الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة: الشعر هو صوت الوجود ولغته
في أحد الحوارات التلفزيونية حول آفاق الشِّعرية العربية المعاصرة، استوقفني تعبير الناقد الدكتور صلاح فضل، في وصف الشاعر المصري الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، بأنه «شاعر معتَّق»... وإذا كنا بوسعنا أن نكتشف حقيقة هذا التعبير عن التجربة الشِّعرية العميقة لهذا الشاعر المتفرّد، فإننا نجد أنفسنا أمام ديوانٍ شعريٍّ متدفقٍ عارمٍ، يحمل بالكلمة والإيقاع الشِّعري الخلاب بذور الرؤى الإنسانية الخلاقة التي يقبض عليها الشاعر من مفردات وحقائق الوجود. لكننا حين نستمع إلى حديث الشاعر نفسه عن تلك التجربة، نستطيع الغوص في أعماق هذا العالم الشِّعري الرحيب الفسيح، لنمسك من أقرب سبيلٍ إلى أسرار عالمه الشِّعري والإنساني المفعم بالرؤى المعتقة الملهمة، وبالثقافة العارمة التي تقف من وراء هذه الرؤى الشِّعرية الخلاقة.
وفي هذا الحوار فتح الشاعر قلبه ومداركه للكشف عن هذا العالم الكوني المحفوف بالمخاطر والأسفار والأسرار، كما يكشف عن دور الشِّعر والشاعر وعن دور اللغة في خلق عوالم متجددة تحتفي بالإنسان، وتضمن له الحياة والبقاء والانتصار الأبدي كما يقول في ختام الحوار. وبالرغم من تمزق الشاعر بين الطوباوية الحالمة وبين التحولات التاريخية الخطيرة التي تعتري مسيرة الإنسان في أتون الصراع، فإن محمد إبراهيم أبو سنة يتمسك بالحقيقة الإشراقية المتفائلة بالأمل الوثّاب للإنسان، مقدمًا حقيقة جوهرية من حقائق الوجود الإنساني، وهي أنّ إرادة البقاء والثبات والانتصار تظل هي الأقوى في صراعات الإنسان بين تحولات الوجود وتفجّرات التاريخ. على أنه يرى أن ذلك مرهون بقدرة الشاعر باللغة على الارتقاء بالواقع وصنع عوالم وأمة أجمل مما عليه الآن. فالشاعر هو ما يملك وحده القدرة على تحقيق التجدّد الأبديِّ للإنسان ضد الموت والقهر والانسحاب، ليبقى الشِّعر حيًّا للأبد بحياة الإنسان، ولا يموت إلا بموته. فإلى هذا الحوار المعتق مع شاعر العربية الكبير، محمد إبراهيم أبو سنة.
• لنبدأ الحديث عن لغتك الشِّعرية المفعمة بمفردات الطبيعة؛ فهل هو تأثير بيئة النشأة، أم هي فطرة الشِّعر، أم يتعلق الأمر بفلسفة خاصة تلقي بالشاعر في أحضان الطبيعة؟
- أشكرك على هذه المفاتيح الذهبية للإجابة عن هذا السؤال بما تضمنه من تلك النقاط التي أشرت إليها، فهي التي أدت بالفعل إلى شيوع هذه المفردات والرموز التي تتردد في كثير من القصائد. فمن حيث البيئة؛ فقد ولدت في قرية «الودي» مركز «الصَّف» في محافظة الجيزة عام 1937م، وهذه القرية تتفرد بطبيعة خاصة؛ فهي تقع على الصفة الشرقية لنهر النيل، وفي الوقت ذاته قريبة جدًّا من الصحراء الشرقية على بعد كيلو متر واحد. ومن هنا كان هذا التقابل بين الماء والصحراء، وبين الخضرة والرمال. اقتربت من تفاصيل الحياة في هذه القرية التي وُلدت فيها وتربّيت في المراحل المبكرة، لكنني لم أكن أستوعب كل تفاصيل هذا الواقع وأبعاده إلا فيما بعد. كان النيل، لا أقول قريبًا من بيتنا، بل كان بيتنا جزءًا من النيل لأنه كان في نهاية القرية من الناحية الجنوبية، وكان خلف هذا المنزل مساحة واسعة من الأرض الفضاء والمنخفضة إلى حدٍّ ما، فكان النيل يغمر هذه المساحة عند الفيضان، وخاصة قبل بناء السد العالي. كنا نصعد إلى سطح هذا المنزل في ليالي الصيف القمرية، فنرى هذا التلألؤ المذهل للطبيعة، خصوصًا حين تنعكس تلك الأضواء القمرية على الماء. وكذلك كانت الأسماك التي تأتي مخمورة في نهر النيل؛ ربما لأنها كانت تتغذى على بعض النباتات التي كانت تجعلها غير قادرة للاستمرار في الحياة. كانت هذه الأسماك تمر بجوار المنزل، وكنا نستطيع أن نلتقط هذه الأسماك من فوق السطح. ولك أن تتصور خيال الأطفال في تلك البيئة، وهذا البعد الخاص بالماء. ولكن ما إن ينحسر الماء في النيل حتى تتبدى لنا رقعة جديدة من الأرض تنبت عليها هذه اللآلئ الخضراء وأنواع الأعشاب والنباتات المدهشة. فكنا في واقع الأمر بين رؤى غريبة من الطبيعة بين تلألؤ الماء في الليالي القمرية وبين سطوح هذه الخضرة.
