لطيفة الزيات وكيف تحجب السينما زوايا أخرى؟
اهتمام مقبول، وهدوء شديد، يحيط بمرور الذكرى المئوية لميلاد المترجمة، والروائية والناقدة الدكتورة لطيفة الزيات (8 أغسطس 1923 - 11 سبتمبر 1996). تعتز الراحلة بإسهامها في تدشين الاهتمام بتحرر المرأة، ولو كانت قضية مقاومة السلطة الأبوية هاجسًا أساسيًا لدى تيارات النسوية العربية، فقد كان من المتوقع أن تحتفي النسويات العرب بذكرى لطيفة الزيات، لكن يبدو أنهم يتعاملون مع جهدها المؤسس بوصفه مرحلة تم تجاوزها منذ زمن، أو ربما لأن حركتهم الحالية تسبحُ في الفضاء دون جذور حقيقية أو وعي ثابت، ونضج متطور.
تعددت مجالات حضور لطيفة الزيات، وتأثيرها المشهود؛ أستاذةً جامعية مرموقة، أو أديبةً تعددت مجالات كتابتها ومداراته، أو صحفيةً بارزة، ومترجمةً ذات مسار مدهش؛ حيث بدأت دراستها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، لتبرهن مسيرتُها على أن مترجمًا لن يبرع في فنه دون اعتماد على محبة جمة للغته الأم. جسدت حياتُها مرحلةً من الجهد النسائي حتى شكّلت حضورًا طاغيًا لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد، والأخيرة يندُر معها أن تخلو أسرة من معجبٌ أو أكثر ببعض أعمالها، وبخاصة «الباب المفتوح» حتى صار نموذجُ بطلها المهجور أيقونة للعاشق الحقيقي.
بدأت د. لطيفة الزيات رحلتها الطويلة بمشهد خالدٍ ومؤثر من دمياط؛ حيث احتفظ ذهنُها برؤية الدم المصري يسيل على يد الاحتلال الإنجليزي، فتفتّح وعيُها مبكرًا على قضية التحرر الوطني، وظل هاجس الوطن وحريته، مركز الثقل في مسيرة كثير من محطات حياتها المختلفة، سواء على مستوى إبداعها السردي والمسرحي مرورًا بدراستها وصولاً إلى النشاط العام الذي شغل كثيرًا من مسيرة حياتها؛ فقد فازت بعضوية اتحاد الكتاب وعضوية لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة ونالت درجة الأستاذية عام 1972، فضلاً عن رئاسة قسم اللغة الإنجليزية وعملها مديرًا لثقافة الطفل، وكذا رئاسة قسم النقد الفني بمعهد الفنون المسرحية في أكاديمية الفنون، كما ظلت حريصة خلال دراستها على متابعة النشاط الطلابي بتياره السائد آنذاك، فكانت ترى الدور المجتمعي موازيًا لدورها العلمي والأكاديمي فرعًا عن تجربتها المهمة، حين كان قبول عمل الفتاة بالمجال العام شيئًا عزيزًا في تلك الفترة المبكرة، وكان من نتائجه الكارثية تعرُّضُها للسجن مرتين. وبسهولة شديدة تلمح أثر تجربتي الاعتقال على تكوينها، وفي سيرتها تلح على أن اعتقالها قد حرّرها من سجن الذات لتخرج من الخاص إلى العام، ومن شرنقة الذات إلى آفاق العالم المحيط، حتى حصلت على الليسانس في أشد فترات جامعة القاهرة ليبرالية وحراكًا.
علاقتها بالسينما
من زاوية ما، فقد ترى جناية السينما على لطيفة الزيات حين ربطت بشكل آلي بينها وبين تحول روايتها «الباب المفتوح» إلى فيلم بالعنوان ذاته، على الرغم من تعدد أنواع إبداعها، حيث بدأت بنشر القصة في مجلة «الهلال» حتى قدمت روايتها الأولى «الباب المفتوح»، مقدمة تشريحًا للمجتمع في حراكه ضد الاستعمار، ووازت بين حكاية بطلة الرواية وكفاحها الذاتي وبين تاريخ مصر في تلك الفترة، وكيف أن تحرر المرأة يوازي تحرر الوطن، وتعتمد على رؤيتها لصراع مصر النضالي والقومي ضد المستعمر. ثمة علاقة جدلية بين الذات والوطن، ونوع من التماهي بينهما، فيتوازى تاريخ البطلة مع تاريخ ثورة يوليو ومسارات تطور الطبقة الوسطى أخلاقيًا وفكريًا، وأن غياب النقد الداخلي للطبقة الوسطى مؤذن بتدهور قيمها، حد فنائها في طبقات أدنى.
