من «أرض الذهب» إلى سقوط «مدن الكاكاو» قراءة في أدب الروائي البرازيلي جورجي أمادو
الكتّاب الكبار هم الذين تقرأهم فتقرأ من خلالهم شعوبهم وأوطانهم وأزمانهم، مثل الروسي تولستوي، والفرنسي هوجو، والبريطاني ديكنز، ومثلهم البرازيلي جورجي أمادو، الذي تقودك قراءته إلى اكتشاف أرض وشعب وآلام وأشواق بلاده، والذي يعتبر رمزًا للبرازيل وأحد أركان الأدب العالمي الحديث.
الروائي البرازيلي الأبرز الذي نشر روايته الأولى في سن التاسعة عشرة، وتُرجمت كتبه إلى أكثر من 50 لغة، نشأ وترعرع وكتب عن المناطق المهمّشة، حيث القصص الحقيقية للناس البسطاء، التي تكشف وجه البلد الحقيقي، فهو «لا يكتب الكتب بل يكتب البلد» كما قيل. ورغم أنه عاش سنوات مناضلًا ضمن الحركة اليسارية، إلا أنه ترك نضاله السياسي في منتصف مسيرة حياته، عام 1956، دون أن يترك السياسة وهموم المجتمع وقضايا الناس، وظلّ يكافح لتحقيق حلمه الأول... احتراف الكتابة الروائية، إيمانًا منه واقتناعًا بأن «الكاتب يترك أثرًا في القرّاء، وهذا بحد ذاته عملٌ سياسي».
وُلد جورجي أمادو دي فاريا (1912-2001) في ولاية باهيا، «ملكة الجنوب»، لأبٍ يعمل في مزارع «الكاكاو»، وعاش طفولةً قاسيةً، ورأى كيف تعيش جموع المزارعين والعمّال، وكيف كانت الفيضانات تدمّر المحاصيل. وشاهد أباه يتعرّض لمحاولة قتل، ورغم أنه نجا إلا أن الحادثة تركت ندوبًا على جسده. ومن هذا العنف الذي عاينه وهو صغير، وُلدت روايته الشهيرة «كاكاو»، فيما انعكست صور هذه الحياة والبيئة والمدينة، حضورًا طاغيًا على صفحات أكثر رواياته.
عمل جورجي أمادو في سن مبكرة بالصحافة، وفي الثامنة عشرة بدأ بكتابة قصته الأولى «بلاد الكرنفال»، رغم أنه وجد صعوبةً في إكمال دراسته الجامعية بسبب الفقر. وفي شبابه التحق بصفوف الحزب اليساري، ودخل السجن، وأُجبر على الهجرة من بلاده، وبسبب مواقفه السياسية مُنعت كتبه، وصدر أمرٌ رئاسي بحرق رواياته الستّ آنذاك، في إحدى الساحات العامة. وحين عاد بعد سنواتٍ إلى بلاده انتُخب نائبًا في البرلمان.
«أرض الذهب»
تعتبر «أرض ثمارها من ذهب»، رواية ملحمية، تنتمي إلى الأدب الملتزم ولكن المتخفّف من عقائديّته، وهي أشبه بوثيقة أدبية عن حياة العمّال، والمزارعين خصوصًا، في برازيل الثلاثينيّات من القرن الماضي. بل إن ماركيز ذهب للقول بأن «أمادو قدّم أدبًا هو اليوم أهم وثيقة احتجاج».
أحداث الرواية تدور في إيليوس، المدينة الجنوبية التي كانت في أوائل القرن العشرين أكبر مركز لإنتاج الكاكاو في البرازيل. في معظم روايات جورج أمادو، نجده يغوص في حياة الطبقات المحرومة، يصوّر الصراعات الطبقية، ومعاناة الفئات الكادحة، وسيطرة أصحاب النفوذ على مقدرات الملايين.
مزارع الكاكاو أشبه بالجحيم، فالمزارعون والعمّال المياومون يشقَون فيها، فحياتهم أقرب للسخرة، وأجورهم متدنيّةٌ جدًا لا تكاد تسدّ رمقهم، والجوع رفيقهم، وهم الذين يجمعون الملايين للملاك الإقطاعيين ويراكمون لهم الثروات الطائلة. أما مساكنهم فأكواخٌ بائسة، وفي أحسن الأحوال بيوتٌ طينيةٌ تتحوّل إلى أوحال كلما سقط المطر. يعيشون بلا أملٍ في تحسين أوضاعهم، التي تزداد سوءًا وصعوبة، حيث يغرقون في الديون أكثر فأكثر، فيصبحون أرقاء بأيدي الملّاك. في المقابل، يعيش ملّاك الأراضي والإقطاعيون في قصورهم الكبيرة حياة السرف والترف والبذخ، يتلاعبون بالثروات ومصائر البشر، وينفقون حاصل تعب الفقراء طوال عامٍ، خلال أسابيع على الغواني وفي صالات لعب القمار.