هذه هي الطبيعة في قريتنا، في المنزل وخارج المنزل، ولكن في هذه القرية، وفي تلك البيئة، كانت تدور أيضًا معارك طاحنة من أجل الاستيلاء على هذه الأرض السوداء لزراعتها، وكان الفوز للأقوياء والأغنياء، وكان الصراع بين هؤلاء وهؤلاء. وعلى البعد من هذه الأراضي الزراعية تقف الصحراء الشرقية بامتدادها الرملي إلى البحر الأحمر، وعلى بعد 60 كيلومترًا من القاهرة. وأنا أتحدث وأمامي صور كثيرة جدًّا لهذا الواقع، وبخاصة الصراع بين الفقراء والأغنياء، والملاك والفلاحين، في هذه الصحراء الممتدة، وتلك البيئة الريفية المفعمة بالحياة. ومن حسن حظي أن والدي كان شيخًا للبلد، فكان الكثيرون من أهل القرية يأتون إلى منزلنا ويضعون بعض مشاكلهم، ومن بينها صور دامية للواقع الإنساني في هذه القرية. وكان والدي لا يمتلك نفوذًا، لكنه يمتلك سماحةً دينية خاصة تجعله قريبًا ومحبوبًا من أبناء القرية. كان والدي يجيد الإنصات إليهم، حتى أن القادمين من ذوي المصالح والمشاكل والآلام كانوا يستريحون بالجلوس معه. وأنا كنت أمام هذه الثلاثية؛ الماء والصحراء، والعلاقات الإنسانية المعقّدة. ولكنني في العاشرة تركت كل هذا إلى القاهرة لأحفظ القرآن الكريم في مدرسة «شويكار قادم»، المجاورة لسيدنا الحسين (رضي الله عنه) في حيّ «الجمَّالِيّة»، حيث معهد القاهرة الديني الابتدائي. وبعد أن أنهيت دراستي بهذه المدرسة التحقت بمعهد القاهرة الديني الأزهري، وهنا بدأت رحلة أخرى مختلفة في عالم المدنية الذي تركت تأثيرات عميقة في نفسي وفي شعري.
شغف المعرفة
• كيف كانت هذه البداية الجديدة، وما حكايتك مع المدينة بوصفها عالمًا جديدًا؟
- المدينة لها وجه آخر غير هذا الوجه الذي قدمته للقرية، وسأتحدث عن جزئية معينة؛ عن الوجه المدهش أو المخيف للمدينة، وأنا في هذه السن المبكرة، كنت صغيرًا، لكنني كنت أحمل في أعماقي بذرة الشغف بالمعرفة، معرفة ريفي يريد أن يكسر الجدار الذي تقيمه المدينة بينها وبين وجدانه. كنت أتجول في منطقة «الحسين»، وأقرأ اللافتات، ثم تقودني قدماي إلى وسط المدينة، وخاصة منطقة «العتبة الخضراء». وذات يوم إذا برجل غاضب تبدو عليه أمارات التوحش والشر، ربما كان ضمن عصابة تقوم بخطف الأطفال. قبض هذا الرجل على يدي بقوة وأراد أن يسلمني إلى بعض أفراد هذه العصابة. وباغتني الأمر فلم أكن أتصور أن يحدث هذا، لكنني مع الدهشة استطعت التماسك، فتظاهرت بالاستسلام، ثم سللتُ يدي فجأة من قبضة الرجل وانصرفت أجري من «العتبة» إلى الجامع الأزهر، حيث هناك عدد من أبناء القرية والطلاب. تلك هي اللمحة الأولى الغاضبة من المدينة، والتي تضعك أمام فروق جوهرية بين بيئتي الأولى في القرية، وحياة المدينة.
