الموت الأزرق رسالة تحذير للعالم

الموت الأزرق رسالة تحذير للعالم

 استيقظ العالم صبيحة يوم الجمعة الموافق 19  يوليو 2024م ليكتشف أن عطلًا تقنيًا أصاب معظم مطارات العالم، وفور وقوع الخبر اكتسب أبعادًا كبيرة،  لأنه لامس حركة آلاف من الناس ووجهات السفر التي يسعون إليها، وبعد مرور ساعات أصبح العطل يغطي مساحات شاسعة من البلدان، وتضاعف عدد الذين تقطعت بهم السبل، ودخل جزء كبير من العالم بما فيه من بنوك وأنظمة إلكترونية في حالة قلقة من الترقب والجمود، خاصة مع عدم القدرة على معرفة أسباب هذا العطل الشامل، وكان السؤال الأصعب هو متى ينتهي ذلك العطل التقني؟

 

في بداية التاريخ واجه العقل البشري الطبيعة بكل عنفوانها، لم يعرف من أين تهب العواصف أو يتساقط المطر، ومن أين تأتي ضربات البرق والرعد، أو لماذا تثور البراكين وتهتز الأرض بفعل الزلازل؟، كان العقل يواجه كونًا غامضًا لا يجيب على أسئلته الملحة، فلم يكن يملك إلا الخضوع لهذه القوى المجهولة، جعل منه آلهة علوية وصنع لها التماثيل التي يتوسل إليها مع كل كارثة، ولكن مع مرور الأعوام وتقدم العقل في مدارج التفكير بدأ يحل ألغاز الكون ولم تعد تخيفه هذه القوى بل أنه كان يسعى دومًا للسيطرة عليها أو التكيّف معها.
تمادت قدرة العقل البشري وأصبح يسيطر على هذا الكون وعلى ما فيه من مخلوقات غيره، لم يعد يكتفي بالأرض التي يعيش عليها ولكنه سعى أيضًا للفضاء الخارجي، ولكن لأن متطلباته كانت كبيرة وحروبه لا تتوقف دومًا فقد اخترع الآلة حتى تساعده في تسيير حياته، وهنا حدث نوع من التحوّل الأكبر، لقد تطورت الآلة ولم تقف مهمتها عند حدود المساعدة، فمع تطور الكمبيوتر بدأ عصر جديد من الآلات الذكية التي لها القدرة على التفكير والقيام بأعمال التعلم، وأصبحنا نقف على مشارف عصر جديد تتصدره برامج الذكاء الاصطناعي، عصر جديد نخطو فيه خطواته الأولى دون أن نعرف ماذا يختبئ لنا في المستقبل، ما حدث كان صيحة تحذير للعقل البشري، فهو لم يعد وحده سيد الكون كما كان قديمًا ولكن أصبح له شريك يحاول أيضًا فرض سيطرته، أمر يشبه روايات الخيال العلمي، ولكنه فجأة وجد لها صدى على أرض الواقع، ولكن دعونا نعرض تفاصيل هذا اليوم الغريب الذي لم يحدث مثله. 

