عصر الذكاء الاصطناعي الإطار الفلسفي

عصر الذكاء الاصطناعي الإطار الفلسفي

نعرض في هذا المقال الإطار الفلسفي الذي يحْكم الإنسان المعاصر في آخر صلاته بعالم التقانة كصناعة تعبر عن قدرته على الإبداع والإنجاز والسعي المتواصل إلى إمكانية التحكم في كل ما حققه، ولعل أعظمها وأروعها تلك المتعلقة بعصر الذكاء الاصطناعي. وكأول خطوة لكي ندرك حياتنا التقانية الجديدة في إطارها الفلسفي هو ردم الفجوة بين العوالم الجغرافية والحضارية القائمة اليوم، والتي صارت مكشوفة وواضحة بسبب تقنيات وتقانات التواصل والاتصال. من المصطلحات المبتكرة للتعبير عن المحلي المنصهر local (العالمي) وglobal المركّبة من كلمتين Glocal في العالمي مفردة (العالمي - المحلي)، وفي التوجه ذاته، Bertrand Badie (المحلي)، على ما بلوره المفكر السياسي الفرنسي برتراند بديع على ما يقتضيه العصر الرقمي، فإننا نتحدث عن مجال ومنطقة جديدة يطلق عليها بالجنوب العالمي، أي تلك المنطقة التي تتأهب لإرساء تعددية حضارية تتجاوز وتتخطى الأُحدية، والحضارة الغربية وإفساح المجال للدول الطالعة أو الصاعدة مثل دول البريكس.

 

العناية بالإطار الفلسفي يقصد به ربط التقانة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بجملة من القيم والمبادئ والمفاهيم التي تحكم وتتحكم في الموضوع برمته، خاصة وأنه يجري في سياق عصر رقمي فائق التطور. كما أن الإطار الفلسفي لا يخلو بطبيعة الحال من ضوابط أخلاقيات تفرضها الأسئلة الفلسفية في صيغها العامة والعمومية بعدما أضحت متداولة على نطاق واسع، تهتم به الجماهير إن داخل الوطن أو في العالم كله. في الإطار الفلسفي للتكنولوجية المتطورة نؤكد دائمًا على المجال الواسع جدًا الذي نتصور به حياتنا اليومية في الجوانب التي تتعلق بحياتها المهنية أو في أوقات الترفيه والفراغ، كل ذلك يتم بوسائط ووسائل إعلام وتواصل اجتماعي محلي وعالمي بحيث يلتحمان وينصهران في لحظة واحدة.

كلُّنا عاديون ومتميّزون
كل واحد فينا في هذا الزمن المعاصر يستطيع أن يعبّر عن وضعيته وموقفه من العالم الذي يحيط به، ومن ثم يعرب عن نفسه كإنسان. معنى هذا الكلام أن الفرد والناس والبشر وجميع الخَلْق، كلهم صاروا قابلين للتحديد ويتحولون إلى أشخاص مُعيّنين، وكل إنسان يدرك عن وعي كبير أنه شخص متميز وقابل للتميّز في عصر يوفر له إمكانية تعديل وضعيته الاجتماعية والفكرية. ويكفي أن الكائن البشري، امتيازًا له، أنه يزداد تميّزًا عن الكائنات الحيوانية والأشياء لكي ندرك في نهاية التحليل وآخر المطاف، أن الإنسان حقيقة كونية في تاريخنا المعاصر. وغني عن البيان، ظاهرة التطور المهول في قنوات التعبير والإفصاح عن الرأي الشخصي ورسم الصورة الخاصة في وسائل ووسائط الإعلام والتواصل، وعلى وجه التحديد الزيادة المطّردة في استخدام التطبيقات الجارية كالسيل الجارف. فالمقاربة التي تقترحها في هذا المقال هو أن الإنسان العادي يمتلك من الرصيد، إذا ما هو أحسن التأمّل والإمعان في التفكير في الذات، بالقدر الذي يكشف أنه متميّز وشخصية مستقلة تؤكد إنسانيته وفرادته ومكانته.
الإنسان العادي، أو الإنسان الأدنى كما يردد بعض الفلاسفة والمفكرين، هو الذي نكتشفه في حياة الأشخاص عندما ينكبّون على سرد مذكراتهم والوقوف على تفاصيل مهمة في مساراتهم وتجاربهم في الدنيا التي عاشوها. نعم، ظاهرة كتابة المذكرات وإنجاز الأفلام والروايات والقصص وكافة الأجناس الأدبية والفنية، كلها يؤكد أن حياة الإنسان في عصر العولمة المتقدم ليست عادية كما نتصوّر، بل هي مهمة ومعتبرة، لمن يحسن الرؤية والتقدير والنظر الصحيح إلى الأشياء والأمور... فالإنسان الذي كنا نعتقد أنه عادي لم يكن كذلك بعد ما تمكن هو أيضًا من امتلاك التقنيات والتقانات ووسائل التواصل والتعبير على غرار الجميع، ومن ثم تنتفي مسألة أو إشكالية النخبة والجماهير التي انتقلت بدورها من المفهوم الشعبوي إلى المفهوم الأصيل الذي يعبّر عن القدرة على التجديد الفائق أي ذلك التجديد الذي يظهر إبداعًا وخلقًا وابتكارًا، عندما يصنع الحدث أو يكشف عن ذكاء جديد. فالجماهير في عصر العولمة تصنع الحَراكات (جمع حراك)، وقد تجاوزت الثورات لأن هذه الأخيرة لم تعد من عصر الذكاء الاصطناعي.
نحن نسير بخطى حثيثة إلى المجتمع الإنساني حيث نعيش الحياة المشتركة إن في الواقع الحي أو عبر العالم الافتراضي والسبراني والأثيري الذي يحمل الجميع على تقاسم العيش معًا أو الاشتراك في حضارة إنسانية قوامها الإنسان الجديد كما تصهره وتتوجه به وسائل التقانة المتطورة خاصة على صعيد التواصل مع الميديا وأنواعها المذهلة. فلم يعد الإنسان يقبل سوء المعاملة أو هضم حقوقه، لا بل هو يبدع أجهزة الذكاء الاصطناعي من أجل صيانة كرامته والتحكم أكثر في جوانبه وماهيته الأدمية. فالرّوبوت والعقول وكافة الأجهزة الإلكترونية ليست بديلاً عن الإنسان بما هو قِوام وعماد الحضارة البشرية الذكية وليس تعبيرًا عن تاريخ أعمى سائر أو صائر إلى مجهول.

