بصيرة حاضرة طه حسين من ست زوايا

بصيرة حاضرة طه حسين من ست زوايا

رغم رحيله عن دنيانا منذ نصف قرن تقريبًا لا يزال طه حسين يقدم لنا نموذجًا للمثقف المتكامل، فلم ينته أثر طه حسين في حياة العرب، ولا يبدو أنه سينتهي، فالرجل ضرب سهمه في كل اتجاه، وأنتج من الأفكار والآراء والأساليب والطرائق والأذواق بل والتصورات والإجراءات حول التحديات التي واجهت المجتمع في زمنه، وعن القضايا والمشاغل التي أخذت بعقول الناس ونفوسهم، ما يصلح أن نعود إليه دون انقطاع، نظرًا لاستمرار المشكلات قائمة، وبقاء التساؤلات عالقة.

 

بحسب المؤلف فإن البحث في منجز طه حسين، الذي كان مؤسسة كاملة تمشي على قدمين، ليس بحثًا في الماضي، إنما هو جزء من الوقوف على الكثير من معاني الآني، بل والآتي، نظرًا لأن نص الرجل وأسلوبه وتصوره وتصرفه، لا يزال قادرًا على إفادتنا في مواجهة بعض ما يعترض طريقنا إلى التقدم، وشحذ أذهاننا بالذي يعزز قدرتها على الفهم والإدراك، في العلم والأدب وتصاريف الحياة.
ولا يجب أن يظل الاهتمام بالرجل مقتصرًا على عرض أفكاره، أو نقد قصصه ورواياته وأشعاره التي تخلى هو عنها، أو تناول تجربته الحركية في السياسة والإدارة، أو استلهام سيرته الذاتية التي لا تزال مختلفة عمّا سبقها ولحق بها، أو الوقوف عند طريقته في التدريس وتربية عقول التلاميذ، بل ينطلق من كل هذا إلى قياس أثر الرجل في حياتنا المعاصرة، وهو أمر يمكن النهوض به وفق عدة إجراءات، هي: معرفة حجم وقيمة ما كتب ويُكتب عن طه حسين حاليًا من شهادات وذكريات ومقالات ودراسات وكتب وأطروحات جامعية، وما يقام عنه من ندوات ومؤتمرات، مدى قدرة ما تركه طه حسين على الاستجابة للتحديات الراهنة، أو الإجابة على أسئلة زماننا، واستمراره في أداء هذا الدور في المستقبل المنظور، ما تحمله خصائص أسلوبه من قدرة على إفادة الجيل الحالي من الكتاب والباحثين، حيث إلهاب الخيال، وإحكام الصياغة، والتعبير عن المعنى بشكل جليَّ، لا غموض فيه، ولا اعوجاج، حتى لو جاء متدثرًا بأردية ناصعة من البلاغة، ما يمكن أن تمدنا به آراء طه حسين وتجربته العملية ومواقفه من رؤى وطرائق تساعدنا على النهوض بالتعليم والثقافة في واقعنا المعيش، ما وقع فيه طه حسين من أخطاء أو مزالق، ويجب علينا أن نتجنبها، بقدر ما نتجنب ارتكاب مبالغة إيجابية أو سلبية، في التعامل معه هو شخصيًا، موزعة بين «تدنيس» و«تقديس»، كعادتنا في النظر إلى الماضي، وهي مسألة رفضها طه نفسه، وكان منهجه قائمًا بالأساس على مساءلتها ونقدها، ثم أعادتها في ثوب عقلاني واضح.
ومن الطبيعي أن تكون النقطة الأولى متضمنة فيما يليها، إذ إن تناول النقاط الثلاث التالية، لا يمكن أن يستقيم على وجه سليم إلا بالعودة إلى ما يُكتب عن طه حسين، وهو كثير وغزير، وإن تفاوتت قيمته، واختلفت اتجاهاته، وتباينت أنواعه بين المقال السيَّار، والدراسة الأكاديمية الضافية، والكتاب الذي يؤلفه كاتب أو باحث، انجذب إلى طه حسين، وانكب على سيرته ومنتجه، في عرض وشرح وتفسير، أو مدح وتقريظ وإعلاء، أو نقد ولوم وإبخاس.
ويطرح المؤلف سؤالاً فى غاية الأهمية، هو: هل أثر العميد لا يزال قابلاً للتداول والتفاعل؟ أم أنه صار جزءًا من «تاريخ المعرفة»، لأن القضايا التي عالجها تقادمت، والمسائل التي تصدى لها بعدت عنا، والشكل الذي أخذته نصوصه الأدبية، وكذلك الأسلوب، قد تجاوزه الكتاب العرب فيما استحدثوه من أشكال وصيغ وأساليب وطرائق فنية؟
هنا تتعدد القراءات حول «بيان النهضة» الذي مثله طه حسين، فهناك من يرى أن بيانه قد أدى دورًا مؤثرًا، ثم صار تاريخًا، ومنهم من يرى العكس، فيجده بيانًا باقيًا، و«صوتًا من أصوات حاضر النهضة، وطرفًا من أطراف تناقضات هذا الحاضر وصراعاته، وسيبقى الخلاف على الرجل وأثره ما بقي الخلاف على وجهة النهوض العربي الحديث وآفاقه»، التي لا تبدو ماثلة حتى هذه اللحظة.

