فوضى التواصل
وَجَدت الأخبار المزيفة والمعلومات المضللة بيئة مناسبة في أغلب وسائل التواصل الاجتماعي، ونجحت في توجيه قناعات ملايين البشر، وساهمت في تشكيل الرأي العام، وأثرت في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وبلغت غايات بعيدة في ترويج المعلومات العلمية والطبية والفكرية الخاطئة، تماشيًا مع رغبات الجماهير المخدوعة، وتجرأت على التشهير بالأفراد والجماعات والشخصيات العمومية، وحرَّضت على العنف وتسببت في خراب النفوس والأجسام.
ولأنها اكتسبت القدرة على تخدير العقول، فقد أصبحت تطبع أفكار الناس وتحولها إلى نُسَخ متطابقة، فانتشرت التفاهة وتَمَّ تنويم المنطق وتغييب الإدراك، وتآكلت الثقة بين مكونات المجتمعات الإنسانية، واستشرى الشقاق في ثنايا نسيجها، فتحول بذلك السواد الأعظم من العامة إلى «قطيع» يسير وفق اتجاه رياح محتويات المنصات الإلكترونية التي تتناسل على شبكة الإنترنت باطراد سريع، واحتلت مراكز الريادة في بث الزيف الذي كاد أن يصبح سمة بارزة تطبع عصرنا الحالي، وبخاصة في ظل المناخ المناسب الذي وفرته الشبكة العنكبوتية لصخَب الأخبار وعواصف المعلومات، فاتسعت رقعة انتشارها، وتعددت أشكالها وتنوعت مضامينها، ومنها الأخبار المركبة من أحداث واقعية، لكنها مُحوَّرة ومبالغ فيها، وخالطتها التأويلات المغرضة.
العنف الرقمي وتقنيات التزييف
يتمثل العنف الرقمي في استخدام التكنولوجيا الرقمية ضد الغير. ويتسبب في آثار نفسية واجتماعية مدمرة للضحايا، ويمكن أن يؤدي إلى ارتكاب جرائم خطيرة. وقد تفاقم العنف الرقمي كثيرًا وبخاصة ضد النساء اللائي صرن أهدافًا مغرية لصناع المحتويات المزيفة، فنالهن أذى الأخبار الكاذبة، والصور المصطنعة، والأشرطة المركبة، وتعرضن بذلك للابتزاز والتهديد بالتشهير للسيطرة عليهن واستغلالهن من أجل تحقيق مكاسبَ وَضيعَةٍ، وغالبًا ما يمس هذا النوع من المحتويات الجوانب الأخلاقية والحياة الشخصية للضحايا. لهذا تتعرض النساء لأشكال التنمر على منصات التواصل الاجتماعي، سواء بسبب مظهرهن أو آرائهن أو نجاحهن في المجالات المهنية ووصولهن إلى مناصب عليا. ويستخدم الجناة التهديدات بنشر معلوماتٍ خاصةٍ ومختلَقةٍ، أو صورٍ شخصيةٍ مصطنعةٍ ومُهينةٍ غير حقيقية يوفرها الذكاء الاصطناعي، بهدف الابتزاز الذي يتخذ ضُروبًا شتَّى، ويروم غاياتٍ متنوعةً. وهذه الممارسات الإجرامية تضع أصحابها أمام المساءلة القانونية، وغالبًا ما يجدون أنفسهم في مواجهة تُهَمٍ ثقيلة، كالاتجار بالبشر الذي تكون عقوباته شديدة.
وبسبب تطور الرقمنة وتغوُّل جبروتها، فقد أصبح من السهل تعديل الصور بإتقان، ليظهر فيها أشخاص وأماكن في مواقف مزيفة. إذ يمكن نشر صور لأحداث ووقائع لا تمت للحقيقة بصلة، بل قد تكون متعلقة بظروف مختلفة تمامًا، وذلك كله يُسَخَّرُ من أجل خلق التأثير الذي يُدمِنه الجمهور. كما يتم استخدام العناوين الخادعة والمخالفة للمضامين، حيث يتم اختيار عناوين جذابة ومثيرة لجذب اهتمام المتلقين الذين يقعون في شباك ما لا يودون مشاهدته، لكنهم، بعد ابتلاع الطعم، ينساقون وراء تيار الخداع، مما يؤدي إلى تشكيل الأفكار والرغبات وتوجيهها حسب أهواء القابعين خلف شاشات الحواسيب والهواتف الذكية، ويعود السبب في ذلك إلى إغراءات الحمولات التافهة الحاضنة للمواضيع المثيرة المُشْبِعة ِلنَهَم الفضول لدى شريحة عريضة من المجتمع، وبخاصة فئة المراهقين المندفعين الذين يأخذ أغلبهم ما يلقى إليه من أفكار دون تدقيق وتمحيص. وهذا ما يسهل ترويجها دون التحقق من فوائدها وأضرارها، وهكذا تروج المعلومات المضللة، وما يوازيها من تحليلات خاطئة لمعلومات صحيحة، مما يؤدي إلى الفهم الخاطئ للواقع، وبخاصة إذا تعلق الأمر بالمجالات السياسية والحملات الانتخابية والحروب والجوائح والكوارث والأزمات الاقتصادية، وكل ما يمكن أن يثير اهتمام المجتمع ويبث الحركة والتفاعل بين مكوناته، وهنا يتضاعف نشاط الإعلام الخادع بهدف تشويه سمعة الخصوم وتزييف الحقائق. ويتفاقم تقاسم الأفكار المغلوطة والمتشابهة، وتبدأ عمليات استنساخ العقليات الموبوءة بسوء الفهم والتحليل. وهذا هو عنوان التخلف المزمن الذي قد تُبتلى به بعض المجتمعات.
