صور وانطباعات عن الجزائر في رحلة الفرنسي غي دو موباسان «حياة التجوال»
تتنوع مصنفات الرحلات الفرنسية إلى شمال إفريقيا، من الصبغة العلمية الجغرافية والتاريخية والأنثروبولوجية، إلى الإبداع الأدبي، فكانت الكتابات الأولى العلمية ممهدّة للولوج التدريجي للقوى الاستعمارية الأوربية البرتغالية، والإنجليزية، والإسبانية، والفرنسية إلى قارة إفريقيا ابتداء من القرن الثامن عشر الميلادي، واقترنت بالاستكشاف، والبحث الجغرافي، والتبشير المسيحي، وتجارة العبيد، وتجارة الذهب، والمعادن النفيسة، ومع بداية القرن التاسع عشر أصبح الغزو العسكري الأوربي للبلدان الإفريقية أمرًا ممكنًا، وهو الذي شجع أكثر فأكثر الرحلات نحو المنطقة لتوسيع المعرفة بالأرض والسكان، وأخذت الرحلات الفرنسية نحو الجزائر حيّزًا أكبر، نظرًا لأهمية البلاد، وشساعة مساحتها، وتعدد تضاريسها، واختلاف ممارسات الإنسان فيها الثقافية منها، واللغوية، والدينية، والشعبية.
وعليه، قُدّمت محاولات أدبية في الرحلة إلى الجزائر، من قبل شعراء وكتاب قصة، وراية، ورسالة، وهي أعمال تندرج تحت إطار الكتابة السيرية، واليوميات، والمراسلات، وتعبر عن رغبات أصحابها في المغامرة، والسياحة، والهروب من المدنية والحضارة، إلى البداوة والعفوية، ومن أشهر هذه الرحلات ما ألّفه تيوفيل غوتييه عن العيساوة، ورقصة الجن في قسنطينة (1845)، وغوستاف فلوبير (1845) صاحب رواية سالامبو المعتمِد فيها على أحداث رحلاته داخل الجزائر وتونس، والأخوان إدموند وجول غانكور (1849)، وألكسندر دوما الأب (1855)، وإرنست فايدو (1860)، وإيزابيل إيبرهاردت (1898) التي عشقت الجزائر، وتركت أعمالاً ضخمة في وصف رحلاتها إليها، منها «كتابات على الرمال»، وكتاب «تحت الظل الدافئ للإسلام»، كما ارتبطت بعض الرحلات بأغراض صحية، كالاستشفاء من الاكتئاب والقلق، والأمراض الجسدية أيضًا، ومنها رحلة ألفونس دوديه إلى مليانة غرب الجزائر (1861)، ورحلة الكاتب غي دو موباسان (1850-1893) (Guy de Maupassant)، الذي بحث عن الصحة العقلية، والتخلص من السأم من الاستقرار في باريس بجولاته في سواحل إيطاليا، وشمال إفريقيا، وقد عرف دو موباسان بكتاباته الكثيرة في أدب الرحلات، منها رحلته إلى الجزائر «رحلة إلى الجزائر، إلى بلاد الشمس» كانت عام 1881، و«من تونس إلى القيروان»، ورحلته «على الماء» المنشورة أول مرة في مجلة النشرية الفرنسية عام 1876، وكتابنا - موضوع المقال - «حياة التجوال» (1890).
1- كتاب حياة التجوال
يحتضن الكتاب المنشور عام 1890 أخبار رحلات دو موباسان إلى إيطاليا عام (1885)، والتي منها أبحر إلى الجزائر في السنة ذاتها، كما أعاد في الكتاب نشر رحلته نحو الجزائر وتونس المنجزة بين عامي 1887-1888، وكانت رحلته الأخيرة إلى تونس انطلاقًا من الجزائر، عبر السكة الحديدية مرورًا بالمدن الداخلية الجزائرية كقسنطينة، وثاغاست مسقط رأس القديس أوغسطين (سوق أهراس حاليًا)، أو ما كان يسمى بهيبون (عنابة) القديمة، وبعيدًا عنها يوجد الموقع الأثري خميسة، ومنه منطقة الخرومير، أو جبال الخُمير التي تعبر مدينة القالة بالطارف الجزائرية، ثم طبرقة في تونس وصولاً إلى قرطاج مسرح أحداث رواية سالمبو لصديق دو موباسان غوستاف فلوبير، ومن قرطاج كان الدخول إلى مدينة تونس، ثم السفر إلى القيروان، وأخيرا سوسة، وأنهى رحلته شتاء عام 1888، وقد أخذت الجزائر في هذا الكتاب حيزًا يسيرًا؛ لأنه عمل أخير لخص فيه رحلته السريعة في البلاد عام 1887، وكان قد خصّ الجزائر بعمله المذكور آنفًا «رحلة إلى بلاد الجزائر، إلى بلاد الشمس» ويهمنا في هذا الموضوع نظرة الرحّال إلى طبيعة البلاد، ومعالمها، وانطباعاته حول الإنسان الجزائري، التي تجلت في سرده لتجواله فيها، أو وصفه لمشاهداته بها.
