محمود سعيد جدلية الجسد والمشهد
محمود سعيد (1897-1964م) فنان مصر الرائد في مجال التصوير الحديث، مازالت تجربته الإبداعية تشكل نصًّا مفتوحًا يدعو كل عين بصيرة للاكتشاف وإعادة القراءة، شأنها في ذلك شأن كل تجربة فنية أصيلة تحمل في داخلها بذور استمرار حياتها منعتقة عن الحيز الزماني والمكاني المحدود الذي أبدعت فيه، وعلى الرغم مما قدمه محمود سعيد من احتفاء واضح بالجسد الإنساني في تجربته التصويرية فإننا لا نستطيع أن نلخص تجربته الفنية في حدود تناوله المبدع لذلك الجسد، إذ كان تصوير الجسد في أعماله غالبًا ما يأتي مقترنًا بمشهد ما يشكل رحمًا لذلك الجسد بتجلياته المختلفة، فبالنظرة الشمولية لأعمال محمود سعيد نجدها قد تحركت ما بين الجسد الإنساني والمشهد الطبيعي، إما كل منهما مستقلاً بذاته وإما مشتركان معًا في عمل واحد.
ويتفاوت دور المشهد حضورًا وغيابًا، فأحيانًا يقبع بعيدًا في دور خافت كأنه مجرد شغل لفراغ خلفي، وأحيانًا أخرى يكون المشهد بطلًا دراميًا يتجادل مع الجسد المصور وينازعه الأهمية في حوار بصري معاصر أعلى نبرة الخلفية للتكافؤ في أهميتها مع قيمة مقدمة الصورة فتنقض بذلك فكرة التدرج المسافي المفترض واقعيًا بين الشخصية والمشهد. لقد أطلق سعيد الجسد وصوره في فضاءات الطبيعة متناقضة الأحوال لننسحب معه ومعها في أجواء مفتوحة لزرع الدلالات والأبعاد الخاصة برؤيتنا كمتلقين.
المشهد ذاكرة المدينة
المدينة عند محمود سعيد هي حيوات مكثفة تتناقض وتتقاطع وتتعايش معًا، فهو يرى المكان ككيان يحتوى خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه، يثبته في لحظة تاريخية يقبض عليها بحالتها الإنسانية فيحفظها من الذوبان في متواليات الحياة الرتيبة وعادياتها. فالمكان هنا لم يفرض واقعيته على الفنان ولم يلقنه مفرداته بل اصطفى الفنان من المكان ما يراه صالحًا للولوج إلى عالم الصورة.
وتبدز لوحة «المدينة» للفنان محمود سعيد كأنها مشهد سينمائي بعين مصور حاذق يلتقط من الحياة المصرية الشعبية أهم علاماتها ليوثقها ويؤرخ لها ويظهرها في أبهى صورها. إن كل عنصر في اللوحة يبدو كأنه ممثلٌ يؤدي دوره بشكل مثالي في هذا المشهد «السينوجرافي»، كأن المشهد يتناص أدبيًا مع مشاهد نجيب محفوظ في روائعه «خان الخليلي» و«زقاق المدق» و«الثلاثية». قد صوّر الحياة المصرية لتلك الحقبة والتي انتهت معظم معالمها الآن فباتت أعمال سعيد في جانب منها وكأنها توثيق بصري فني لها، يتغنى فيها الفنان بعشق بالصورة المصرية الشعبية التي أحبها للغاية وأطل عليها إطلالة ابن القصور المنتبه لتلك التفاصيل التي لا تمثل جزءًا حقيقيًّا من حياته الواقعية، وربما كان ذلك أحد أسباب الإثارة والتحفيز على التصوير بالنسبة للفنان.
والمشهد عند محمود سعيد مركب من طبقات شبيهة بالطبقات الأركيولوجية: طبقة الإنسان من خلال الوجوه البشرية المتعددة التى صورها، طبقة العمارة المحلية المرتبطة بالمكان الذي صور فيه شخوصه خالدة، طبقة الطبيعة التي تحتضن الجميع في أحداثهم الشخصية والتي تمثل الأثر الباقي رغم اندثار أبطاله الذين حولهم الفنان لرموز خالدة في وجدان الفن المصري.
هو يستغرق في تصوير المشهد مستسلمًا في ولع لعالمه الذي صنعه كما يهفو: متحكمًا في شخوصه، في تفاصيله، في كائناته، يمارس لعبة حرة ويدخل مغامرة جديدة في اختيار ما يصبو إليه ليسكنه هذا العالم البديل طارحًا بعيدًا وبتمرد واضح كل تكلف محسوب وكل إملاء مسبق، ليظل متأرجحًا بحرية ذهابا وإيابًا بين حالات متناقضة استسلم لها طواعية فهي ثمرة تلك الحرية.