الرواية ليس فيها شخصيةٌ واحدةٌ تستند إليها كبطل، وإنّما تغصّ بالكثير من الشخصيات الرئيسية والثانوية، التي تتداخل قصصها وتتقاطع، ولذلك لا يمكن التوقف عند شخصيات تلعب دور بطل، خيّر أو شرير، بل تتناثر وتتوزع المواقف البطولية والمخزية على السواء، على مختلف الشخصيات. فلكل شخصيةٍ قصةٌ ومسارٌ ونهاية، حيث تتحرّك الرواية وتنساب مثل ماء البحر الذي تتقلب أحواله بين الهدوء زمن الرخاء، وبين العواصف في فترات تقلّب الأنواء، عبر فترة صعود وانهيار أسعار الكاكاو، «ذهب البرازيل».
هذه المرحلة، شهدت تطورًا دراماتيكيًا في هذا البلد الناطق بالبرتغالية، على تخوم أغلبية كاسحة لبلدان ناطقة بالإسبانية، وتعتمد غالبيتها على موارد الطبيعة الخام من كاكاو وقطن، في الحديقة الخلفية للجار الأمريكي المهيمن، كما هي حال الكثير من بلدان العالم الثالث التي ينحصر دورها في تصدير المواد الخام المعدنية والمنتجات الزراعية، أو النفط والغاز، حيث تظل الطرف الأضعف في لعبة تدخلات القوى الكبرى. وفي الحالة البرازيلية، نرى التدخل الفاضح من قبل الجانب الغربي، أفرادًا وشركات وحكومات، من أمريكا وبريطانيا وألمانيا... حتى سويسرا والسويد.
كانت في برازيل الثلاثينيات من القرن العشرين، ثلاث قوى محلية: الحكومة ومؤيّدوها من كبار الملاك والتجار؛ والحزب الفاشي (الانتغرالي) الذي ينظر إلى ألمانيا كبلدٍ للخير والأعاجيب إبان صعود النازية نكايةً وكرهًا للإستعمار الأميركي؛ والحزب الشيوعي الذي يدعو إلى التغيير والعدالة الاجتماعية ودعم حقوق المزارعين والعمّال، مستلهمًا الثورة في روسيا.
كانت تلك المرحلة هي نتاج مرحلة سابقة من الاقتتال الداخلي بين الزعماء والشخصيات المغامرة للاستيلاء على الأراضي وكسح الغابات التي كانت في السابق لا مالك لها، وتقليبها وتمهيدها لزراعة الكاكاو، ثروة المستقبل، فأصبحت مصدرًا للتقاتل والاستحواذ والانتصارات، على جثث الملاك السابقين وأتباعهم من عمال ومزارعين. وهو ما حدث على يد الزعيم هوراسيو داسيلفيرا، الذي قضى على عائلة بدارو الغنية، وشتّت شملهم وأحال ديارهم إلى خراب، ليقيم أغلب مملكته الخاصة بفوهة البندقية، كما حاز القليل منها بالشراء من صغار المزارعين أو عن طريق الاحتيال وعمليات التزوير. لقد كانت حربًا عنيفة استبيحت فيها كل وسائل القتل إلى أن سيطرت طبقةٌ جديدةٌ من الملاك أصبحوا «سادة الأرض» الجدد، لترتبط مصالحهم استراتيجيًا بطبقة المصدّرين والشركات الأجنبية.
جيل الخائبين
بعد ثلاثة عقودٍ من الرخاء والاستقرار، تخطّط الشركات الأجنبية لتنفيذ خطة سرية للسيطرة على منطقة الكاكاو، بعد إخراج الملاك المحليين من السوق، بالتعاون مع أحدهم بعدما قَبِل الانخراط في اللعبة. وتم ذلك في البداية عبر رفع الأسعار بطريقة مصطنعة، فتضاعف السعر، من 20 ميلرايسًا إلى خمسة وعشرين. وتحدُثُ عملية رواجٍ اقتصادي يفرح ويبتهج لها الجميع، من الملاك الكبار إلى أصحاب المزارع الصغيرة، انتهاءً بالعمال والمزارعين الذين نالهم بعض الرذاذ.
تستمر هذه العملية ثلاثة أعوام سمانٍ يصل فيها السعر إلى أكثر من خمسين ميلرايسًا، فيعيش الجميع في بحبوحة، ولكنها كانت بحبوحةً كاذبةً، فسرعان ما تنفجر الفقاعة مع مطلع العام الرابع، وتهوي الأسعار فجأةً كما صعدت فجأةً، وكان سقوطها أقسى وأسرع، فبينما احتاج الارتفاع إلى عامين، فإن السقوط إلى 8 ميلرايسات لم يستغرق أكثر من خمسة أشهر فقط، ولم يكن هناك من يشتري الكاكاو. وهكذا أفاق الجميع على وقع الكارثة: الملاك الكبار الذين كانوا يشعلون النار في أوراق النقد من فئة الـ200 ميلرايس في البارات وينثرونها في حفلات المجون، يجدون أنفسهم مدينين للمصدّرين جراء القروض التي أدمنوا على سحبها على الحساب لتلبية شهواتهم الجامحة ورغباتهم الجنونية، فيضطرون الآن لبيع مزارعهم بأثمانٍ بخسةٍ إلى الأجانب الذين استعدوا طويلًا للقطاف في هذا اليوم، بينما يفقد أغلب العمال والمزارعين وظائفهم، فيُزاحون إلى أرصفة البطالة والجوع.
