البدر... أميرًا يرسم القوافي

أن تكون أميرًا، فهذا قدر التاريخ، تضع على كتفيك «البشت»، كما تورّثك أمجادها وسطوتها...
وأن تكون رسامًا، فهذا قدر الأرض التي وهبتك ترابها لتخربش بألوان الطّيف ما ترومه من أخيلة، تضعها على قماشة الوقت، ومناديل الزمن.
أما أن تكون شاعرًا، فهذا قدر السماء، وقد وهبتك زرقتها، وعلوها، واتساعها، ومنحتك نجومها تقطفها أزهارًا تشكّلها الحروف على شال حبيبة، ووحدك تصبح بين ما لا يحصى من النجوم... بدرًا.
وأما عن البدر الذي زرع قلوبنا وردًا، وسماواتنا نجومًا، وحقول أعمارنا عشقًا... فحدّث.
وكانت جماليات الأشياء كأربعة عصافير طارت من بساتين الجنة فحطّت على نفس واحدة، فكان هو: الأمير، والرسام، والشاعر... والبدر، وكانت القصيدة عنوانها: بدر عبدالمحسن.
لم يكن هذا البدر لحظة فارقة في ميدان الشعر الإنساني الفائض بالمعنى، الباذخ بالجمال، بل كائنًا جماليًا أخرج القصيدة من بداوتها ليجعلها أشبه بقطيفة، تزيّن طاولة في قصر، أو مصطبة حجرية في قرية ما.
قرّب البدر المفردات منّا جميعًا، إذ وضع صورة المعنى حدّ ملامسة أذهاننا، فلا هي بالقصيدة المجتزأة من لسان البدوي ساكن الصحراء يتعذّر فهمًا قسوة كلماتها، ولا هي تلك المعاني الآتية من دفاتير أدونيس وأنسي الحاج، بل مزيج حضاري فخم نبت على حواف رمال شبه الجزيرة العربية فتضوّع في مدن العرب بروائح الورد الطائفي، وبشموخ جبال السودة وفرواع، وبكبرياءات العَرضة النجدية، فتتمايل الكفوف على لحن «السامري» دواوين شعر تهطل منها القصائد، فيمضي بدر عبدالمحسن يصوغ لنا مشغولاته منها، ويصبّ ما تحتويه دنان القصائد في أقداحنا، مرة باسم الحب، ومرة باسم الغياب، وتارة تحت مسمى الوطن، وأخرى بذلك المنفى، وقد أشعرنا به جمرًا فكأنما نحتاج قصيدته الدافئة لتكون وطننا الأبدي.
رحيلك «جمر الغضى» نضمّها حيل يا بدر القصيدة، فتحترق أكفّنا حزنًا على من أيقظ صوت القصيدة أغنية في أرواحنا، وقال لها طيري كما شاء لك الهوى، فتسير «طفلة تحت المطر»، يقول لها الرعد «أنا معك»، فتكتب «الرسايل» باشتعالات البرق، لكن ماذا بوسعها أن تفعل بالورق، فالليلة «كانت الفرقا»، حيث لا يفيد الاعتذار، وحال العاشق القول دومًا: «ما للهوى عندي عذر».
فكيف للعشاق أن يتقبّلوا نعي البدر، وهم اليتامى بدون قصائده يقرؤونها على حبيباتهم؟ وكيف للمغنين أن يصدّقوا بأن نبع القصيدة التي يتبتّلون في محرابها قد جفّ ماؤه، وهم المتشوقون دومًا لزخارف الكلمات يضعها البدر نقوشًا، تشبهنا جميعًا، وتغنّينا جميعًا... ولكن البدر يبقى نرى فيه أرواحنا... مع أنه لا يشبه منّا أحدًا!
كم الذين رثوه عندما ترك البدر تلك السماء بالنجوم، لكن ما أجمل مراثيه:
ما نشدت الشمس عن حزن الغياب
علمتنا الشمس نرضى بالرحيل
وها نحن يا بدر القصيدة، رضينا بالرحيل، وثق أن القصيدة المغناة بعدك تبكيك، في غيابك: «ذبلت أنوار الشوارع، وانطفى ضيّ الحروف» ■