البخور وطرقه في الحضارات القديمة

البخور وطرقه  في الحضارات القديمة

عرفت الحضارات القديمة البخور، وكان يُحرَق في المعابد المصريّة والسومريّة والعبريّة والآشوريّة والفارسيّة واليونانيّة والرومانيّة. وتناوبت على استعماله لاحقًا الكنائس المسيحيّة تليها الجوامع والمساجد. كذلك كان البخور يستهلك في البيوت والحفلات الخاصّة. وحتّى اليوم، لا تزال تحرق أو تُبَخَّر في المراسم الدينيّة المواد والزيوت العطرة، ومن بينها الأخشاب والصموغ، كالحَرْمَل، وعود الطيب، وخشب الرُّمّان، والسرو، والصندل، والعنبر، والكُندُر، واللُّبان أو اللوبان، أو مركّباتها.

 

كانت هياكل مصر القديمة تعبق برائحة البخور الذي يُحرَق فيها منذ العام 3000 ق. م. كذلك كانت هياكل كلّ من بابل وفينيقيا وفلسطين، المعاصرة الهياكل المصريّة، تستعمل البخور في إحياء طقوسها الدينيّة. فالهيكل في القدس كان يضمّ غرفًا مخصّصة لتخزين البخور. 
وتلقّى هيكل أمون في سنة واحدة في القرن الثاني عشر ق.م. ما يعادل 2200 جرّة و300 مكيال من البخور. وكان كهنة بعل يحرقون عشرة آلاف وزنة من البخور في السنة الواحدة. وبعدما نظّم داريوس الكبير الفارسيّ (486-522ق.م) أمبراطوريّته، طلب إلى التجّار العرب أن يقدّموا له ألف وزنة من البخور في السنة بدل ما يترتّب عليهم من العشور. وأرسل الإسكندر الكبير 500 وزنة من البخور من غزّة وحدها هديّة إلى معلّمه. وتشير الآثار العائدة إلى عصر الماديّين، في النصف الأوّل من القرن الأوّل ق.م.، إلى استخدام البخور في المراسم المختلفة.
كانت الغاية من استعمال البخور لنشر الروائح الذكيّة والعَطِرة في الأماكن المقدّسة، أو لأغراض دينيّة وعلاجيّة وأمثالها. كذلك كان يُحرَق للبركة من جهة ولطرد الأرواح الشرّيرة من جهة أخرى؛ في الديانة الزرادشتيّة، كانت الأخشاب المعطّرة تُحرَق في المراسم الدينيّة، في الأعياد وفي المنازل، لإرضاء إله النار ولطرد الشياطين وعناصر الفساد. وكان استخدام بخور المواد العطرة، وخصوصًا الكُنْدُر، متداولًا في مراسم اليهود الدينيّة. من هنا كانت شجرة البخور تعدّ شجرة مقدّسة. وقد احتكر رجال من أسر معيّنة استخراج عصيرها لتجفيفه وبيعه. وكانت طقوس دينيّة خاصّة ترافق استخراج العصير، لأنّ الناس كانوا يعتبرون أنّ الرجل ينتزع دم الحياة من حيّ له صفة إلهيّة.
كان البخور يُحرَق في المِبْخرة التي ذُكِرت في المعاجم والنصوص المختلفة بعدّة أسماء، منها: المِشعال، الموقِد، البخورة، المَطيبة، مِشعل عود الطيب، المَدخنة، المذبَح، المِجمَر والمِنْقل. وكانت المباخر تُصنع من الفخّار أو الحجارة أو البرونز أو النحاس أو العاج أو المعادن الثمينة، على شكل تماثيل الحيوانات وخصوصًا الطيور.
تفوّقت نوعيّة عَرَق شجر اللبان في ظُفار على منافساتها. وتتضمّن النصوص اليهوديّة واليمنيّة أخبارًا مفادها أنّ ملوك سبأ وإسرائيل واليهوديّة استوردوا المادّة الثمينة مدّة 1000 سنة تقريبًا. وتشير كتابات حِمْيَريّة إلى أنّ القوافل كانت تسير بانتظام من ظُفار باتّجاه حَضْرَموت المجاور، مع أنّ شجرة اللُّبان الشهيرة المعروفة باسم البوزويليا ساكرا (Bosewllia Sacra) كانت تنبت هناك أيضًا. وكان لتلك التجارة أهمّيّة كبيرة إلى درجة أنّ إنشاء ميناء سُمْهُرَم الكبير في القرن الأوّل قبل الميلاد، ناهيك بميناءي البليد وطاقة ومُغْسَيل، ارتبط بشكل مباشر بحماية «الطريق إلى اللُّبان» واحتكاره. وكانت كمّيّات كبيرة من الإنتاج المحلّي تُخزَّن في أهراء سُمْهُرَم وتخضع لمراقبة دقيقة من قبل السلطات المحلّيّة.   