ورغم كل هذا فهو يشيد هذا العالم ببنية صارمة وبحسم لا يقبل الهنات. إنه يختار مكانه الخاص ويثبت اللحظة التي يريدها ويجدها جديرة بأن تتحول لديمومة، ينتخب من الواقع ما يراه جميلًا وجديرًا بالخلود ويبدأ في رحلة ممتعة وتجربة يعيد بها صنع الحياة كما يهفو لها، وكما تحلو له، فاللوحة هي مرتع حريته الخاص التي ربما لم يمتلكها في حياته كسليل لعائلة أرستقراطية ذات سياج ظاهري تقليدي صارم.
ومن خلال الحيز المختار من الفنان يتفوق على تفاصيل المكان ليخلق من التشتت والفوضى حالة من الواقعية السحرية التي تتأرجح بين الحقيقة والخيال، مكان متخيل يصوغ فيه مشهدًا يثبت فيه الزمن في لحظة منتقاة تحتفي ببهاء الجسد وروعة الحياة.
المشهد في الطبيعة بين الصخب والسكون
من المشهد في المدينة إلى المشهد في الطبيعة تتجلى أعمال محمود سعيد، حيث نجد للطبيعة حضورًا مهمًا في تجربته متمثلًا الطبيعة بجناحيها: الطبيعة المادية بعناصرها ومفرداتها والطبيعة اللامادية بانفتاحها وسعتها وروحها التي تحتوي كل جنوح خيالي، الطبيعة في أرض وسماء وبحر ونهر وحقل وضوء وهواء، والطبيعة كرمز بالغ الوضوح للقوة الداخلية للحياة.
وقد قدم سعيد مظاهر الطبيعة في مشاهده بشيء من التجريد الذي أدى إلى التعبير المكثف عنها، وهو تجريد أقرب إلى الاصطفاء والتلخيص والانتقاء حيث يستخلص من المشهد أهم علاماته، ومن خلال هذه العلامات يصنع نظامًا من الرموز والتوافقات تبث في الصورة موسيقاها الخاصة التي تتحرك ما بين السكون والدعة حيث تبدو الطبيعة رفيقة تحتضن الشخوص وتبارك نشاطهم على الأرض في بعض الأعمال مثل «الخريف» 1929م، «الصيادون في رشيد 1941م»، وبين الثورة والجنوح والغضب في أعمال أخرى مثل «الهجرة 1941م»، «زوبعة على الكورنيش»، من هنا قدم محمود سعيد الطبيعة الجامحة كما قدم الطبيعة الساكنة هادئة الوتيرة متكررة الإيقاع.
والطبيعة في أعمال محمود سعيد ليست هي الطبيعة التي نراها في حياتنا اليومية إذ نشهد فراغًا سحريًا في حالة خاصة من التوافق مع الجسد الذي يشغله، وتتغير حالات هذا الفراغ الساحر بحسب روح كل عمل وما قدمه الفنان من إشارات داخله لرصد حالة إنسانية خاصة بطلاتها نساء محمود سعيد الفقيرات المكافحات صاحبات الأحلام الصغيرة اللاتي يعتركن الحياة بطزاجة، صاحبات العاطفة الحادة البكر في تدفقها الذي لم يعرف التنميق والصقل والتشذيب. عاطفة كالطبيعة في قوتها، ما بين عنفوانها وصخبها وبين سكونها ودورانها الرتيب المتكرر في نظام صارم.
من هنا يصبح الدور الأهم للمشهد هو في أن يضم ويحتوي بطلاته الشعبيات ويربت على معاناتهن في حنو وتعاطف وقد كان هذا انعكاسًا لحالة التوافق بين الإنسان والطبيعة التي سادت أعماله وهو توافق نفتقده نحن الآن بصورة تحدث خللاَ فى حياتنا.
المرأة سيدة المشهد
شهد تاريخ الفن صور التعبير عن الوحدة الكلاسيكية بين المرأة والطبيعة بوصفها تحمل أبعاد استمرار الحياة وتجددها وتشترك مع الطبيعة في خصوبتها وارتباطها بجميع معانى الحيوية والحياة، باعتبار جسد المرأة تجسيدًا للروح الإنسانية، ومركزًا لميثولوجيا (الحب).