عمق التوغل وقوة التأثير
إنه لمن بوائق الأمور أن تتوغل وسائل التواصل الاجتماعي في أعماق المجتمع بكل حمولاتها من المحتويات الهجينة. وقد بلغت من السوء أن خضع كثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لسلطان عبثها، فأصبح أكثرها يعتمد على تدوينات المدونين وتغريدات المغردين، وما يلفقه المُضِلُّون من صور وأشرطة غير حقيقية ولا وجود لها في الواقع. وبخاصة في الأوقات المفعمة بالأزمات التي يكون خلالها الناس عطاشى للمعلومات والأخبار.
إن سرعة انتقال الأخبار الكاذبة تجعل الناس تتفاعل معها بدون تعقل، ونتيجة لذلك تتخلخل الحياة العامة، وقد تتأثر الأسواق المالية التي هي الشريان الأبهر لكل بلد، حيث يجد المتداوِلون أنفسهم في سباق حاد مع الزمن، فيسعون جاهدين لتتوافق صفقاتهم مع تقلبات أسعار الأصول المالية، فتتأرجح العُمُلات بين صعودٍ وهبوطٍ. وكل ذلك يحدث بسبب الأخبار العاجلة المزيفة التي يؤدي تدفقها إلى قرارات متهورة، بناءً على معلومات خاطئة، وذلك نتيجة تنامي وتيرة النشاط الإعلاميِّ أثناء الأزمات، وتأثيره في تأطير الأحداث، وتفسير الوقائع وتحليلها، حيث تجتهد التغطيات الإعلامية المغرضة من أجل تغذية دينامية الخوف، وضرب استقرار البلد المستهدف.
الحاجة إلى التواصل الاجتماعي
لقد صارت وسائل التواصل الاجتماعي رديفة لحياتنا اليومية، ولا يمكن نكران فوائدها الجمة التي تتوازى مع أضرارها. والمطلوب من المتلقي أن يتعامل معها بانتقائية حذرة ومتيقظة حتى يحسن الاختيار، فيأخذ منها ما يليق به، لأن ما يسودها من فوضى يجعلها مصدرًا للتشويش الذي يضع عراقيل أمام انسياب التفاعلات والعلاقات الإنسانية. ولأن متداولي الأخبار الكاذبة والمحتويات المزيفة لا يرومون المصالح العامة، بل يتعمدون زحزحة الاستقرار للنيل من مصداقية الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بواسطة تجميد الرأي العام داخل القوالب التي تتم صياغتها بعناية، ومن ثَمَّ إعادة تدويره وتشكيله حسب توجُّهاتهم وأغراضهم، مستغلين التكنولوجيا الرقمية لتحقيق مآربهم، وبخاصة ما يستجد منها حاليًا، كالذكاء الاصطناعي المتطور في امتداد واحتداد، وسيظهر ما يضاهيه ويفوقه، ولا يزال الحبل على الجرار.
معركة لابد منها
لا شك في أن فوضى التواصل الاجتماعي قد كادت أن تشمل كل شيء، إذ تكاثَفَ العنف الرقمي ضد الأفراد والجماعات، وعمَّ خطاب الكراهية، وشاعت دعوات العنصرية، وراج استهداف الدين وتشويه تعاليمه، واستسلم أغلب زوار منصات التواصل لهذا الوضع. وهذا ما يُشكِّل تحدياتٍ للدوائر الحكومية التي تحاول الحد من هذه الظواهر الشاذة، لكن الرقابة على ما يُنشر لا يعود إلا بنتائج محدودة. لذلك لابد من تفعيل القانون لحماية الحقوق وإقرار الواجبات، وتشجيع المبادرات الفردية والجماعية وتدخُّلات مؤسسات المجتمع المدني لتوعية الجمهور، وجعل رواد منصات التواصل يفهمون نوايا «المؤثِّرين» الذين ينشرون سموم محتوياتهم المضللة. وهؤلاء لا يهمهم إلا رفع نِسب المشاهدات، قصد جني الأرباح من أنشطتهم التواصلية على حساب الأمن الاجتماعي والسلام النفسي والتنمية الاجتماعية. لذلك يجدر بالمتلقي التحقق من المعلومات قبل مشاركتها لتقوية حسه النقدي، من أجل خلق بيئة تواصلية صحية وجديرة بالثقة. وبفضل الجهود الجماعية يمكننا مواجهة عواصف التزييف الإلكتروني، وإيجاد مساحات نظيفة على الإنترنت تُزهر فيها المصداقية، في عالم تغَوَّلت فيه دورة الأخبار على مدار الساعة والدقيقة، وبذلك يمكننا خلق علاقة سليمة بيننا وبين وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة في أوقات النكبات المختلفة التي ما فتئت تستجد وتستبد بعصرنا هذا الذي غدا فيه كل شيء يخضع للمد والجزر ■