حاضر ومستمر
ووفق هذا التصور جاء كتاب (بصيرة حاضرة، طه حسين من زوايا ست) للدكتور عمار علي حسن، ليتعامل خلاله مع فكر طه حسين وأدبه على أنه شيء حاضر ومستمر، وهذه مسألة تبدو مستقرة وظاهرة لا مجاملة فيها ولا تجوز، فهو نفسه كان يرى أن القديم يجب أن يظل متداولا ما دام نفعه قائمًا. لذا فإن ما ترك الرجل من تاريخ المعرفة أو العلم، لم ينقض بعد، ولا يبدو أنه سيكون كذلك، إن لم يكن لمنهجه المتماسك، فلنصه المختلف.
وهذا التعامل أراد الكاتب أن يكون مغايرًا عن أغلب ما جرى معه، إذ إن «الذين كتبوا عن طه حسين، معجبين في الأعم أو رافضين سفهين في الأقل، كانوا يهيلون عليه الثناء أو الذم، ويغرقونه في لجة من آيات المديح أو الهجاء مفرطين غالين، وما هكذا تكون الدراسة العلمية»، وهذا الجنوح إلى التقديس أو إلى التدنيس، لا يصلح للاقتراب من مفكر أو عالم أو أديب، وكان طه حسين نفسه لا يفعل هذا في اقترابه من الشخصيات التاريخية الكبرى، وينفر من أولئك الذي يتناقضون في النظر إلى أي منها على أنه إما معجزة أو أكذوبة، بطل أو خائر، صادق أو كاذب، أمين أو خائن، وكذلك كل وصف مسبوق بأفعل التفضيل، لكن هذا الاقتراب إن كان يريد توخي الإنصاف، أو عدم التحيز، له أو عليه، فهو لا يجب، في الوقت نفسه، أن يسقط في فخ المداخل ومسارات التناول السابقة، التي صارت مستهلكة.
سعى الكاتب الى إرساء منهج أو اقتراب أو منظور يصلح لدراسة طه حسين بشموله وتمامه، ويمكن أن يكون صالحًا لدراسة غيره، لاسيما من كبار المفكرين، وقد أتبعه طه حسين نفسه منهجًا في دراسة غيره، كما فعل مع المتنبي وابن خلدون وأبي العلاء المعري وشوقي وحافظ، إذ إن لكل منهم ست زوايا هي: المنهج والنص والذات والصورة والموقف والأفق. وبوسع هذا المنظور أن يمتد أيضًا إلى دراسة الأدباء البارزين، مع استبدال بسيط، يتمثل في إحلال المعمار أو البنية بديلا للمنهج، إذ إن الأخير لا غنى عنه لأي مفكر أو فيلسوف، بل هو الذي يميزه عن غيره، ويبرهن عما إذا كان قد قدم رؤية متسقة ومتناغمة أم العكس هو الصحيح.
وبناء على هذا نظر إلى مشروعه على أنه:
المنهج: فطه حسين اتبع اقترابًا ومنهجًا يقوم على «الصرامة العلمية»، وتقليب كل ظاهرة أو حدث على شتى وجوهه، وبناء استراتيجيات ناجعة في الحجاج، ورفع الالتباس عن قضايا شائكة، وعرض مختلف الآراء حوله، وإعلاء قيمة الشك في سبيل الوصول إلى الحقيقة، معتمدًا هنا على «التلاقح» و«التراكم» حيث طور مقاربات الجاحظ وأبي العلاء المعري وابن خلدون باستعارة شكلية عابرة من الفيلسوف الفرنسي ديكارت التي تضمنها كتابه المهم «مقال في المنهج» واستعارة راسخة من دارسي الأدب العربي سواء من علماء ونقاد قدامى أو ما قام به المستشرقون أو ما سمعه في قاعات الدرس في السوربون.
كما اعتمد طه حسين طريقة حوارية، نحن في أشد الحاجة إليها، وهي واضحة في طريقته في التدريس التي قامت على التفاعل والمشاركة والحوار، وظهرت معالمها في تعميق وتعزيز أفكاره هو عبر الاستفادة من الانتقادات التي وجهت إليه، مثلما جرى مع كتابه عن «أبي العلاء المعري».
إن منهج طه حسين قام على عدة خصائص هي الحوارية والتعدد، والشك والتثبت، والإفاضة والإحاطة، وتعدد زوايا الرؤية والاهتمام، والتمييز في الدرس بين العلم والدين. هذه السمات هي التي جعلت لمنهجه أثرا يختلف عليه الناس، لكن لا يمكن لمنصف أن ينكر ما جاد به من إيجابيات على التفكير والتدريس والبحث في العالم العربي.
النص: وهنا درس أسلوب طه حسين ولغته الشفاهية التي اعتمدت على آليات التخيل والاسترجاع والتكرار وحضور الموسيقى، وما قام به من تجديد اللغة العربية حجاجيًا، وتطويرها بلاغيًا، بعد أن كانت الكتابة الأدبية قبله تعتمد على السجع، والكلمات ذات الجرس الصاخب، التي تلفت الانتباه لذاتها، ولا تصل إلى المعنى من أقرب طريق.
إن نص طه كان شفاهيًا، لأنه ابن الإملاء، وهو نص بكر إذ كان لا يراجعه، ونص مميز يدل على صاحبه بلا عناء ولا عنت، وإيقاعي تحضر فيه الموسيقى، وهو نص تكراري متنوع حافل بالتناص، ويسعى إلى أداء وظيفة، أو ينهض بالمهمة أو الرسالة التي كان يحملها طه حسين على عاتقه.