في إطار كل هذه الصور لتقديم المرأة في تاريخ الفن كيف كانت امرأة محمود سعيد؟ بلا شك أن المرأة في أعمال محمود سعيد كانت دائمًا هي سيدة المشهد. إن سيدات محمود سعيد وأميراته هن الفقيرات اللاتي رد لهن اعتبارهن بتألقهن في أعماله الخالدة. منسحقات في دوامة الحياة لكن ملكات متوجات فى مملكة محمود سعيد، تارة يستخدم المرأة كبطلة أسطورية وسط الطبيعة، وتارة كعلامة مصرية في مشاهده الشعبية الملحمية، ومرة يغلق عليها غرفة تستلقي لاهية كسولة لامبالية، مقيدة بجدران أربعة، ومرات أُخر يصورها بمودة حانية ساكنة مطمئنة تحمل جنينًا في أحشائها، في حالة انتظار صامت ترقب لحظة الميلاد.
ومن اللافت للنظر أن محمود سعيد يختار «موديلاته» وفق نموذج للجمال مستقر فى وعيه، وهو يبحث عن أقربهن إلى هذا النموذج فبينهن جميعًا شيء مشترك متشابه حتى في مقاييسهن الجسدية؛ إنه لا يقدم نموذجًا للجمال الإغريقى أو الأوربي، بل ينتمى لمقاييس إفريقية الملامح، ونسب أجسادهن تقترب من نسب المرأة في منحوتات تل العمارنة، وتذكرنا بفتيات كهوف أجانتا الهندية وهي تذكرنا أيضًا بتماثيل الحوريات في النحت الهندي.
هذه المرأة الساحرة القادمة من أرض الأساطير ومن قلب الخيال الإنساني القديم والصورة الثابتة للغريزة قد شغلت محمود سعيد ومثلت أيقونة عشقه الأولى التي أبدعت أجمل الأعمال وهو متطلعًا إليها. إن بنات محمود سعيد لسن رقيقات كبنات «بوتشيللي»، ولا مسترخيات كبنات «أنجر» ولا حالمات كبنات «رافاييل»، لكنهن قويات ذوات إرادة، متحديات وجريئات، أجسادهن يشدها عصب الحياة. إن فتاته ليست مذنبة كحواء «مازاتشيو» بل هي مزهوة بطبيعتها البشرية الأرضية. ولا هي متزينة تستعرض جمالها للاستحسان كحواء «تيتسيانو» ولا سطحية باردة كفتيات «تينتوريتو»، ولا هي من سبايا «روبنز».
إن امرأته لها قوة كقوة الطبيعة وضراوة كضراوتها، فهي ليست دمية جميلة ساذجة كبنات «بوشيه»، ولا لاهية بمتع الحياة وزخرفها كبنات «فراجونار» و«رنوار». إن نساءه لسن بائسات هزيلات كزرقاوات «بيكاسو»، بل هن نحاسيات لفحتهن شمس جنوبية أجسادهن كقوالب قدت من طين جنوبي محروق. هن ماكرات كبنات «جويا»، قويات البنية كبنات «ميكلانجلو»، ناضحات بالخصب كبنات كهوف «أجانتا» الهندية، متوحشات بدائيات كبنات «جوجان» التاهيتيات. مأساويات حزينات النظرة كبنات «موديلياني». هؤلاء هن «ربَّات حسن» محمود سعيد.
محمود سعيد والمشهد المفتوح
تتضح تعبيرية محمود سعيد في تعدد وسائله لطرح خصوصية المشهد حيث انتقل في تصويره للمشهد من عين الإنسان إلى عين الطائر، من ضيق الغرف المغلقة لبراح السماوات في مشهد أكثر شمولاً تنحى عنه الإنسان بأرضيته وماديته وأثقاله. ونجد أمثلة لما سبق في عمليه: «جبل جنجاليا» 1949م، «منظر بلبنان سهل البقاع»1953م، وهو ينقلنا في مشاهده من حالة الإنسان ذي الأحوال المتغيرة للأبدية إلى حالة الفضاء الذي يحتوي كل الظواهر وتتلاشى عنده المتغيرات العارضة. فيصبح الفراغ مهيبًا مما يشعر الإنسان بضآلته ويتحول الفضاء إلى كون جليل يدعونا للتأمل، فالأعالي دائمًا هي أصلح الأماكن للتأمل والتعبد، حيث يرى المشاهد المكان من مستوى نظر مغاير يشعرنا بحريتنا وانفلاتنا عن أسر مكاننا المحدود القريب من الأرض، إذ يحاول تَمثُل نقطة الاتصال بين السماء والأرض، والتواصل بين المقدس والدنيوي. ففي الجبل المضيء في مشاهده الأخيرة، مثل عمله «منظر جبل الشوير 1954م»، تتعلق أرواحنا بتلك البنية النحتية البلورية التي بدت وكأنها قطعة من السماء، فالجبل يبدو وكأنه يعكس سحبًا بظلالها غارقًا في أضواء قمرية أثيرة، لا نتبين الفارق بين السحب المضيئة وجنبات الجبل البلوري.