دور فاعل
• إذن لم يكن الوجه السمح للقرية وحده من المؤثرات الطاغية للبيئة في مفرداتك الشِّعرية، وإنما يعكس شعرك وجوهًا أخرى، كفكرة الصراع، والوجه القاسي للمدينة، حدِّثنا عن المؤثرات التالية في تجاربك الإنسانية والشِّعرية؟
- لفكرة الصراع دور فاعل ومؤثر في خلق الشِّعر، وفي إشعال تجربة الشاعر بشكل عام، والوجود كله قائم على فكرة الصراع، سواء بين الكائنات الحية أو بين مفردات الوجود، وإن كانت المفردات التي تعنينا هي المفردات البشرية والإنسانية، والمفردات الكونية، كما نراها وتتبدى لنا في الحياة الطبيعية والإنسانية. وبعد أن التحقت بالمعهد الديني بالقاهرة، تعرفت في الواقع على هذه الثقافة الدينية العميقة لأنني كنت أحفظ القرآن الكريم لألتحق بالأزهر، وانفتح أمامي مدى واسع وعميق للتعرف على الفكر الديني، وعلى الفكر الأدبي من ناحية أخرى؛ فقد كنا ندرس نصوصًا تتعلق بالفقه والسيرة النبوية، وبالتاريخ الإسلامي، وعلوم اللغة، وندرس نصوصًا أدبية تتعلق بالشعر وغيره من الفنون الأدبية. فلذلك تعرفت في المرحلة الأولى على هذه المفردات اللغوية والإسلامية، وتلقيت تعليمًا دينيًّا وأدبيًّا ولغويًّا في الوقت نفسه. وما جعل هذا المزيج من اللغة والنصوص الأدبية والدينية يتفاعل داخل وجداني هو وجود هذه الأحداث الكبرى التي عرفتها في فترة مبكرة، وبخاصة الحدث الأكبر المتمثل عندي في ثورة 1952م، والتي فاجأت الواقع. ومن هذه الثورة وحولها وبإلهامها تفجرت من الوهج الأدبي والفن الغنائي إلى جانب حالة من الفكر الإنساني. وكانت هناك قصائد يتغنى بها المطربون والمطربات في تلك الفترة، مما ألهمني التأثر بها، خاصة وأنني في غمرة المظاهرات التي كنا نشارك فيها كطلاب في تلك المرحلة للتهليل والترحيب بالثورة. خلال هذه المظاهرات كنا نطرح كثيرًا من الشعارات والأهازيج، واكتشفت في هذه المرحلة بذرة الشعر في أعماقي. وفي الحقيقة فإن الشعر رائع بكل المقاييس، فهو لغة الروح، ولغة القلب، ولغة العين البصيرة، والوعي الناضج، الشعر هو صوت الوجود ولغته.
• وعبر مراحل مسيرتك الشِّعرية بشكل عام، ما هي المؤثرات التي أسهمت في تكوين شخصيتك الشِّعرية؟
- منذ مرحلة الصِّبا وحتى البدايات الأولى، تأثرت جدًّا بالقصائد التي كانت تلقى علينا في الأزهر، وتأثرت بصفة خاصة بالشعراء العذريين، من أمثال مجنون ليلى، وجميل بن معمر، وكثير عبدالرحمن. كما تأثرت بشاعر له صيغة خاصة ولغة خاصة به، جعلته قريبًا من لغة عصرنا فتأثرت به كثيرًا في المرحلة الأولى. ومع تقدمي في الدراسة والعمر اكتشفت أشياء جديدة، وتعرفت على بعض المنتديات والروابط الأدبية؛ مثل «رابطة الأدب الحديث»، وعرفت كثيرًا من الأسماء التي تتردد في الساحة الثقافية من كبار الشعراء والنقاد والمفكرين. وعن طريقهم أيضًا عرفت عددًا كبيرًا من أسماء الشعراء الأجانب، بعد أن خبرت الشعر العربي القديم، وقرأت لكبار شعراء العربية؛ كالمتنبي وأبي تمام والبحتري، وأبي فراس والشريف الرَّضيِّ وأبي نواس، وغيرهم من شعراء العصرين الأمويّ والعباسيّ. ومن شعراء العصر الحديث توقفت عند أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ثم شعراء المدرسة الرومانسية، مثل إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، وخاصة الشاعر محمود حسن إسماعيل بما له من خصوصية جعلت له مكانة متفردة في الشِّعرية الحديثة.