مصادر البخور 
شكّل جنوب شبه الجزيرة العربيّة، الممتدّ من حَضْرَموت إلى ظُفار، ومنطقة في شرق إفريقيا تمتدّ من الصومال إلى رأس غودفروا، مصادر مهمّة لحصول القدماء على ما يحتاجونه من البخور. وكان أجود الأنواع وأغلاها قيمة البخور الذي يأتي من جنوب شبه الجزيرة العربيّة والمعروف باللُّبان. أمّا المُرّ، وهو أحد أصناف البخور، فتنمو أشجاره في المناطق المحيطة بالبحر الأحمر في الجزء الجنوبي منه. بيد أنّ المُرّ لم يبلغ درجة البخور الأصلي في نظر الناس. 
كان البخور من محاصيل القسم الجنوبي من الجزيرة العربيّة، يُستخرج من غابات البخور في المنطقة (الكُنْدُر والمرّ وغيرهما). وكان يصل إلى مصر وبابل وبقيّة البلاد المجاورة، إمّا من بلاد العرب نفسها أو من الصومال وجوارها أو من الهند وما إليها، عبر الأجزاء الجنوبيّة الغربيّة من شبه الجزيرة. وكان يتمّ على أيدي التجّار العرب الذين يستوردون، مع البخور، الأدويّة المعطّرة والحيوانات القيّمة النادرة كالطواويس والقرود، وغيرها من السلع. أمّا البحر الأحمر فلم يدخل السباق إلّا في القرون السابقة للميلاد، لأنّ القوارب الصغيرة التي كان الإنسان القديم يستعملها ما كانت تصلح للشواطئ الصخريّة والمرجانيّة الخطرة المحيطة بالبحر.