أخلاق لعصرنا الذكي
نحن نعيش مع العصر، وأنا تاريخنا المعاصر لا يروم أن يغادرنا ولا نغادره. هناك تلازم فوري بين لحظة الإنسان ولحظة التاريخ في آن معًا، ومن هنا اللحظة المعاصرة بكل كثافتها وحمولاتها واحتمالاتها. بمعنى أن مَن يدرك وقته المعاصر هو مَن يدرك أنه يصنع الحدث مع آخرين ليرتِّب مسؤولية الجميع لما يحدث للإنسان والمجتمع والدولة والعالم بأسره. ولو نمعن التفكير مليًا في وضعنا الحالي، سوف نجد بقليل من العناء والجهد، أن تاريخنا المعاصر هو لحظة تعبّر عن حدث سوف يبقى وعن واقعة سوف تحفظ وعن حركات ومواقف سوف تدوم بسبب وجود الذكاء الاصطناعي كامتداد للذكاء الإنساني.
ومن هنا ضرورة مسايرة الأخلاق والتربية الدائمة لمسيرة الإنسان في عصر الرّقمي واللوغاريتمي. والأخلاق التي يجب أن تلازم التقانة الفائقة حدّدها نداء روما على هذا النحو: «هدف هذا النداء هو التطلّع إلى مستقبل حيث يساعد التجديد الرقمي والتطور التكنولوجي عبقرية الإنسان وإبداعه، ولا يحلان مع الوقت محله». فالمقابلة بين الإنسان وبين الآلة يجب ألا يعتريها غموض، بحيث يبقى الإطار الفلسفي والأخلاقي هو الفيصل المميز بينهما، وأن الإنسان يحتاج إلى امتدادات فيما يصنعه وليس العكس، أي ليس سيطرة المكينة على الإنسان كعوالم كامنة لا ينفك يكشفها أو يكتشفها من تأملاته وخيالاته وتطلعاته لما هو قائم وما هو وراء الواقع.
وتضيف وثيقة نداء روما في هذا المجال: «العمل على توسيع مجالات الحرية التي من شأنها أن تهددها الحتميات اللوغاريتمية والشروط الرقمية». فالحرية والكرامة والحقوق والمساواة، كلها إمكانات ومكامن أخلاقية وفلسفية وميتافيزيقية يجب أن تحضر ليس نوعًا من الحضور، بل تساير وتحايث وجود الإنسان في كافة أصعدته النفسية والروحية والجسدية والاعتبارية، اختصرها مصطلح algor-ethique، وقد بيّن هذا النداء الذي وقّعه العديد من الهيئات والمؤسسات والشركات الدولية، الجوانب والمحددات التي يجب أن تحتكم إليها تطبيقات الذكاء الاصطناعي وهي: -1 الشفافية وتعني التواصل مع الإنجازات بالشرح والتوضيح -2 إدراج كافة حاجات الإنسان التي تصون كرامته وحريته -3 المسؤولية، العواقب التي يمكن أن تنجر عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي بداية من المتصوِّرين لها إلى المنفِّذين وإلى المستفيدين أو المستهلكين -4 الحياد والإنصاف والعدل والمساوارة
-5 الوثوقية في الإنجاز ونجاعته -6 تأمين السريّة وحماية الحياة الخاصة للمستخدمين.