تأثير عميق
ومع اتساع مداركي مع الوقت، لم أهتم فقط بالأحداث التي تجري في مصر، بل بما يجري في العالم كله، تأثرت بهذا وذاك، وعرفت شعراء أوربيين أثروا في وجداني تأثيرًا عميقًا، ومنهم شعراء المدرسة الرومانسية الإنجليزية من أمثال «اللورد بايرون»، و«شيلي»، و«كيتس». وتعرّفت أيضًا على المدرسة الواقعية في الشِّعر الفرنسي، مثل «أراجون»، و«بول إيلوار»، والشعراء الإسبان مثل «بابلو نيرودا»، و«لوركا». كما قرأت أعمال «شكسبير» من الأدب الإنجليزي، ومن الأدب الفرنسي قرأت «راسيل»، وتأثرت بالمسرحيات العالمية، حيث كنت أستمع لبعضها في إذاعة البرنامج الثاني في ذلك الوقت. الحقيقة أن قراءاتي الواسعة في الخمسينيات والستينيات هي التي أنضجت النموذج الشعري الذي تبدى في دواويني المختلفة.
وأستطيع أن أقول إن الميلاد الحقيقي لوجودي الشعري كان بصدور ديواني الأول، «قلبي وغازلة الثوب الأزرق»، عام 1965م، ومن حسن الحظ أنني وجدت بيئة ثقافية مشجعة يمثلها عدد كبير من الرموز الفكرية والأدبية والنقدية. ولا أنسى أساتذتي الكبار، أمثال الدكتور لويس عوض، والدكتور عبدالقادر القط، كما لا أنسى بصفة خاصة ذلك الشاب الناضج - في ذلك الوقت - والذي كان موهوبًا في محبة الناس وتشجيعهم وتوجيههم، برغم سِنِّه القريبة من سِنِّنا؛ وهو رجاء النقاش. كل ذلك دفعني إلى التطور الإيجابي بالإفادة من الواقع الثقافي والالتحام به، ليس على مستوى مصر وحدها، ولكن على المستوى العربي، حيث بدأت في الستينيات أنشر قصائدي في مجلة «الآداب» البيروتية التي كان يرأس تحريرها الدكتور سهيل إدريس. هذه المجلة لعبت دورًا رائدًا في تعريفنا بالثقافة الحديثة، ونقل صورة من واقعنا الثقافي وشعرنا الحديث إلى الوسط الأدبي في مصر والعالم العربي. ولك أن تتصور مدى البهجة التي شعرت بها عندما نشرت قصيدتي الأولى في ملحق جريدة الأهرام، والذي كان يشرف عليه الدكتور لويس عوض، ويساعده الشاعر العظيم صلاح عبدالصبور، في 31 يناير 1964م. وفي ذلك الوقت كنت أنشر في العديد من المجلات الرائدة؛ مثل مجلة «الشِّعر»، ومجلة «المجلة»، في مصر، ومجلتي «الآداب»، و«الأديب» في بيروت، وغيرها. وتتابعت الدواوين والقصائد والمشاركات. ولا شك في أن الامتزاج بالحركة الأدبية كان له تأثير كبير، كما استفدت كثيرًا من معرفة الرموز في هذه المرحلة، وبخاصة شعراء الستينيات، وخاصة أحمد عبدالمعطي حجازي، وأمل دنقل، ومحمد عفيفي مطر، وملك عبدالعزيز، من مصر، وشعراء العراق؛ بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي. وهنا أوجه تحية خاصة لمن أعتبرها أستاذتي الأولى، والتي وجهتني لكتابة قصيدة التفعيلة، وهي الشاعرة العربية الرائدة نازك الملائكة.