وجوه متعددة
الذات: فرغم رحيله عن دنيانا منذ نصف قرن تقريبًا لا يزال طه حسين يقدم لنا نموذجا للمثقف المتكامل، فهو باحث وأديب وناقد ومؤرخ وعالم اجتماع ومترجم وصحفي وسياسي، ارتقى مع توالي إنتاجه ورسوخه، ليصبح مفكرًا، بل هناك من يراه فيلسوفًا. في الوقت نفسه فهو صاحب الوجوه المتعددة، إذ أنه الأزهري والمدني، والريفي والمديني، وابن الحضارة الشرقية المتحاور بوعي واستقلال مع الحضارة الغربية، يبحث عن الحكمة أنّي وجدها فهو أولى بها. وهذه الثنائيات لا تزال محل أخذ ورد في الثقافة العربية المعاصرة، يضاف إليها بالطبع تلك المقابلة بين البادية والحضر، والتي مثلت عصب المشروع الفكري للعراقي علي الوردي، على سبيل المثال لا الحصر.
وليس من قبيل المبالغة أن يقال إن طه حسين كان بمنزلة «بيان النهضة» لمصر الحديثة، كما تقدم، رغم أن هناك من سبقوه على هذا الدرب، مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده، فكل من هؤلاء قد أمسك بطرف، الأول في تبصيرنا بما آلت إليه الحضارة الغربية، بعد طول انقطاع عنها. والثاني في تأسيس تعليم حديث في كنف والي مصر صاحب المشروع البارز محمد علي باشا. والثالث في الإصلاح الديني، الذي سبقه إليه بخطوات لا يمكن إنكارها الشيخ حسن العطار.
الصورة: فطه حسين يظل، بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على وفاته، صاحب مكانة رفيعة وهيبة لا يبليها الزمن، بل يبدو أسطورة ذاتية، في نظر محبين ومنصفين له، رغم الانتقادات التي وجهت إليه، سواء من شباب تسرعوا في تقييم مشروعه، أو قرأوه مبتسرًا، أو من خصوم سياسيين، لاسيما من بين صفوف أتباع التنظيمات والجماعات التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، فهؤلاء لا يزالون يرون في كتاباته خطرًا على أفكارهم، فيطلقون الشائعات حول شخصه، ويشككون في انتمائه للحضارة العربية ـ الإسلامية، وينسبون إليه ما لم يقله، ويعرضون آراءه منقوصة ومنبتة الصلة بسياقها.
ولطه حسين عدة صور، هي: قاهر الظلام، والتلميذ النجيب، والأستاذ البارع، وصاحب المكانة الرفيعة، والمجدد، والمتحايل، والذي صار أسطورة، والمواطن العالمي. في الوقت ذاته هناك محاولات متعددة لخدش هذه الصورة، عبر رميه باتهامات كثيرة، ومحاولات أخرى لتقييمها، كي توضع في المكان الطبيعي المستحق، دون تهوين ولا تهويل. فنحن، في حاجة إلى دراسة موضوعية منصفة، لفكر الرجل وأدبه،  وأظن أن هذا لا يغضبه، وهو من دعا إلى التحقق والإنصاف على قدر الاستطاعة.
الموقف: جمع طه حسين بين التفكير والتعبير والتنظير والتدبير، فصار مفكرًا عملياً ومثقفًا منتميًا، إثر خوضه تجربة حزبية، وأخرى تنفيذية حين تولى وزارة المعارف، وثالثة إدارية حين صار عميدًا لكلية الآداب، جامعة القاهرة، وحين أنشأ وأدار جامعة الإسكندرية، وكانت له تجربة مهمة في المعهد العالي للدراسات العربية، لجامعة الدول العربية.