طُرُق البخور  
كان البخور يُنقل عبر الطرق البرّيّة من حَضْرَموت، حيث كان يُجمَّع أو يُحمَّل من الأماكن الأخرى إليها. 
توزّعت تجارة البخور على ثلاثة طرق، يبدأ كلّ منها في حَضْرَموت، وتلتقي جميعها في مأرب. وهذه هي أقدم طرق البخور المعروفة. ومن مأرب يتّجه الطريق شمالًا إلى الجوف فنجران فوادي تُرَبة فالطائف. كانت نجران، قبل الإسلام، ملتقى الطرق الممتدّة من الجنوب، وفيها تلتقي طريق الشام التجاريّة المهمّة بطرق جنوب الجزيرة العربيّة. وفي حال انتقلت القوافل إلى مكّة، كان عليها أن تستريح بعض الوقت، وأن تبدّل الحيوانات والرجال، لأنّ المنطقة الواقعة إلى الشمال من مكّة كان يصعب اجتيازها على أهل الجنوب. ثمّ تنتقل القوافل من مكّة إلى يثرب (المدينة المنوّرة لاحقًا) وتسير باتّجاه الغرب نحو المنطقة الساحليّة متحاشية المنطقة الجافّة الصعبة بين المدينتين. ومن يثرب تتّجه القوافل إلى العُلا (دَيْدان القديمة) التي شكّلت واحة ومتجرًا، وصولًا إلى ميناء أيلة (العقبة)، ومنه إلى شبه جزيرة سيناء ومصر، أو إلى مدينة غزّة على ساحل البحر المتوسّط. وكان لغزّة أهمّيّة فائقة في تجارة شبه الجزيرة العربيّة، إلى حدّ يمكن عدّها الشريان الحيوي لمناطق شبه الجزيرة الجنوبيّة. وكان يُضرب فيها 24 أو 44 نوعًا من النقود، كانت متداولة في داخل الجزيرة العربيّة. وكانت غزّة آخر محطّات طريق البخور، ومركز السلع المستوردة من الصين والهند وإفريقيا. وفي المقابل كانت مركز تصدير البضائع والأقمشة من مصر إلى تلك البلاد. ومن غزّة كان الطريق يتّجه إلى دمشق ومنها عبر تدمر ودورا (الصالحيّة) إلى بلاد ما بين النهرين. 
هذا هو الطريق الذي كان البخور يُنقَل عبره حتّى يصل إلى بابل القديمة. وهو طريق طويل جدًّا، ولكن كان هذا ضروريًّا، لأنّ حيوان النقل الذي كان يُستعمل في الأزمنة الأولى هو الحمار. والحمار لا يستطيع اجتياز المناطق الصحراويّة الجافّة. وحينما دخل الجمل إلى بلاد العرب في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، تبدّلت الطرق بعض الشيء، لأنّ الجمل يمكنه تحمّل العطش والجوع. 
والتبديل الرئيسي الذي طرأ على تجارة البخور هو أنّ القوافل بدأت تتّجه من نجران شمالًا في شرق عبر وادي الدواسر وواحات الأفلاج والخرج واليمامة في نَجْد إلى بلاد البحرين على الخليج العربي. ومن الأحساء (الحسا) كانت تسير الطريق شمالًا إلى العراق. وبذلك قصرت المسافة التي كان يقطعها تجّار البخور في نقله من حَضْرَموت إلى بلاد ما بين النهرين. كذلك استجدّ تغيير آخر وهو أنّ القوافل أصبحت تنتقل من مكّة إلى يثرب رأسًا، أيضًا لأنّ الجمل كان يتحمّل الأحوال المناخيّة الصعبة.

المصريّون والبخور
سعى المصريّون للحصول على البخور من مناطق اليمن مباشرة، عن طريق البحر الأحمر حتّى في الألف الثالث قبل الميلاد، لكنّ سعيهم باء بالفشل بسبب صعوبة الشواطئ هناك، ثمّ حاولت الملكة حتشبسوت ثانية في أواسط الألف الثاني ق. م.، وتمّ لها ذلك. لكنّ اضطراب الأوضاع في مصر لاحقًا أوقف هذه الحملات البحرية إلى بلاد بونت، كما كان المصريون القدامى يسمّون المنطقة المحيطة بجنوب البحر الأحمر ومخارجه إلى المحيط الهندي.
وبعدما استقرّت الأمور للبطالسة في مصر (30-306ق.م) ونظّموا شؤونها، بنوا أسطولًا في البحر الأحمر، فنشطت التجارة كثيرًا، وقامت المنشآت التجاريّة هناك. وأصبحت بضائع الصومال وجزيرة سوقطرة وجنوب شبه الجزيرة تنقل بحرًا إلى برنيسي على البحر الأحمر وغيرها. ولكن حين دب الضعف في جسم دولة البطالسة ضعفت التجارة، وكثر القراصنة في البحر الأحمر، وعاد الطريق البرّي إلى ازدهاره.