قضايا الواقع
• وهل أثّرت مسيرتك العملية والوظيفية على مساراتك الشِّعرية، وبخاصة العمل في مجال الإعلام؟
- بعد أن اتسعت مداركي مع كل هذه المراحل والتجارب، ومع تقدم الأيام، والاختلاط والامتزاج بالواقع الثقافي، ليس فقط في مصر، بل في العالم؛ فقد تعزّز ذلك أيضًا بمتابعتي المستمرة لقضايا الواقع والمجتمع هنا وهناك. ساعد على ذلك أنني عملت في بداية حياتي محرّرًا سياسيًّا في الهيئة العامة للاستعلامات بوزارة الإعلام، قبل أن ألتحق بالإذاعة. وقد كان العمل في «الهيئة العامة للاستعلامات» فرصة لكي أنظر للخريطة السياسية في العالم أجمع. وحين انتقلت للعمل بالإذاعة فقد كانت أمامي الخريطة الثقافية في العالم أجمع أيضًا؛ لأنني عملت بالنافذة الكبرى التي تطل على الثقافة الوطنية المصرية والعربية والعالمية، من خلال إذاعة البرنامج الثاني. وبالتأكيد كنت ألتقي أثناء عملي في الإذاعة برموز الحركة الأدبية بشكل عام، وعرفت الكتاب والشعراء الكبار في ذلك الوقت، من الأدباء والنقاد والمفكرين والفلاسفة، والمترجمين أيضًا، كل هذا قد صب في وجداني وتفاعل مع تجربتي الشعرية والأدبية على امتداد العمر.
النموذج الشعري
• بخلاف شعراء الستينيات والسبعينيات، واتجاهات شعر التفعيلة لدى هؤلاء الشعراء، تكتب القصيدة الغنائية بمفردات وتراكيب سهلة وواضحة، هي أقرب للوجدان منه إلى الفلسفة العقلية. فما تقول في ذلك؟
- لقد فتحتَ لي نافذة لأقول إن تجربتي من البداية كانت مرتبطة بالواقع الثوري في الخمسينيات، وبالرؤية التي تتطلع إلى الأفق القومي العربي، وإلى العدالة الاجتماعية والانفتاح على الثقافة العالمية. كل هذا كان يتبدَّى في اختيار النموذج الشعري عندي، فما تتصور أنه قصيدة غنائية هو ليس كذلك بالمعنى المباشر؛ هي ليست غنائية لأنها ليست معبرة عن ذاتٍ مفردة كما ترى في ديواني «قلبي وغازلة الثوب الأزرق»، فهذا الديوان يضمن رؤية للريف المصري وواقع القرية، كما يتضمن التأثر بالأسطورة الإنسانية الفرعونية واليونانية، وكذلك هناك نسيج محدد وواضح لقضايا الحب والمرأة في هذا الديوان. وتستطيع أن تقول إنني في ديواني الأول وضعت بذور تجاربي الشعرية وملامحها على مستويات قومية ووطنية وإنسانية، لكنني في هذا الديوان فكرت في أن أرتقي بهذه التجربة من الغنائية إلى التركيب الدرامي، وإلى الاقتراب الأعمق من عالم المرأة وعالم المدينة، وعالم الإنسان، سواء كان إنسانًا مسحوقًا كادحًا، أم إنسانًا مركَّب الإحساس بأزمة هذا الوجود. ولا أقصد بهذه الجملة العالم الفلسفي للإنسان. وبعض شعراء السبعينيات ترجموا تجربتي على أنها تجربة رومانسية، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فإن تجربتي من الواقع والأسطورة والدراما، والتي مارستها في مسرحيتين شعريتين هما: حمزة العرب، وحصار القلعة.
