العلاج باللعب بالرمل

العلاج باللعب بالرمل

بدأ العلاج باللعب بالرمل كطريقة لمساعدة الأطفال، الذين يعانون من متاعب نفسية وذهنية، على التعامل مع مشاعرهم السلبية بدلًا من توجيهها للآخرين، ثم امتد لعلاج حالات متنوعة من الصغار والكبار. ومن مقدمات هذا العلاج الأساسية ميل النفس لمعالجة نفسها بنفسها وبصورة طبيعية، إذا توفرت لها الظروف الملائمة. ومثلما للجسم طرقه في التشافي، للنفس حكمتها الفطرية القادرة على تعجيل اندمال الجروح وتجاوز الصدمات، وتحقيق التوازن والشعور بالرضا عن الحياة.

 

 يسمح هذا النوع من العلاج بظهور اللاوعي وتدفقه قصدًا بصورة غير لفظية، من خلال إبداع لوحات ثلاثية الأبعاد للعالم الباطني المتخيل، باستخدام مجسمات صغيرة لمجموعة واسعة من الأشياء التي تمثل عوالم حقيقية وخيالية، يختارها الشخص ويضعها داخل صينية رمل - بأبعاد 7.5*49.5*72.25 سنتيمتر - مطلي قاعها وجوانبها باللون الأزرق الفاتح - للتعبير عن وجود بحر أو نهر أو بحيرة في المساحة التي يزاح عنها الرمل - ومن الملامح المهمة للعلاج أن يوفر المعالج بيئة حرة وآمنة للتعبير، دون تعليق ولا تواصل لفظي كبير، ليتم العمل بصورة حدسية بلا تفكير، وذلك لإخراج ما في اللاوعي، بحيث يستنير الشخص ويعرف المزيد عن نفسه. وقد يمتد العلاج لعدة جلسات ينتج عنها لوحات تمثل مدى نمو الحالة وتقدمها. على أن يؤجل النقاش والتفسيرات والتعليقات إلى وقت لاحق. ويمكن أن يتم هذا العلاج بمصاحبة طريقة علاج أخرى كتلك المعتمدة على التعبير اللفظي. 

تواصل الوعي اللاوعي
وفقا لنظرية الشخصية لعالم النفس السويسري، كارل يونغ، توجد الذات في اللاوعي- موضع الحكمة - بينما توجد الأنا في الجزء الواعي من النفس، ولكل منهما لغة، فلغة اللاوعي صور ورموز وحكايات خرافية، ولغة الوعي كلمات وتفكير منطقي. والرابط بين الذات والأنا مفهوم من الأهمية بمكان، لأن التواصل بينهما، وتوثيق العلاقة بينهما، يعني اقتراب الإنسان من حالة التحقق والشعور بالتوازن والحيوية. ولهذا يرى يونغ أن من أهداف الحياة تحقيق اندماج الذات بالأنا لتصبحا كلًا واحدًا، وتتمكن الأنا من خدمة الجوهر- الذات - والتماشي معها؛ كالطفلة التي تدرك أنها جميلة ومحبوبة، فتطور شعورًا إيجابيًا نحو ذاتها. كما يرقق الخيال النشط الوعي، ويسمح بتدفق المحتوى الرمزي من اللاوعي، ويدرك الوعي ما يحدث، ويتفاعل مع الصور. وعلى هذا، يتقدم الخيال على التفكير من حيث الأهمية. ويؤكد عديد من المتخصصين في علم النفس العميق أهمية التواصل بين عالمي الوعي واللاوعي، أو ما أسموه بذلك الشيء الضروري، الذي يربطنا بالسماء وببعضنا ويطلعنا على جمال الطبيعة والعالم الثقافي؛ والذي لا نعرفه إلا حين نخبره. 
وهكذا، يمكن للعب بالرمل أن يكون وسيلة فعالة لبناء جسر بين الذات والأنا - الباطن والظاهر- بتعبير الشخص عن نفسه بلغة اللاوعي الرمزية، وعيش خبرة إنسانية تتكون أثناء اللعب العلاجي. فيجد المرء، في حالة الصدمة أو المرور بخبرات قاسية كمواجهة الموت أو الفقد، ملجأ له في عالم آخر، ووسيلة للتعبير عمّا في أعماقه، بعيدًا عن الوقوع في شرك الواقع المعتاد والتفكير المنطقي المحدود؛ حتى يتجاوز حدود الوضع المتعب، ويبدأ عملية الشفاء والنمو.