لقد انتهى عهدٌ وبدأ عهدٌ جديد، وسقطت زعاماتٌ محليةٌ لم تعد تجد في جيبها حتى أجرة الباص، وصاروا يُعرفون بـ«أصحاب الملايين المتسولين»، لتحلّ محلهم القوة الجديدة الصاعدة: الشركات والمصدّرون الأجانب، حتى التاجر المحلي الذي تعاون مع الأجنبي، أصبح مجرد موظفٍ مهدّدٍ بالطرد من شركته التي تحوّلت ملكيتها إلى المستثمر الأجنبي، فيصرخ ألمًا وتفجّعًا: «نحن جيلٌ من الخائبين».
الخراب وشراء الذمم
لقد عارض هذا الانقلاب قوتان منظمتان: الأسقف والشيوعيون. أما الأسقف فتم إسكاته سريعًا، عبر تبرّع سخي لبناء كنيسة كبيرة، أما الحزب الثوري الذي احتوى جموع الفقراء والبائسين وتولّى تنظيم حركتهم وتوجيههم نحو عاصمة الإقليم، للاحتجاج السلمي للحصول على الطعام باعتباره حقًّا تكفله الدولة... هذه الحركة تم احتواؤها في البداية، ثم محاصرتها وقمعها ومطاردة من كانوا وراءها.
لقد تعرّضت مدينة الكاكاو المزدهرة للانهيار. وباتت شوارعها مهجورةً كئيبة، وتسارع تسريح العمال وطردهم من المزارع فباتوا مشرّدين دون مأوى يحميهم أو سقف يظلّهم، يهيمون جياعًا في الشوارع بأسمالهم البالية، يحملون همّهم وهمّ من يعولون من نساء وأطفال. وبدأت أعمال سرقة وإغارة على المخازن والمحلات والمزارع طلبًا لما يُسّدُ به الجوع، وسرعان ما يلقى القبض عليهم ويُعاقَبون. وباتت النسوة يشعلن النار تحت أوانٍ فارغةٍ من الطعام لمجرد خداع أطفالهن، ولجأت بعضهن إلى المواخير التي باتت خاليةً هي الأخرى من الزبائن في وقت الضائقة الاقتصادية التي تأخذ بخناق الجميع.
تطرح روايات أمادو «باهيا»، «أرض ثمارها من ذهب»، «طفل من حقول الكاكاو»، «كاكاو»، «نساء البن»، وحتى «الدونا فلورا»، تقاسيم الحياة في البرازيل وتفاصيلها، بأفراحها القليلة وأوجاعها الكثيرة، وتركز على أزمة المدن والبلدان التي تعيش على تصدير المواد الخام، وتقع أسيرةً في فخ القروض الأجنبية، وما تجره على الشعوب من ويلات وأزمات، وخطط تنمية تجهضها الأطراف المتنفّذة. حالةٌ معقّدةٌ استدعى الخلاص منها خوض حروب داخلية وخارجية، وهو ما يذكّر القارئ العربي بما كان في قضية تأميم قناة السويس في الخمسينيات، وامتلاك الدول العربية لثرواتها النفطية في السبعينيات.
كوّة أمل على المستقبل
يختم أمادو روايته بفتح كوّةٍ من الأمل على المستقبل، رغم قتامة الحاضر، في حوار أخير:
- لقد انصرم عهد الإقطاعيين يا رفيق... وبدأ اليوم عصر المصدِّرين، عصر الاستعمار. ولسوف يمر هذا العهد أيضًا، ولكنهم سيبدأون أولًا بأكل بعضهم بعضًا.
فقد بدأ اثنان من كبار المصدّرين يتعاركان، وأخذ الانتغراليون «الفاشست» يهاجمون ممثل الشركة المتعاونة مع الأجنبي. ويجيبه الآخر:
- أرأيت؟ الألمان يقفون في جهة، ويقف الأميركان في الجهة الأخرى. ولسوف ينتهي عهدهم أيضًا ويبدأ عهدنا نحن. فقد تبعت الأرض أولًا المزارعين الذين استولوا عليها، ثم غيّرت مالكيها وسقطت بأيدي المصدّرين الذين سوف يستثمرونها، ولكن سيأتي يومٌ لن يبقى فيه للأرض سيدٌ... ولن يبقى فيها عبيد ■