أغسطوس قيصر والبخور 
احتلّ الرومان مصر وأعاد أغسطوس قيصر (27ق.م14-م) السِّلْم إلى العالم الروماني، وأدرك قيمة البحر الأحمر التجاريّة، فأرسل حملة إلى جنوب شبه الجزيرة العربيّة لاحتلال اليمن والسيطرة على المركز الرئيسي للتجارة هناك. وأصدر أوامره إلى آيليوس غالوس، القائد العام للوحدات الرومانيّة في مصر، أن يسير بعشرة آلاف جندي. وطلب من الأنباط أن يمدّوه ببعض الجنود وأن يتولّوا مهمّة التموين والإرشاد. كان الهدف من الحملة هو السيطرة على طريق البخور، إذ بعد الفتوحات التي قامت بها الدولة الرومانيّة أحكمت سيطرتها على الساحلين الشرقي والغربي للبحر الأحمر، وتاليًا على طريق خروج تجارة البخور (أي مصر وموانئ الساحل الشرقي للمتوسّط). وفكّرت الدولة الرومانيّة في الاستيلاء على مصدر البخور.   
انطلقت الحملة من أرزينوي التي كانت على مقربة من مدينة السويس الحديثة. ونُقل الجنود عبر البحر الأحمر إلى لوكي كومي (الحوراء أو القرية البيضاء) الواقعة على مقربة من يَنْبع. ومن هناك بدأت الحملة البرّيّة إلى مأرب قاطعة مسافة تقرب من 2500 كلم. بدأت الحملة في ربيع العام 24 ق.م، ووصلت، بعد مصاعب كثيرة، إلى نجران، فحاصرتها واحتلّتها، والتقت جيشًا عربيًّا إلى الجنوب من هذه المدينة وانتصرت عليه. ومع أنّ الرومان حقّقوا انتصارات في معارك صغيرة أخرى، فإنّهم اضطرّوا أخيرًا إلى الانسحاب، فانسحبوا من دون أن يتسنّى لهم الوصول إلى مأرب. وقد دامت الحملة ستة شهور، وانتهت بالفشل.

احتكار العرب تجارة البخور
إلّا أنّ التجارة في البحر الأحمر، في أيّام أغسطوس قيصر، كانت مزدهرة. فقد ذكر سترابو أنّ 120 سفينة سافرت في سنة واحدة إلى الهند من ميوس هرموس (في منتصف الشاطئ المصري) على البحر الأحمر. ولا بدّ هنا من الذكر أنّ التجارة خارج البحر الأحمر بقيت قرونًا طويلة حكرًا على العرب، وبقيت تجارة البخور في أيديهم. وكلّ ما يمكن إضافته هنا أنّ الاهتداء إلى مواعيد هبوب الرياح الموسميّة سهّل على العرب التجارة مع الهند. وزادت الكمّيّات المنقولة من تلك البلاد من المتاجر المختلفة، واستمرّ البخور مع التوابل في مقدّمة ما يُشحَن من هناك.

الضربة القاضية
أخيرًا، أصيبت تجارة شبه الجزيرة العربيّة بالضربة القاضية، بعد المساعي والجهود التي بذلها الرومان لتسيير الأسطول البحري، وتأمين الملاحة البحريّة بين مصر والهند من خلال البحر الأحمر، واكتشاف موسم الرياح الجنوبيّة الغربيّة الملائمة لإبحار السفن بين ميناء باب المندب والميناء المصري ميوس هرموس على الساحل الغربي للبحر الأحمر. فبعد ذلك جعل حاكم مصر الروماني في النصف الأوّل من القرن الأوّل  ق.م.، طريق التجارة بين الهند ومصر يمرّ في البحر الأحمر الذي كانت تتمّ عبره عمليّات الاستيراد والتصدير الدوليّين وتجارة البخور، التي كانت حتّى ذلك الحين تمرّ من الطريق الغربي لشبه الجزيرة العربيّة، ما أضرّ بتجارة هذه المنطقة ■