المسرح الرملي
على المسرح الرملي المحدد بصينية تحتوي مساحتها الطاقات المتدفقة بشكل آمن، يمكن أن تقف المجسمات الرمزية، فتتاح فرصة ظهور الذات غير الواعية لتتعرف عليها الأنا الواعية. وإذا تم اعتبار اللعب بالرمل عملية، فإن كل جزء منها مساهم في تحقيق شفاء النفس وإحداث التحول المنشود.
يساهم اللعب بالرمل بتحويل التركيز نحو الباطن. ففي وضع الشخص يديه في الرمل وتحريكهما من مكان لآخر، خبرة حركية تنقل التركيز بعيدًا عن عالم العقل الواعي، أو عالم الحياة اليومية، نحو عالم باطني أعمق. وتنشط الطاقات الشافية، مع بداية مسح الأشياء والمجسمات ورؤيتها، والانجذاب إلى بعضها، ثم الاختيار من بينها وفقًا لمعانٍ رمزية غير واعية، ويبدأ مجال طاقة باطنية بين نفس الشخص والأشياء، ويصبح تنشيط جوانب الشفاء للاوعي أمر ممكن. 
يفسح اللعب بالرمل مجالًا لتعبير اللاوعي، حيث تمنح المواد - الرمل والمجسمات، والصينية - فرصة لمكونات النفسية غير واعية ومحبوسة لتنطلق وتظهر بصورة لاواعية ورمزية ومعبر عنها بمشاهد ضمن لوحة الرمل. ويتحفز الإبداع، حين يتمتع الشخص أثناء مشاركته في عملية اللعب بالرمل التعبيرية بفرصة الإحساس بظهور قواه الإبداعية الشافية، ويصبح على وعي بشيء أكبر من ذاته. وفي بعض الأحيان، تصاحب خبرة خلق لوحة من الرمل، لحظات استثنائية كلحظات الاستنارة والاستبصارات العميقة، ولحظات اليقظة الروحية الثمينة، واللحظات المؤثرة. وعادة ما يدفع حضور المعالج اللاوعي للحركة بحرية إلى مستويات أعمق مع انكشاف خبرة اللعب. كما تساهم خطوة المراجعة والتأمل بعد انتهاء جلسات اللعب من جانب الشخص البالغ والمعالج بمزيد من تعزيز التواصل بين اللاوعي والوعي أو الذات والأنا، وتعجيل الشفاء.

صندوق العجائب 
عادة ما يرجع فضل اكتشاف طريقة العلاج باللعب بالرمل لـ مارجريت لووينفلد، طبيبة الأطفال التي مرت بصدمة في طفولتها في لندن مع بداية القرن العشرين؛ حين تدهورت حال أسرتها الاقتصادية فعاشت طفولة غير سعيدة. وعلى أثر ذلك، قررت البحث عن وسيلة لتعمل مع الأطفال في معاناتهم لتحاول فهم كيف يفكرون. واستلهمت فكرة لعب الأطفال في الحضانة بالمكعبات الخشبية والدمى ومجسمات الأغراض المنزلية ومحتويات الحديقة لبناء عوالم خيالية. فتبنت هذا للعمل مع الأطفال في عيادتها. فكانت تجمع الدمى والمجسمات الصغيرة في صندوق كبير أطلقت عليه صندوق العجائب. ولاحظت أن الأطفال يتناولون الأشياء ويضعونها في صندوق به رمل، ليخلقوا عوالمهم الخاصة، فقامت بإعداد صينية رمل صغيرة ليجد الأطفال في هذه مساحة فرصة لبناء ما يشاءون. وهكذا ولد علاج اللعب بالرمال، وكانت رائدة في علاج الأطفال النفسي، حيث فهمت الأطفال، بعد أن تبينت أنه من غير المفيد علاجهم بالكلام. فكانت تجلس مع كل طفل باحترام وتطلب منه ابتداع لوحة حرة لعالمه في صينية الرمل. ثم ترسم مخطط لما يقوموا به لتتحدث معه عن لوحته فيما بعد، وتعرف كيف يفكر.