وجمع طه حسين كذلك بين موقفين في طرح أفكاره، الأول كان سافرًا متسمًا بالعناد، ورأيناه في معاركه ضد المنفلوطي حول اللغة، ومحمد حسين هيكل حول الفكر، وجورجي زيدان حول التاريخ. أما الثاني فكان متحايلاً، حين غيَّر بعض الآراء التي وردت في كتابه «في الشعر الجاهلي» وأعاد طباعته تحت عنوان «في الأدب الجاهلي»، وحاول إخفاء يساريته الفكرية، وليست العملية، في كتابه «المعذبون في الأرض» كي يمر الكتاب تحت أعين المتربصين بالأفكار الاشتراكية وقتها، وفعل الأمر نفسه في كتابه «الشيخان» حين أوحى إلى أن ما يرد فيه إن لم يكن معبرًا عن الحقيقة التاريخية، فلا ضير في هذا، نتيجة المكاسب التي تترتب على رفع صورة الشيخين، أبي بكر وعمر، في أعين الناس، وإعلاء مناقبهما، ثم اتخذ موقفًا لينًا حيال خصوم من أدباء شبان حاولوا، التقليل من عطائه الأدبي، وحيال أنصار لم يساندوه كما ينبغي، في حياته، أو حتى بعد مماته، حين زادوا في الحديث عن شخصه، وأنقصوا في تناول أعماله المهمة، على مستوى الشكل والمضمون.
ومن تدابير طه حسين وأفعاله التي تحمل درسا باقيا للأجيال الحالية والآتية هي القواعد التي أقرها بين الأستاذ وتلاميذه، في العناية بهم، والحدب عليهم، وصقل مواهبهم. وهناك أيضًا جهده في التواصل الحضاري، إذ كان أحد الجسور المتينة بين الشرق والغرب، وأعطى مثلاً حواريًا ناصعًا بين أبناء ثقافتين بينهما جذور مشتركة، أو عطاءات متبادلة، لكن هناك دومًا من يزكي الصراع بينهما.
الأفق: وتحدث المؤلف فيه عما تحقق من مشروع طه حسين، وما لا يزال ينتظر، ومصيره هو، نصًا ومنهجًا وموقفًا، وهو الرجل الذي كان يخشى «موت الكاتب» بعد رحيله عن الدنيا، أي ضياع منجزه بعد تحلل جسده، ليصير مجرد ذكرى، تستعاد بين حين وآخر، أو لا يلتفت إليها أحد.

تفاعل خلاق
توزعت الدراسة، على ستة فصول، وانتهت بخاتمة، صاغها الكاتب في شكل حواري، وضع فيه مشروع طه حسين في تفاعل خلاق مع رؤى أخرى، لم يلتفت إليها بالشكل الكافي، أو لم يتعامل معها بالقدر الذي يجب أن تحتله من أي مشروع نهضوي عربي، مما أهمله طه الروحانية التي تكمن في التصوف، والذي لم ينشغل به في مؤلفاته الإسلامية، رغم أن به الكثير مما نحتاجه الآن مثل الامتلاء الروحي، والسمو الأخلاقي، وعدم الاستسلام للتفاصيل الموضوعة في الدين والتي يحفل بها تاريخه، ونفوره من التصورات الجاهزة المغلقة والمصمتة التي تقدس البشري أحيانًا، علاوة ما بالتصوف من نظرة متسامحة ومتفاهمة. كما أهمل طه حسين، لأسباب عدة، الموروث أو المأثور الشعبي رغم أنه يؤدي دورًا كبيرًا في ثقافة المجتمع، لا يمكن لأي فكر نهضوي أو تقدمي أن يتلافاه، أو ينظر إليه باستعلاء ■