2- المكان ومعالمه في نظر موباسان
يصف موباسان في بداية رحلته المسجد الكبير بالجزائر العاصمة، المحاذي للميناء، وهو جامع أبيض، يؤدي مدخله إلى قاعات صغيرة إحداها للقاضي، وأخرى مصلى للنساء، وقاعة للدراسة، قربها نافورة ماء للوضوء، وشجرة كبيرة، ويوجد به قاعة أخرى مربعة كبيرة للصلاة خاصة بالرجال، يظل فيها المصلون حتى خارج أوقات الصلاة، وما يميز المسجد أعمدته الرخامية الملونة الخضراء منها، والحمراء، والزرقاء، وجدرانه شديدة البياض، وأفنيته العارية والمضاءة بنور الشمس.
واستنتج دو موباسان الفروق بين المسجد والكنيسة، مبديًا سخطه، ويأسه، قائلاً: «كل شيء بسيط، كل شيء عارٍ، كل شيء أبيض، كل شيء حلو، كل شيء مسالم في مصحات الإيمان هذه، مختلفة تمامًا عن كنائسنا المزخرفة، مهتاجة، عندما تكون ممتلئة بضوضاء المكاتب، وبحركة المساعدين، بالاحتفالات، وبالأغاني المقدسة، وعندما تكون فارغة، تصبح حزينة جدًا، ومؤلمة جدًا لدرجة أنها تضغط على القلب، بحيث تبدو وكأنها غرفة احتضار، غرفة حجرية باردة حيث يحتضر المصلوب مرة أخرى» ويحيل هذا الانتقاد لمدرسة الكاتب الفنية، وهي الواقعية التي تميل إلى البساطة في العيش، وتنبذ كل أشكال التأنق، والفخامة التي دافعت عنها الكلاسيكية، كما أنه يقدّم وصفًا لظاهرة خلو الكنائس من المتعبدين، بأنها تضغط على القلب، وهو دأبه في كامل رحلته، أي تفسير الظواهر الجسمانية والنفسانية بأسباب علمية، وفق الواقعية الطبيعية.
ويقدّم موباسان تفاصيل عن زاوية سيدي عبدالرحمن الثعالبي، فوجد موباسان في داخل الزاوية فناء به مسجد له مئذنة مرتفعة مربعة، وفيها قبور واقعة على سلم هي لشخصيات بسيطة، وأخرى مشهورة مثل أحمد بك باي قسنطينة، الذي لم يضيّع الفرصة ليظهر وحشيته، معلقا عنه بأنه من أطعم كلابه بأحشاء سجناء فرنسيين، وفي الزاوية كذلك شجرة سرو، وشجرة تين، أما الجدران ففيها زخارف أندلسية (مورسكية)، ويؤدي الفناء إلى حجرة بها قبر الولي يُرى بعيدًا عنه في الأعالي كنيسة السيدة الإفريقية، وتحتها حي سانت أوجين، وفي اليمين الحي العربي بمساكنه المتدرجة، أما القبر فهو مزخرف ومرسوم، شبّهه بـ «سرير بريتون»، مغطى بالأقمشة والحرير والأعلام من ألوان مختلفة، وتمتلئ الغرفة بهدايا زواره، كثيرة وغريبة، ساعات من جميع الأحجام، ولافتات نذر، وثريات من النحاس والكريستال كثيرة، ومختلفة الأحجام، غطّت تقريبًا سقف القاعة، وكانت الأرضية مغطاة بزرابي ملونة، والنسوة تجلسن عليها قرب الضريح، وتتهامسن مع المقبور فيه عن همومهن، ومظالمهن، وأمانيهن.
