبرز أنواع السرقات الأدبية، فمن خلال هذا النوع يقوم الكاتب بسرقة مقاطع من كتب كتاب آخرين، ويضمنها في نصه دون أن يوضح إلى أن هذه المقاطع مأخوذة من كتاب آخرين؛ والنوع الآخر هو سرقة المعنى ويقصد به أن يقوم الكاتب بأخذ فكرة من كاتب آخر، ويقوم بإعادة صياغتها بأسلوب خاص، مغيرًا في طريقة كتابة العبارات والجمل، وأيضًا من دون أن يشير إلى صاحب العمل الأصلي. وقد يقوم الشخص بسرقة اللفظ والمعنى معًا، ويعد هذا النوع من أسوأ أنواع السرقات الأدبية، وفيها يقوم الشخص بنسخ سطور أو مقاطع أو صفحات من كاتب آخر وبشكل حرفي، وينسبها إليه، دون أن يشير أو يدل على المؤلف الحقيقي، ودون أن يعطيه حقه. وقد اجتهد الكثيرون لإيجاد طرق وبرامج للحد من تلك السرقات، أهمها بليجيارزما (Plagiarism Check)، تيرنيتين (turnitin)، بلاغتراكر (reporttracker)، دوبليشاكر (Doubleshaker)، كوبي سكايب (Copy Skype) وغيرها من وسائل وأدوات مفيدة للكشف عن السرقات الأدبية والحد منها. إلى جانب أن الكاتب يجب أن يكون ملمًا بأهم وأشهر طرق حماية نصوصه وتسجيلها عند الجهات المسؤولة. وهناك أيضًا نوع آخر من السرقات، وهو سرقة هوية المؤلف، بأن يقوم المحتال بنسب العمل الأدبي لنفسه، وتحدث عادة تلك الحالات عندما لا يقوم المؤلف الأصلي بتسجيل النص الأدبي رسميًا لنفسه لحماية حقوقه، لذا وجب تسجيل النص وهوية الكاتب لدى الجهات المختصة قبل القيام بنشره على وسائل التكنولوجيا المختلفة، بالإضافة إلى طرق فبركة المذكرات والنصوص الأدبية وخلق شخصيات وهمية أو تسجيل في مواقع احتيال وسرقات وغيرها من حيل تقنية. كما أن هناك نوعًا آخر من الجرائم الإلكترونية يكمن بإتلاف المستند أو مسحه نهائيًا وطمس هويته من خلال استخدام برمجيات خبيثة، مثل الفيروسات والديدان الإلكترونية التي تهدف إلى إتلاف وتدمير المستند وبالتالي إخفاء محتواه، وعادة ما تصاب بها المكتبات الإلكترونية والأرشيف الإلكتروني. ومؤخرًا ظهرت برمجية خبيثة تهدف إلى تشفير المستند وعدم فتحه إلا بعد إعطاء أموال مقابل ذلك، وهو ما يطلق عليه برمجيات الفدية، وقد انتشرت بصورة كبيرة والمتخصصة بإصابة المستندات والوثائق المختلفة؛ لذا يجب أن يحمي المستخدم دومًا مستنداته من خلال بناء نسخ احتياطية لكل المستندات المهمة قبل أن يتم نشرها في مواقع النشر الرقمية والتقليدية أيضًا.
وهكذا نرى أن السرقات الأدبية والجرائم الإلكترونية عالم متغير ومتشعب لا يهدأ، وعليه يجب أن تكون الحماية على مستويات مختلفة تبدأ من الكاتب نفسه والمؤسسة لتنتهي بالدولة. فوضع التشريعات واستخدام التقنيات المتطورة أمران مهمان لبناء حاضر ومستقبل واعد وآمن، وقد حان الأوان أن نحتاط وننظم عملية رقمنة الثقافة والمعرفة دون أي خسائر تفقدنا هويتنا العربية وقيمنا الإسلامية الرفيعة، فالتكنولوجيا قد فرضت نفسها في تفاصيل حياتنا، وعلينا نحن أن نحيك ذلك الاندماج الراقي الذي يجعلنا نخلق حضارة لا تنتهي على مر الزمن ■