خطوات نحو مستقبل منظور
ولأننا في خضم التاريخ المعاصر الذي يكثِّف كافة الأبعاد الزمنية في لحظة فورية، فيمكن أن نستعيد الماضي ونحضر للراهن ونرسم معالم مستقبلنا المنظور في تعاملنا مع معطيات الواقع الفائق بإنجازاته العلمية والتكنولوجية، خاصة تجليات الذكاء الاصطناعي:
- ندمج حقائق جديدة تتعلق بالإنسان نفسه الذي لم يعد يملك الانكفاء على الذات أو يكفّ نفسه بمقوّماته الذاتية فقط. والأمر نفسه ينسحب على كيان الأمة والشعب والدولة والمجتمع وكافة الوحدات البشرية التي تعيش في هذه الأرض. الجميع دخل، حقيقة وليس مجازًا، صلة الاعتماد المتبادل والعلاقات الجدلية التي تؤثر وتتأثر، مع زيادة قوة التأثير وزيادة سرعة التاريخ، كل ذلك بسبب تطور التقانة ووسائل ووسائط التعبير والإعلام والتبليغ والمعرفة النظرية منها والعملية. فقد تلازمت حياة الإنسان الصانع للحضارة والثقافة مع أعماله في وحدة متكاملة يحيل أحد أطرافها إلى الطرف الآخر، وصارت أفضل دراسة موضوعية وعلمية قابلة لتوسيع فهمها إلى الجميع هي تلك التي تَدرس الشخص مع حياته في لحظة مكثّفة بنبضات العالم.
- في مقاربتنا لما يجري في عالمنا المعاصر، يجب أن ننطلق من أن الإنسان صار شخصية تخاطبه كافة قوانين الدولة الوطنية القائمة وكافة القوانين الدولية كاحتمال في المستقبل بسبب ظاهرة حراك النقل والتنقّل التي تحْكم عالم المواصلات والاتصالات، ولاحتمالات الهجرة وإمكانية الإقامة بعيدًا عن الأهل والأقارب ومواطن النشأة الأولى. فالإقامة واحتمالات السفر والهجرة هي ما يشار إليه في المصطلح الغربي بالحراك البشري وعليه، أو هكذا يجب أن نتعامل مع الواقع الجديد، بأن التّقانة إمكانية لا تكف عن  transhumance... النفاذ إلى عمق الإنسان في صلته بالعالم، وأن التّحول إلى المجتمع الإنساني هو بما يصنع الإنسان ذاته، ما يعني في التحليل الأخير والمطاف النهائي، أن العالم مرتَهن بما يحققه الإنسان وهذا صحيح منذ غابر الأزمان، لكن الجديد في عصر الرُّوبوت والذكاء الاصطناعي أن الإنسان امتلك الوعي بأنه قريب من العالم واحتمالات أن ينقل خبرته إلى سائر الدنيا التي يقيم فيها أو التي يتواصل معها عبر الوسائط الجديدة أو تلك التي ينتقل إليها لاحقًا.
- ثالث الخطوات نحو المستقبل المنظور هي النظرة الجديدة نحو الإنسان نفسه. فالإنسان بسبب تواصله وتفاعله الدائم مع التقانة الفائقة في آخر تطوراتها المعروفة بالذكاء الاصطناعي يدرك كيف يرتقي الشخصية الاعتبارية ضمن مؤسسة ينتمي إليها. فقد أدت personnalite morale إلى شخصية معنوية ظاهرة التواصل والتجاوب التلقائي مع المؤسسات إلى أن الإنسان يظهر أقوى وأشد ما يظهر ضمن المؤسسة التي أضحت ظاهرة العصر التقاني الفائق، تكشف عنها يوميًا الشركات والهيئات والمنظمات والمراكز والجمعيات واللجان والمجالس على اختلاف وتعدد مظاهرها وأشكالها، سواء أكانت وطنية أم دولية، حكومية أو غير حكومية، حاملة لجنسية واحدة أو متعددة الجنسيات. فإذا كان تعريف المؤسسة هي نشاط يضطلع به فريق عمل أو هيئة من أشخاص ترغب في تحقيق خدمة، فإنه، مهما كان التعريف، فإن الإنسان جزء أصيل في تعريف المؤسسة بالقدر الذي يؤخذ من لجميع خبرته ودرايته وجهده الذهني والبدني من أجل تحقيق غرض المؤسسة. وأن الصفة الجماعية والعمومية والاعتبارية هي الميزة الجوهرية التي تحدد الإنسان في عصر التقانة الفائقة.
- حياتنا المعاصرة تحيل دائمًا إلى الجمع بين النظري والتطبيقي على الصيغة المتداولة في اللغات الأجنبية والمعروفة بالحرفين  ST ،(sience & technique)  ولم يلبث هذا الوضع أن تحوّل إلى حالة يجمع فيها الإنسان ذكاءه مع الذكاء الاصطناعي، بالصيغة التي تعرف في اللغات الأجنبية بـ A (Intelligence artificielle)، وهذا كله يؤكد التواصل المتواصل لصيغة الجمع. 
والتركيب والخلاصة التي صار يتمتع بها الإنسان في حياتنا المعاصرة، فهو الوريث مع الإضافة، للإنسان العاقل والإنسان الصانع.  والجمع بين العناصر ليس على سبيل إضافة عنصر إلى آخر بل تركيب متناغم ومتلائم وسَلس تحكمها معادلة إنسانية معقولة وقابل للفهم والتفاهم ■