وكذلك ترك الرحال انطباعًا شخصيًا عن المناظر الطبيعية الواقعة بين الجزائر وتونس، وأبدى عناية كبرى بالآثار القديمة الرومانية، وافتخارًا بشخصياتها المشهورة، موجزًا ضمن تلك الإشارات الأركيولوجية مساره نحو قرطاج التونسية، فقال: «تعبر السكة الحديدية قبل الوصول إلى تونس بلدًا رائعًا من الجبال المشجرة، وبعد أن ترتفع الطريق مشكلة تعرجات هائلة على ارتفاع سبعمائة وثمانين مترًا، حيث يطل الناظر على مناظر طبيعية واسعة ورائعة، تدخل السكة إلى تونس عبر سلسلة جبال خمير، وهي سلسلة من الجبال والوديان المهجورة الجرداء، حيث كانت تقع المدن الرومانية ذات يوم، إليكم أولاً بقايا طاغاست حيث ولد القديس أوغسطين، الذي كان والده قائدًا بارزًا في الحكم الروماني، وبعيدا هناك توجد ثوبورسيكوم أوميداروم Thubursicum Humidarum، الذي تغطي آثاره سلسلة من التلال المستديرة الخضراء، إلى الأبعد أكثر توجد مادور، حيث ولد أبوليوس في نهاية عهد تراجان. بالكاد يمكن للمرء أن يحصي المدن المندثرة القريبة».
3- نظرة دو موباسان إلى الإنسان الجزائري
توغل دو موباسان في شخصية الرجل الجزائري المسلم، ووصفه بشكل دقيق خارجيًا وداخليًا، وانطلق من العام إلى الخاص؛ حيث قدّم انطباعًا شخصيًا عن الجزائريين عموما سواء كانوا في العاصمة الجزائرية، أو في قرى الداخل، وسواء كانوا في الساحل، أو في الجنوب الصحراوي فإن لباسهم واحد، يشبه لباس الرهبان، يغطون رؤسهم بالعمائم، ملامحهم قاسية، ونظراتهم حادة، يحكمهم دينهم في كل أحوالهم، ملتزمون، زاهدون في الحياة، صارمون في معاملاتهم، عفويون، عفوية العرب من البدويين البسطاء، الذين صقل الدين المحمدي عقليتهم وشخصياتهم، وكما قال: «الدين هو أكبر إلهام لأفعالهم وأرواحهم ومحاسنهم وعيوبهم، بواسطة الدين ومن أجله هم صالحون، شجعان، رقيقون، مخلصون».
وقد لاحظ دو موباسان أنه لم يؤثر أيُّ دين على المخلوقات، مثلما أثّر فيها الدين الإسلامي، الذي يدين به سكان نصف الكرة الأرضية تقريبًا، وعلى الرغم من الإلحاح على فكرة شيوع التدين في البلاد، لكنه لم ينف وجود فساد أخلاقي عند فئات من المجتمع، وتوفر بيوت البغاء، مع حرية، وجرأة وسذاجة لم يجدها في أوربا، وتخلى دو موباسان عن سرد مجريات ارتياده لهذه الأماكن، واكتفى بالإشارة السريعة لذلك في كتابه «حياة التجوال».
وركز الكاتب وصفه أكثر فأكثر، متتبعًا الرجال الجزائريين في المسجد الأبيض (الكبير)؛ فوجدهم هادئين هدوء الشرقيين، يتحدثون بصوت منخفض احترامًا للمكان، وللمصلين، وكذلك وصف القاضي، المختفي في لفات برنسه، والمعمم بعمامة ثقيلة وضخمة، لا يظهر منها إلا القليل من الوجه، لكن نظراته للمشتكي كانت جادة وهادئة.
أما المرأة الجزائرية فقد شغلت هي الأخرى دو موباسان، حيث سلّط عليها الضوء بالوصف والتحليل، فعكس بذلك مشاعر التعاطف أحيانًا، والإقلال من الشأن والسخرية أحيانًا أخرى، كما لم يخف فضوله لرؤية وجوه المحجبات، واستطلاع ملامحهن، ولم يبق له إلا التخيل، والتكهن لنسبة الجمال لديهن.