ولدى الكثيرين، فإن رواية «الباب المفتوح» 1960 علامة على مرحلة جديدة، ووجد فيها البعضُ شيئًا من سيرة الوطن بشكل عام، في واحدة من أكثر فتراته ارتباكًا وصخبًا وحراكًا، وطبقًا لرأي فريدة النقاش فإنها كانت تعبيرًا عن موجة جديدة في الرواية العربية، تجمع بين الواقعية الشعرية والأدب الملتزم، وعلى الرغم من ترجمة «صاحب البيت» شأن «الباب المفتوح» فقد ظلت الأخيرة ذات حضور وبهاء شديدين، ربما بسبب تحولها إلى فيلم. لقد كان الإبداع لديها رسالة وعملاً، وعلى كل حال، فقد كانت تؤمن بأن حظ الموهبة قليل قياسًا إلى أهمية الصنعة في الأدب ومداومة القراءة واتساعها.
وبعد فترة طويلة من «الباب المفتوح» 1960 أصدرت مجموعة قصصية بعنوان الشيخوخة 1986 ثم حملة تفتيش - أوراق شخصية عام 1992، وتلتها مسرحية بيع وشراء عام 1994، ثم صاحبة البيت روايتها الثانية عام 1994، وأخيرًا الرجل الذي عرف تهمته روايتها الثالثة والأخيرة عام 1995. لقد رجعت لاهتمامها بالإبداع فرعًا عن تراجع اهتمامها بالحراك العام أو تغير وجهتها في ذلك؛ إذ تتغير البطلة في «الشيخوخة» 1986 عن النسق السابق، فلم تعد المناضلة القديمة تشعر بالجدوى، وربما انغلقت على ذاتها بعد نضج مؤلم، وتجارب شخصية جعلتها تعول على الإبداع وسيلة هروب أو تعويض عن مرارات الحياة.
ظلت تدين بالكثير لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ (ولها كتاب عنه)؛ مظهرًا لتأكيد عدم الذوبان في الثقافة الغربية وأعلامه ممن امتهنت تدريسهم في قسم اللغة الإنجليزية، كما تدين للواقعية في الأدب اتساقًا مع توجهها الأيديولوجي الأساسي وشنت كثيرًا من الهجوم على انقطاع النقد الأكاديمي عن المتلقي العادي، وفشل الأكاديميين في إقامة جسر من المحبة مع العمل الأدبي، وتلمح في ثنايا رواياتها نوعًا من الانتقال من المبدعة كاتبة إلى المبدعة مكتوبة، وربما ألحت على جانب نقد الأنثى، رغبة في تطويرها بشكل لا محدود، وألحت عليها الرغبة في التحرر، فلا سقف للحرية لديها وربما لهذا السبب أفاضت في نقد التجارب النسائية، والتعويل على الفكر الماركسي في ثنايا رواياتها من جهة أخرى.
منهج خاص
ساعدها ثراء قراءتها للتراث العالمي على تقديم منهج خاص في النقد، أو توجه مميز في الأدب، فضلاً عن إلمامها بالأدب العربي. لم تستسلم لنزعة التجريب في النقد، ومؤمنة أن دوره الشارح لا يقل عن دوره التنويري. النقد لديها وسيط بين المبدع والمتلقي فهو وسيلة لفهم النص، وأعلت البعد القومي والوطني في تكوين الخلفية النقدية، فجاء ذلك التوجّه أثرًا طبيعيًا لنسقها الأيديولوجي.
ظل شائعًا عنها لفترة طويلة أنها حصلت على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي (1957) عن رسالتها «حركة الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية في مصر»، والتي حققها وقدم لها دكتور خيري دومة مؤخرًا، وصدرت عن المركز القومي للترجمة في مصر، ليكشف أن رسالتها للدكتوراه لم تكن باللغة الإنجليزية بل كانت باللغة العربية، كما أنها لم تكن من قسم اللغة الإنجليزية الذي تخرجت فيه عام 1946، وإنما من قسم التحرير والترجمة والصحافة بآداب القاهرة 1957، فهل لهذه الأمور علاقة بهجومها الدائم على أقسام اللغات، واتهامها لتلك الأقسام بأنها تعيش في عزلة عن الأدب القومي؟ وليتجسد أمامنا تساؤل - لا يجاهر به الكثيرون - حول العلاقة الكامنة بين تيارات النسوية وأقسام اللغات الأجنبية؟
لم تهنأ لطيفة الزيات كثيرًا بحصولها على على أرفع جائزة أدبية مصرية (وسام الاستحقاق) فرحلت بعد صراع شجاع مع مرض السرطان، تاركة واحدة من أعمق الروايات - لدى الكثيرين - تأثيرًا، ونصًا من أكثر السير الذاتية شجنًا، وطرائف مغرية بالنميمة حول أكثر قصص زواج الأكاديميين تعقيدًا وغرابة ■