كيف حدث ذلك العطل؟
ما تم الإعلان عنه، وهو الشيء الذي خفف من وطأة الترقب، أن هذا العطل الشامل ليس اختراقًا أو هجومًا سيبرانيًا، ولكنه مجرد خلل تقني سببه وجود ثغرة في تحديث إحدى برمجيات الشركة المكلفة بصيانة تلك الشبكات العالمية والحفاظ على أمنها، وهو تحديث من المفترض أن يكون للأفضل ولكن ما حصل هو العكس، حيث أصيبت المطارات والعديد من الأنظمة الإلكترونية في العالم بالشلل.
ولكن مَنْ هي هذه الشركة التي تمسك بناصية العالم في مجال أنظمة الكومبيوتر؟ كراود سترايك شركة أمن سيبراني أميركية من بين الأشهر عالميًا، وتبلغ قيمتها السوقية نحو 83 مليار دولار، ولديها وفقًا لموقعها الإلكتروني، أكثر من 20 ألف مشترك حول العالم.
وحسب إشعار أرسلته «كراود سترايك» إلى عملائها صباح الجمعة وأذاعته «رويترز»، فإن برنامجها «فالكون سينسور» المستخدم على نطاق واسع يتسبب في تعطل نظام التشغيل «مايكروسوفت ويندوز»، وعرض شاشة زرقاء بدلاً منه، وهي التي تعرف على نحو غير رسمي باسم «شاشة الموت الزرقاء». وقد أدت إلى تعطيل أنظمة وعمليات إلكترونية في كثير من المطارات والمحطات التلفزيونية والبنوك والجهات الحكومية والخاصة حول العالم. 
وقد أكّد جورج كورتز الرئيس التنفيذي لـ «كراود سترايك» في منشور على منصة «إكس»، أن الشركة قد وضعت حلاً للمشكلة، قائلاً: «هذه ليست حادثة أمنية أو هجومًا إلكترونيًا»، حيث لجأت الكثير من الدول إلى إنشاء غرف عمليات تضم العديد من الجهات للتعامل مع تداعيات الخلل التقني وآثاره، عبر فتح روابط اتصال مباشرة مع العديد من الأطراف وخاصة شركتي «كراود سترايك» و«مايكروسوفت».

عملية معقدة
ورغم هذا التأكيد مع ذلك لم يتضح مدى سهولة إصلاح الأنظمة المتأثرة عن بُعد، إذ تسببت «شاشة الموت الزرقاء» في تعطل آلاف من أجهزة الكمبيوتر عند إعادة التشغيل قبل إمكانية تحديثها، ومن أجل هذا أضاف أنييل كارد من شركة الاستشارات الأمنية السيبرانية «بونديفيند» ومقرها بريطانيا، قال: «في هذه الحالة لا يمكن تحديث الأجهزة تلقائيًا، ما يعني أن التدخل البشري مطلوب». وأوضح سياران مارتن الرئيس السابق للمركز الوطني للأمن السيبراني التابع لوكالة الاستخبارات البريطانية المعروفة باسم مكاتب الاتصالات الحكومية، قال إن حجم المشكلة كان هائلاً.
    
هواجس حقيقية
وهكذا يبدو أن الموضوع كان تقنيًا أكثر من اللازم ولكن طالما أنه ارتبط بتفاصيل حياة الناس فهو معرّض لكل أشكال النقد، فوفق قاعدة تحقق المصلحة فما يفيد الناس يستمر وما يضرهم يرحل، ولكنها رسالة تحذير للبشرية جمعاء بأن هذا الخلل قد وقع مع أجهزة يمكن إطفاؤها وإعادة تشغليها، ولكن ماذا لو عجزنا عن التعامل مع أجهزة تتمتع بالذكاء الاصطناعي وترفض الاستجابة للأوامر وإطاعة مخلوقات أدنى منها في سرعة التفكير وأقل منها سرعة في كل شيء والأخطر أنها تتزود بالطاقة بصورة ذاتية،  ونحن هنا لا نرسم صورة متشائمة للمستقبل، ولكنها هواجس حقيقية مرت على ذهن الإنسان منذ أن بدأت بصناعة آلات لجعل حياته أكثر راحة ورفاهية.
وهذه الأجهزة ليست خطرًا عاديًا يهدد بالاستيلاء على وظائف الملايين من البشر، ولكنها خطر يهدد وجود الإنسان نفسه عندما تتمكن تلك الآلات من الوصول إلى الأسلحة الفتّاكة متى ما سلمناها للعقول الإلكترونية التي لن تتردد في اتخاذ أي قرار ضد من يهدد وجودها هنا أن تصنع الآلة آلات أفضل منها وأن تتسبب في خلل يزهق أرواح الملايين أو تخرج عن نطاق السيطرة لتوحي لدول تمتلك قدرات عسكرية، أن الخطر اليوم ليس في الأجهزة طالما أنها تحت السيطرة، ولكن الخطر يكمن في منحها الثقة لتفكر نيابة عنا لتكتشف - مثلاً - أننا كبشر مجرد مخلوقات ضعيفة وأدنى منها في سرعة التفكير وتحتل مكانًا في الوجود مكلفًا لها، خاصة وأن هذه الأجهزة لا تمرض ولا تجوع ولا تتعب ولا تحتاج إلى الصيانة والشمس هي مصدرها المثالي والدائم من الطاقة.