• عن معاناة الشاعر اليوتوبي في الوجود، في مقابل تمنياته الطوباوية في عالم جديد، هل ترى لا يزال بوسع الشاعر أن يواصل الكتابة في هذا الحلم الوردي البعيد؟
- الشاعر هو من أعمق الكُتَّاب من حيث الرؤية المركبة التي تجمع بين المثال والواقع، فهذه الرؤية الشاعرة هي رؤية متسعة للتعبير عن الوجود في كل مرحلة من المراحل الوجودية. الشاعر هو رسول الجمال، وهو يمتطي مركبة الخيال في عالم واسع مركب، وفي نفس الوقت لا نهائي. وما أريد أن أقوله إن خصوصية التجربة الإنسانية تتجسد بكل عرضها في الشعر. والشاعر يبدأ من الواقع، لكنه لا ينتهي بالحلم، وإنما يتجدد دائمًا لرؤية واقعٍ آخر. وطبعًا ما دام الشعر يعبر باللغة فهو يستطيع في كل وقت أن يعبر عن تجربة إنسانية ويتطلع إلى رؤية جمالية ومثالية بشكل دائم. ولا يستطيع الشاعر، أن يفارق هذه الرؤى إلا إذا فارقه الشِّعر؛ فما دام الشِّعر حيًّا في وجدان الشاعر تظل لديه القدرة على ابتكار أشكال جديدة لعوالم جديدة. وقدرة الشاعر على ابتكار وصنع عوالم جديدة هي قدرة لا نهائية.
الالتزام في الشِّعر
• أيهما أقرب للشاعر، أن يكون صوتًا للوجود، أم صوتًا للمجتمع، وإلى أي مدى ينبغي على الشاعر أن يكون صدىً لتحولات المجتمع في التاريخ؟
- فكرة الالتزام في الشِّعر فكرة تلقائية في تعبير الشاعر باللغة؛ لأن اللغة هي الوعاء الذي يحتوي تجربة الإنسان في كل زمان ومكان. وبقدر تعمق الشاعر باللغة وإحاطته بجوانبها المختلفة، خاصة الجوانب الجمالية، فإن الشاعر قادر دائمًا على التعبير عن عوالم متحولة. والشِّعر كلما انفتح على عصره بكل معطياته وتجاربه وجمالياته كان قادرًا في نفس الوقت على التعبير عن هذا العصر. وليس كل شاعر بقادر على أن يمتلك الرؤية ولا اللغة التي تعبر عن مفردات هذا العصر وتحولاته، وامتداده؛ لأن العصر متفجّر بالجديد دائمًا، وبالمدهش، والمفاجئ. ونحن أمام عصر جديد لم يسبق في التاريخ، ولكن كيف يمتلك الشِّعر هذا العالم الجديد، إنما من خلال شيء واحد هو قدرته على امتلاك اللغة.
الشِّعر لا يموت
• بعيدًا عن مقولات تراجع فن الشِّعر في زمن الرواية، كيف ترى مستقبل الشِّعر، وكيف يستعيد حضوره لدى الجماهير بعد تراجعه على كافة المستويات؟
- هناك بالطبع أسباب كثيرة لهذا التراجع، ولكن هناك أيضًا تطلعات لتغيير هذا الواقع. والجماهير مفتونة دائمًا بفكرة الإيقاع وفكرة الجمال اللغوي، وفكرة الاهتزاز الوجداني، في كل مكان وكل زمان في العالم. ولذلك فأول فن يعبر عن الاهتزازات الكبرى هو الشِّعر. والشِّعر لا يموت؛ لأن الإنسان لا يموت، ولأنه إذا مات الإنسان مات الشِّعر، فحين يموت الإنسان لا شعر. فالشِّعر حي بحياة الإنسان، ويبقى ما دام الإنسان حيًّا. وفي هذا العالم، بكل هذه المعطيات والأجهزة والتقدم العلمي، لا أرى أن هذه المتغيرات سوف تقتل الشِّعر، ولكنها ستسلحه برؤى جديدة، بصرف النظر عن التفجّر السياسي أو العلمي في العالم، فإن كل هذه التفجُّرات هي في صالح الشِّعر كما أرى. وما على الشاعر فقط إلا أن يُفضي بذاته، وبما يُحسّ به، من خلال ثقافته الكبرى، واللغة التي تمكّنه من التعبير عن التجربة الإنسانية.
• وبعد أن امتد هذا الحوار قرابة الساعتين، أردف الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، مؤذنًا باختتام الحوار:
- أريد أن أختم بكلمة واحدة؛ أنا بطبعي، من خلال تجربتي الإنسانية التي تمتد لثمانين عامًا، مؤمن إيمانًا قويًّا أوّلاً بمستقبل الإنسان، وبقدرته على تجاوز كل الصعاب، وعلى اكتشاف عالمٍ أجمل مما هو قائم الآن. ولا شك في أن الإنسان على موعد دائم مع الانتصار الأبدي ■