جغرافية السعادة والتنمية البشرية
رغم أن كلمة «سعادة» كلمة مألوفة ودارجة - فإن لها تعريفها اللغوي هو الرضا والاطمئنان - وأنها ضد «الشقاء - أو الشقاوة»، كما أن التنمية – من النمو أو التزايد growth - وهو مصطلح يفسر عمليات التغير التي مرت بها المجتمعات من زوايا مختلفة مثل النمو الاقتصادي، أو الرفاه الاجتماعي Social welfare - أو التحديث Modernization والإنسان في جميع الأحوال محور هذه التنمية، وهو بدوره متغير زمانيًا ومكانيًا. وتتفاوت التنمية بشدة من حيث مفهومها وأهميتها ومدى الحاجة إليها خاصة عند المقارنة بين سكان الريف والحضر والبادية، أو بين سكان الأحياء الراقية في المدن من ناحية، وسكان الأحياء الفقيرة والعشوائيات من ناحية أخرى وهكذا.
والواقع أن دراسة التنمية البشرية بعناصرها وأهدافها - تتصف بالشمول والتكامل، ورغم أنها بدأت اقتصادية ثم اجتماعية ثم الاثنين معًا Socio - economic - فإنها انتهت في الوقت الحاضر إلى دراسة تحليلية كلية متكاملة تتناول النواحي المادية والمعنوية - الكمية والكيفية - بهدف الارتقاء بحياة البشر وتحقيق الرفاهية - والسعادة، ومن ثم فإن المصطلحين السعادة والتنمية متلازمان - ومتكاملان إلى حد كبير، فالتنمية عملية متعددة الأبعاد - تتضمن إعادة تنظيم، وتوجيه النظم الاقتصادية والاجتماعية ما يؤدي إلى تغيرات جذرية في البناءات الاجتماعية والمؤسسية والإدارية، بل وحتى العادات والتقاليد السائدة التي تؤثر في التنمية البشرية إيجابًا أو سلبًا.
وقد شهد الأدب الجغرافي والتنموي مبكرًا عددًا من الكتابات التي تتناول علاقة الإنسان بالبيئة عزَّزها ما شهده العالم من تغيرات مناخية ناجمة عن عوامل متشابكة طبيعية كانت أم بشرية - غيرت كثيرًا من الأفكار المرتبطة بهذه العلاقة، وكيف أن الإنسان بثقافته - وتزايد أعداده - وتباين بيئاته أسهم بدور كبير في تلوث البيئة - بأبعادها الأربعة المائية Hydrosphere والأرضية Lithosphere والحيوية Biosphere، والمناخية Atmosphere، وما شهده العالم من ظاهرات كانتشار الكورنا كوباء عالمي، والفيضانات والجفاف، والحرائق، وتنامي ظاهرة الفقر عبر خريطة العالم بين شمال غني وجنوب فقير بل ومناطق أفقر وهكذا، ثم ما لبثت العولمة والإعلام وتكنولوجيا الاتصالات أن جعلت العالم قرية كونية واحدة بصورة لم يعرفها البشر من قبل عبر تاريخهم الطويل.
والجغرافيا كما هو معروف ومتداول - علم يدرس الأرض بوصفها وطن الإنسان، وتتناول مظاهر البيئة الجغرافية، وتأثيرها على حياته وثقافته وحضارته، والعلاقات المتبادلة بينه وبين عناصر هذه البيئة والتفاعل بينهما وتأقلمه مع ظروفها، بل والأمراض التي تصيبه، وهي في ذلك ترتبط بعدة علوم، أبرزها التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد، وذلك للوصول إلى الغاية السامية للدراسة والتي تهدف إلى التنمية البشرية بجوانبها المترابطة للوصول إلى تحقيق سعادة البشر في بيئاتهم المختلفة.
وعلى امتداد ما يربو على ألفي سنة من الفكر البشري شهدت الجغرافيا آراء متعددة في العلاقة بين الإنسان والبيئة - لعل أبرزها فكرة الحتمية البيئية determinism - التي ترى أن ظروف البيئة الطبيعية - خاصة المناخ - تسيطر على الإنسان وحضارته، ولكن التطور البشري الذي اقترن بالابتكارات الحديثة وانتشارها وكذلك التطور الحضاري للمجتمعات البشرية أثر بلاشك في مفهوم الحتمية الجغرافية، وظهور مفهوم الإمكانية الجغرافية Possibilism والتي تحدد مدى جهد البشر في استغلال بيئاتهم للارتقاء بحياتهم والوصول بها إلى مستويات معيشة عالية - ومرفهة، ومن المنطقي أن البيئة الطبيعية قد تتغير تغيرًا بطيئًا عبر الزمن - ولكن سيادة مفهوم التحدي والاستجابة هو الذي يحدث الفوارق بين البيئات والمجتمعات المختلفة.