تتلخص ألوان البيوت وشكلها وحجومها، فتبدو وكأنها فقط أيقونات ترصع هذا المشهد ذا المساحة الخضراء وتتحرك فوقه كبقع يتزن بها التصميم في دقة وحكمة، بينما يتألق في منتصف الصورة بيت أبيض اللون يأخذ لمسات من ضوء قوي.
هنا نجد أن المشهد الواقعي لم يتسلط على محمود سعيد ولم يلقنه تفاصيله إنما احتواه الفنان ووضعه في نسقه البنائي المتفرد وألزمه بضوئه الخاص في معظم مشاهده ليقع تحت تأثير ضوء سحري ما بين اللحظات التي تسبق الشروق أو تتلو الغروب.
بشكل عام فإنه في المشاهد التي رسمها محمود سعيد وعلى اختلاف مصادرها ما بين ريفى وبحري وداخلي نجد نفس تلك التقنية المصقولة فائقة التأنق التي تغفل التفاصيل التي تفتت الصورة أو تقوض بناءها البصري، وتكون النتيجة الماثلة أمام أعيننا هي تلك البنية الحالمة التي تستقبل الضوء في تؤدة ضرورية لتأمل المشهد، البنية النقية التي لا مجال فيها لثرثرة شكلية زائدة قد يسببها الالتزام بجميع تفاصيل المشهد الواقعي، بنية تستقبلها العين في سلام وارتياح فلا يوجد ما تتعثر فيه أثناء رحلتها الوجدانية داخل العمل الفني.
ويحمل المشهد الطبيعى عند سعيد حسًّا كونيًّا شموليًّا، فقد اختاره ضربًا من المنظور المحلّق يطل من خلاله على العالم ليحقق به أسطورية خاصة للفراغ، فطبع مشاهده بطابع رحب تسكن فيه الروح. لقد آن لهذا الوجدان المتقد أن يهدأ ولتلك الروح القلقة أن تستريح، وليس هناك أرحب من ملكوت الطبيعة لتذوب فيه هذه الروح في خلاص نهائي شبيه بالنرفانا يحررها به من وطأة المعاناة الأرضية، ولقد ترافق توقيت ذلك التوجه مع اعتزاله للقضاء عند بلوغه سن الخمسين عام 1947م، ويعطينا ذلك مؤشرًا مهمًا، لقد انفض الصراع وانتفت أسباب التحدي وإلحاحات التمرد التي كان يطلقها في صوره: ملاذه الوحيد للحرية وممارسة الإرادة.
اتخذت الرحلة منحنى جديدا يواكب هدأة العمر ونضج السن، لم تعد اللوحة ساحة للتمرد والانفلات، بل أصبحت ساحة للتأمل والاستمتاع بعطايا الفن بعد أن استقرت التجربة واكتملت أركان نضجها. إنه يطرح متأنقًا كل خبراته. لاذ بالمشهد الطبيعي ليرتاح في نهايات العمر من وطأة الصراعات وعبء تصوير معاناة البشر وملاحقة المشاعر المضطرمة وإجهاد تصاعد الأنفاس المتلاحقة المبهورة. إنها استراحة المتعة الهادئة التي تحمل نضج الكهولة. إن فكرة الصراع التي قدم من خلالها محمود سعيد أروع إبداعاته قد خفتت لتجيء أعماله عامرة بالغنائية الكونية وليست بالمعاناة البشرية بكل تناقضاتها وحيرتها بعد أن انطلق إلى العالم الحر الطليق الذي حلم به. وفي النهاية وصل لتلك الحقيقة السامية المشعّة التي توارى فيها الجسد بوجوده المادي من المشهد ليتحول لروح محلقة ويتحول المشهد بدوره إلى ملكوت واسع رحيب.
كانت هذه محاولة لقراءة جانب من تجربة الفنان الكبير محمود سعيد، تؤكد أن العمل الفني الأصيل يظل يفيض بالدلالات ويحتفظ بقدرته الدائمة على التواصل معنا، والإضافة لقيمنا الجمالية المعاصرة. وإذا كان الفنان يعيش حياته البشرية المحدودة ثم يرحل، فإنه من خلال أعماله يعيش حيوات متصلة تتجدد كلما نظر متلق لأعماله محاولًا أن يستنطق عالم الفنان فيستحضر وجوده ويبعثه حياة جديدة ■