أنظمة إنذار مبكر
على مدى العقدين الأخيرين، باتت الحكومات والشركات على حد سواء تعتمد على نحو متزايد على مجموعة من شركات التكنولوجيا المترابطة، وتسارع الأمر مع جائحة كورونا. يقول خبراء إن العطل أبرز مخاطر تزايد الاعتماد على الإنترنت حول العالم.
ولحماية شبكات الكمبيوتر الخاصة بهم من الاختراق، تستخدم العديد من الشركات منتجًا للأمن السيبراني يُعرف باسم «إندبوينت ديتيكشن أند ريسبونس»، أو «إي دي آر»، وهو نظام يعمل فيما يسمى «نقاط النهاية» الخاصة بالشبكة، وهي أجهزة فعلية تتصل بشبكة الكمبيوتر وتتبادل معها المعلومات.
تستخدم شركات مثل «كراود سترايك» منتجات «إي دي آر» الخاصة بها كأنظمة إنذار مبكر في مواجهة الهجمات الرقمية المحتملة وللبحث عن الفيروسات، ومنع المتسللين من الوصول غير المصرح به إلى شبكات الشركات. لكن في التعطل الحالي، يبدو أن خاصية ما في نظام «كراود سترايك» تتضارب مع شيء في نظام تشغيل «ويندوز»، وتتسبب في تعطل هذه الأنظمة حتى بعد إعادة التشغيل. أوضح كارد «مع الانتقال إلى الحوسبة السحابية وفي ظل هيمنة شركات على غرار «كراود سترايك» على حصص سوقية ضخمة، فإن برامجها تعمل على ملايين من أجهزة الكمبيوتر حول العالم».
 
للتطور سلبياته
هذا الوجع العالمي هو ضريبة التطور، وهي وقفة تذكرنا بأن التطور له سلبيات قد تكون قاتلة، وهي تعيد السؤال القديم الذي تطرحه البشرية على نفسها، هل يمكن للآلة أن تكون أكثر ذكاء من الإنسان؟ بالطبع لم يعد من السهل الإجابة على هذا السؤال، فهناك بالفعل عدة آلات تمتاز بقدرات لا يمتلكها الإنسان مثل سرعة معالجة المعلومات، كما يمكن للآلات أن تقوم بتأدية المهام الموكلة إليها بدقة ودون تأثر بالعوامل الخارجية، كما يمكن لها تخزين كمية هائلة من المعلومات واستعادتها في زمن قياسي.
ولكن من ناحية أخرى يتمتع البشر بمزايا فريدة لا يمكن أن توجد في الآلات، وأهمها ميزة الإبداع، فمن الممكن أن يقوم الإنسان بابتكار أفكار وحلول للمشكلات حتى ولو لم يكن واجهها قبل ذلك، كما يتمتع بالتفكير النقدي، وله القدرة على التميز بين الأفكار الصحيحة والزائفة،  ويمتلك الإنسان  نوعًا من الذكاء العاطفي يمكنه من فهم مشاعر الآخرين والتفاعل معهم، ولكن علينا أن نتحفظ قليلاً،  فمع التطور الهائل الذي يشهده الذكاء الاصطناعي لا يدري أحد كيف تتطور الأمور، ولن يستطيع الإنسان بقدراته المحدودة أن يجاري هذا التطور، ولكن هناك العديد من العلماء ليسوا على هذه الدرجة من التشاؤم، وهم يرون أن الآلات لا يمكن أن تشكّل خطرًا على البشرية لا الآن ولا في المستقبل، لأنها لا تمتلك إرادة ذاتية، حتى ولو أخطأ العلماء الذين يطوّرونها، فهي ستظل خاضعة للأهداف التي سبق أن صممت من أجلها، وما حدث في يوم الجمعة في النصف من شهر يوليو مجرد حادث عارض، إنذار قوي حقًا، لكنها ليست النهاية ■