لاحظ موباسان وهو في مدينة الجزائر أن النساء غالبًا لا يتوجهن إلى المسجد للصلاة، ومصلاهن كان فارغًا، بينما لاحظ وجودهن في المسجد للاحتكام للقاضي، في قاعة خاصة، تخاطبن القاضي من شباك صغير يطل على القاعة الرئيسية، وقد جمع تفسير موباسان لما رآه بين الطرافة والمبالغة، وتجاهل لخصوصيات المجتمع، ولقيمه وأخلاقه؛ إذ وجد شبهًا بين حديث المرأة مع القاضي من ذلك الشباك، وبين «الاعتراف» (les confessions) لدى المسيحيين، المؤدى في الكنيسة بطريقة سرية، ومن جهة أخرى تمادى وبالغ في الحط من قيمة المرأة عندما نعتها بالمخلوق أقل نبلاً من الرجل، وهي لا ترقى إلى الوقوف أمام القاضي، ومحادثته وجها لوجه، بينما يرتبط الأمر في الواقع بمنع اختلاط المرأة المسلمة بالرجال، والتعرف عليها أثناء المحاكمة، حماية لها من التشهير، أو الإيذاء.
وكذلك جاء تفسير الكاتب لغياب النساء عن المسجد ساخرًا، في إشارة إلى جهلهن وسذاجتهن؛ وتلميح بكثرة مشاكلهن، وتشعبها؛ حيث علل الظاهرة بأنهن كن يعتبرن أنفسهن أقل شأنا من الرجال، وكن يعتقدن: «أن الله بعيد جدًا، ومرتفع جدًا، ومهيب جدًا، فلا يمكن للمرأة أن تجرأ على إخباره (الله تعالى) بكل همومها، وأن تعهد إليه بكل آلامها، أو أن تطلب منه كل قوائم الخدمات الهينة، وقوائم طلب المساعدات والشكاوى ضد الأسرة، وضد الزوج، وضد الأطفال، وكل الرغبات التي تحتاج إليها النساء، هناك حاجة إلى وسيط بينهن وبين الله الكبير جدًا، وهن الصغيرات جدًا». ودائما يجد الرحال نظيرًا لهذا السلوك الجزائري في ثقافته ودينه، فهذا الوسيط الذي هو في الجزائر المرابط والولي الصالح سيدي عبد الرحمن الثعالبي، هو في الديانة الكاثوليكية القديس، ومريم العذراء التي تعد المدافعة عن الخجولين والخائفين أمام الله في المسيحية.
ولم يهمل دو موباسان الوصف الخارجي للمرأة في مدينة الجزائر، إذ شاهد النساء يخرجن من منازلهن مع بعضهن البعض، تغطي وجوههن قطع من القماش الأبيض المسمى في الجزائر (لُعْجارْ)، أما الرأس فيغطى بقطعة قماش أخرى تعرف بمحَرّْمَة الفْتُولْ، شبهه موباسان بغطاء الرأس في صور مريم البتول، ويغطي جذعَ المرأة الحايَكْ، وهو رداء أبيض تحته سروال ساتر للرجلين من الكتان، مدور من قَصَّة كاليكو، يضيق عند الكاحل، ولا يظهر من المرأة سوى العينين والحاجبين المتصلين بخطين من الكُحْل يرسمان على الصدغين، وقد وجد الرحال عيونهن وهن في زاوية عبد الرحمن مشرقة، لأملهن في تحقق أمانيهن، وفي الأزقة سوداء حزينة، كنظرات السجناء، وهو تلميح لسوء المعاملة للنساء، وتقييد حرياتهن آنذاك، وهي فكرة ترددت في أغلب رحلات الأوربيين إلى الجزائر، وإلى سائر البلدان العربية، باستثناء تلك التي لم تنخرط في السياسة الاستعمارية، وفي حملات تشويه الصورة، ونشر الأفكار الخاطئة.
في الأخير، تتيح رحلة دو موباسان المتأخرة «حياة التجوال» للقارئ الاطلاع على النظرة الجديدة للكاتب حيال الذات والآخر، وعلى تطور الأسلوب لديه الذي اتسم بالجمع بين التعبير الوجداني، والتصوير الواقعي الطبيعي للمشاهدات، والمواقف، مركزًا على مكانة الدين الإسلامي في حياة الرجل والمرأة بالجزائر، مهملاً المناظر الطبيعية لتعوّد الرحال عليها، فكانت الصور المقدمة مقتصرة على مصدرين أساسيين هما: المعايشة، والمشاهدة الواقعية، ومشاعر وأحاسيس الرحال، بينما تخلى دو موباسان عن الاستشهاد بما قرأ من الرحلات السابقة، أو سمعه عن الغير أثناء رحلته، فابتعد في أغلب مواقفه عن الأحكام النمطية الشائعة في كتب المستشرقين، والرحالين الغربيين عن الجزائر خصوصًا، ودول المشرق عمومًا ■