دورا ومارتن كالف 
أما مؤسسة ما يعرف اليوم بعلاج اللعب بالرمل فهي السويسرية دورا كالف، التي تلقت تعليمًا راقيًا في الإنسانيات، ودرست الفلسفة، والبيانو، واللغات اليونانية والصينية والألمانية والإيطالية، والإنجليزية والفرنسية. وانتقلت بعد زواجها إلى هولندا لتعود مرة أخرى إلى سويسرا مع ولديها بعد الاجتياح النازي، واحتلال منزلها. ثم تعرفت على أفراد من عائلة عالم النفس كارل يونغ. وفي الخمسينيات من القرن العشرين دخلت عالم مارجريت لووينفلد في مؤتمر عقد بزيورخ. ودرست بعد ذلك علم النفس في لندن، وتأثرت بمعلمين روحيين شرقيين وسعت لتحقيق مبدأ الكلية. وفهمت ما يقصده يونغ بالعقل الواعي أو الأنا، وما يعني بالنسبة للذات، أو حقيقة الشخصية. ونتيجة لدراستها للتحليل النفسي، ولإسهاماتها العلمية، تم قبول عضويتها بمعهد يونغ بزيورخ. وفي منتصف الستينيات الماضية ألّفت كتابًا حول اللعب بالرمل باللغة الإنجليزية، ساهم في انتشار هذه الطريقة من العلاج وتطورها حتى بعد وفاتها.
ولعقود، راحت دورا كالف، وابنها الدكتور مارتن كالف، يدرسان موضوع العلاج باللعب بالرمل ويعدان الكتب ويؤلفان المقالات لمجلة العلاج باللعب بالرمل، ويطوفان العالم لتدريسه - في أستراليا وألمانيا والصين والبرازيل وكندا وهولندا وهونغ كونغ وإيطاليا واليابان وكوريا وبولندا وجنوب أفريقيا وإسبانيا وسويسرا والولايات المتحدة وتايوان وغيرها - ونجحا في مشاركة خبراتهما في أساليب علاجية لا تكون اللغة مهمة فيها للفهم والتعبير عن الذات، لطبيعته الرمزية وغير اللفظية، حيث يعلن اللاوعي عن نفسه، بصورة عابرة للثقافات ليتاح التواصل مع جوانب الوعي واللاوعي، لسرعة الشفاء نتيجة لتفاعل العقل والجسد في عملية التشافي، كما يحفز الخيال والإبداع، ويتشجع الفرد على العمل بأسلوبه الإبداعي الذي يمكنه من الشفاء.
يقول د. كالف الابن في كتاب له، إنه بعد سنوات مديدة بات الصمت أمرًا مقدرًا بين المعالج والمريض، كاستمرار العلاقات في أوقات مثيرة للتحدي، فالصوت الباطني صوت حياة أغنى، وصوت وعي أوسع وأشمل. 
ومما ساهم في نشر هذه الطريقة العلاجية تأسيس دورا كالف لجمعية دولية للعلاج باللعب بالرمل في بداية الثمانينيات، تبع ذلك تأسيس جمعيات أخرى في الصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، واليابان، وسويسرا، وأمريكا. ولإجازة العلاج على هذا النحو، على المرشحين مقابلة سلسلة من المتطلبات التعليمية بنجاح، وكتابة أوراق بحثية، والمشاركة في الممارسة بإشراف متخصص، حتى الحصول على ترخيص الممارسة والتدريس ■