لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

اجتهد المشاركون في مسابقة هذا الشهر بتقديم قصص تعبر عن رؤيتهم للعالم من خلال المواقف التي يحكونها، وتعبر كذلك عن مفهومهم للقصة القصيرة، وإذا كانت الرؤية أمرًا يخص الكاتب يمكن مناقشته فيه بالاتفاق معه أو الاختلاف عليه، فهو حر حرية مطلقة في أفكاره، فإن فنية القصة القصيرة هي ما يجب أن يتوقف عنده من يتصدون لكتابتها، حتى لا تتحول بين أيديهم إلى حكاية يقدم فيها الكاتب كل ما يريد أن يقوله حتى لو لم يخدم الخط الرئيس للقصة، أو استعراض لغوي أكثر منه قص يعتمد على تقنيات فنية تخصه. 
لقد حرصت على اختيار أفضل القصص المقدمة، لكنني أدعو الكتاب المتقدمين لمسابقة هذا الشهر والأشهر القادمة أن يقرأوا كثيرًا في النماذج العالية للقصة القصيرة، ويحصلوا على بعض الخبرات النقدية عنها، ليكتبوا قصة تخلق لدى القارئ دهشة ممتعة، وتثير في وجدانه مشاعر لم يكن يعرف بوجودها، وتحرك مياه أفكاره الراكدة، وهي الأهداف الأهم للقصة القصيرة في رأيي.

المرتبة الأولى: قصة «فنجان قهوة»  لإيمان مرسي/مصر
بالقصة تركيز على لحظة الوحدة، وعدم تحقق الأمل حتى في امتلاك شيء صغير وتافه، مثل فنجان القهوة، ويسير الحكي في خطين متقاطعين، اللحظة الآنية واستبطان ما فيها من مشاعر الوحدة والخوف وعدم الطمأنينة، والأسباب التي أدت إلى هذه اللحظة من فقدان الخطيب الأناني الذي لم يراع حالة والد البطلة، ثم فقدان الأب الذي أصبح كل حياتها وبرحيله تفقد هذه الحياة معناها، مما يسبب لها تلك المشاعر والأفكار السوداوية المليئة بالخواء، ولا يعصمها منها سوى الذكريات الصغيرة مع والدها التي يجسدها لها خيالها، مثل اعتياده شرب فنجان القهوة من يدها برغم أنها لا تجيد صنعه. وربما هذه من الإشارات المهمة في القصة، فالمحبة في الرفقة وليس في جودة وكمية العطاء المادي، بل إننا نحب ما يعطيه لنا أحبابنا حتى ولو لم يكن كثيرًا أو متقنًا، لأن المهم ليس هو الأشياء، بل من صنعها بمحبة، وقدمها بود. كما لا تغفل الكاتبة المصدر الأسمى للطمأنينة وهو الله، فبعد رحيل كل شيء، وخواء الحياة من الأحباب، وفقدان السبب الذي كانت تعيش البطلة لأجله وهو والدها، تفقد الحياة معناها وأهميتها، هذه هي اللحطة المهمة في حياة المرء، إما أن ينجرف إلى هوة اللا معنى، واللا جدوى، وكراهية الحياة والبقاء فيها، وإما أن يربط روحه بمصدر الحياة والوجود كله وهو الله فيمنحه ذلك سكينة الروح وطمأنينة النفس. استطاعت الكاتبة أن تضع القارئ منذ الجملة الأولى في عمق ظلام اللحظة القاتمة التي تعيشها روحها من خلال تجسيدها في أعواد الثقاب المنطفئة بسبب خوف الأفكار المتصارعة بداخل البطلة، ثم تحليل الأسباب والنتائج بالمونولوج الداخلي الذي أتى على لسان الراوية وكنت أفضل لو كان على لسان البطلة، ثم بتجسيد لحظة الانتصار على الأفكار المظلمة اعتصامًا بالذكريات الصغيرة والإيمان بالله.

المرتبة الثانية: قصة «أحلام» للجين محمد السماعنة/الأردن
تنتمي هذه القصة إلى ما يسمى بالقصة الأمثولة. الرموز واضحة الدلالة المباشرة، الحكاية المعادة عن استغلال السلطة حتى لأحلام البسطاء لتتحكم فيهم بدلًا من أن تحققها لهم، والشخصيات رمزية أكثر منها أفراد متميزون. السرد متدفق بالفكرة والأحداث، وكان يفضل أن تخفف الكاتبة من حروف العطف التي استخدمتها بكثرة لا داعي لها. استطاعت الكاتبة توظيف الحوار في القصة توظيفًا جيدًا، فهو حوار سريع وخاطف ويعبر عن أفكار كل شخصية، الناس من جهة والمختار من جهة أخرى، ويشير إلى ما يهتم به الناس من الحصول على ما يسد جوعهم، ومكان يسكنون فيه، ورعاية أولادهم، وما يهتم به المختار من الحصول على المزيد من المزايا على حساب الناس، حتى لو ماتوا جوعًا وسكنوا الشوارع، وفقدوا أبناءهم وأملاكهم لتسقط في يديه. وهنا يبدو عنوان القصة «أحلام» وكأنه ساحة صراع بين أحلام الناس وبين أحلام المختار، وبرغم أمثولية القصة إلا أن نهجها ونهايتها ينحو إلى واقعية يائسة بانتصار المختار في كل مرة لتحقيق حلمه على حساب أحلامهم.

المرتبة الثالثة: قصة «ثورة بلقيس في ثنايا القلب» لباسم الجغامي/سورية
تتناول القصة فكرة العلاقة بين الحياة الطبيعية والحياة في ظل الآلة التي تصبح مع الوقت هي المتحكم في الإنسان. يغلب التفكير التأملي على القص مما يجعل السرد أكثر سكونًا مما يجب، وقد ركز الكاتب على المقارنة بين علاقة الحب التي ربطت نزار قباني ببلقيس وبين العلاقة بين ليزا الآلة والسارد، لكنه لم يتجاوز تلك المقارنة إلى ما هو أبعد منها، وتوقف عند التعبير اللغوي عنها بما هو معروف. في القصة إمكانات كثيرة كان يمكن أن تجعلها أكثر إدهاشًا لولا وقوف الكاتب بها في لحظة زمنية تجاوزتها علاقتنا بالهواتف الذكية الآن. لكن القيم التي يحرص الكاتب على إبرازها لا تخفى على القارئ، مثل الأصالة الحقيقية مقابل زيف اللحظة الراهنة التي بلا أصول، ومثل التمايز والجمال الشخصي الطبيعي الذي تمثله بلقيس ممتلئًا بالحياة وبين الجمال الاصطناعي الذي تشبه فيه كل النساء بعضهم البعض وتمثله ليزا المصبوبة في قالب كغيرها، فيصبح جمالًا ظاهريًا بمقاييس موحدة منزوع الروح. وقد أجاد الكاتب استخام اسم مريم المحفور في وجداننا بالمحبة والأصالة ليكون اسم الآلة (اسم أصيل لآلة بلا نسب) ليؤكد انقلاب القيم جذريًا. وكنت أفضل أن تنتهي القصة عند جملة «إنه عصر ليزا يا سيدي، ألا ترى روعة هندسة الخصر؟» ليترك للقارئ التأمل بنفسه في المعنى العام للقصة.