والواقع أن أبرز المظاهر في حياة البشر في عالم اليوم هو تزايد أعدادهم بشكل لم يسبق أن عرفه الإنسان من قبل، فقد تزايد سكان العالم من حوالي 2 مليار نسمة سنة 1930م إلى 4 مليارات نسمة سنة 1976م، ثم إلى 8 مليارات نسمة سنة 2022م، وهذه الأعداد التي تضاف سنويا إلى الجنس البشري تحتاج إلى موارد غذائية، ومياه، وموارد للطاقة والوقود وفرص عمل وغيرها من المتطلبات الحياتية، ورغم تزايد الإنتاج، والتطور العلمي في مجالات الحياة المختلطة، فإن ذلك يظل مرهونًا بثقافة المجتمعات، وتباين أنماط الحياة، واختلاف الإحساس بالتنمية والسعادة.
فالملايين من الأنفس التي تضاف سنويًا إلى الجنس البشري تحتاج إلى أراض زراعية أكثر لإنتاج الغذاء، وهذا سيؤدي إلى التوسع الزراعي على حساب موارد أخرى - كالغابات أو الحشائش وإزالتها لهذا التوسع، وبالتالي يحدث الخلل في التوازن البيئي، يضاف إلى ذلك في بعض المجتمعات اشتعال حروب محلية أو دولية تؤثر سلبًا على المجتمع بأكمله، وعلى أنماط الحياة السائدة فيه.
ومصطلح التنمية من المصطلحات التي تميز العلوم الاجتماعية والإنسانية بعامة، والجغرافية التطبيقية بوجه خاص، وأضيف لهذا المصطلح صفة خاصة به التنمية الاقتصادية أو الزراعية أو العمرانية - أو البشرية - أو حتى التنمية الشاملة إلى أن استقر أخيرًا على مصطلح مزدوج التركيب - وهو الذي أصبح شائع الاستخدام - وهو التنمية المستدامة Sustainable Development وقد عملت هيئة الأمم المتحدة على ترويج هذه المصطلحات من خلال إصدار تقارير سنوية تعرف بتقرير التنمية البشرية منذ 1990 يكفي من خلاله الوقوف على مستويات التنمية في أقاليم العالم وأقطاره المختلفة.
والتنمية البشرية هي باختصار وسيلة الارتقاء بحياة الناس، لأنهم الثروة الحقيقية لأية أمة، إذًا أحسن استثمارها، وتهدف في النهاية إلى إيجاد بيئة ملائمة للارتقاء بقيمة الحياة Quality of life ليعيش الناس حياة طويلة خالية من الأمراض والعلل، وفي مستوى معيشي يحقق للإنسان متطلباته الحياتية الأساسية والمتعددة، كما أنها عملية تهدف إلى زيادة الخيارات المتاحة أمام الإنسان لاكتساب المعرفة التي تمكنه من تحقيق الرفاهية وتضمن له حقوقه الأساسية والتي من بينها حريته السياسية واحترامه لذاته وللآخرين، وتمكنه من العيش معهم دون شعور بالخجل أو النقص، ويعد الدخل، والتعليم، والصحة أساسًا لذلك كله، علمًا بأن هذه الخيارات بلا حدود، حيث تتباين بمرور الوقت، ومع ذلك كله فإن الفقر والغنى يُعدان في النهاية المعيار الأساسي للاختلاف بين البشر في بيئاتهم المختلفة.
ورغم مستوى التنمية البشرية يمكن قياسه بمتغيرات عديدة، فإن الأمم المتحدة تعتمد في الأساس على ثلاثة متغيرات رئيسية فقط وهي:
-1 أمد الحياة (طول العمر) مقدرًا بعدد السنوات المتوقعة عند المولد، ومحسوبًا ديموغرافيًّا من جداول الحياة. (Life Tables).
-2 مدى المعرفة بالقراءة والكتابة (التعليم) (Literacy) .
-3 مستوى دخل الفرد محسوبًا بمتوسط نصيبه من الناتج الإجمالي القومي سنويًا (G.N.P).
وهذه المعايير الثلاثة التي تستخدم في قياس التنمية البشرية تفيد في تصنيف أقطار العالم وفن مستويات التنمية بها، وعامةً يبدو العالم في النهاية منقسمًا إلى قسمين متميزين: أحدهما عالم أكثر تقدمًا More Developed .Countries (MDC)
والآخر أقل تقدمًا أو نامٍ Less Developed Countries (LDC)، كما أن هذه المقاييس تفيد في معرفة مدى التقدم البشري من ناحية، والحرمان البشري من ناحية أخرى، وذلك من خلال ما يتمتع به المجتمع من خدمات تنعكس على أمد الحياة به، والتعليم، والدخل، والتغذية وغيرها.
واعتمادًا على هذه المعايير قامت الأمم المتحدة بحساب مؤشر التنمية البشرية لكل دولة من دول العالم اعتبارًا من سنة 1990، وأعلى مؤشر تنمية هو واحد صحيح (أو عشر درجات أو %100). وتأتي الدول المتقدمة من غرب أوربا وأمريكا الشمالية واليابان وأستراليا على رأس القائمة ومعظم دول إفريقيا جنوب الصحراء في المؤخرة.
الاهتمام العالمي بجغرافية السعادة والبيئة
عندما أصدرت هيئة الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر 1948م - أي منذ 75 سنة، كان العالم ينعم ببيئة نظيفة إذا قورنت بحالتها اليوم، وكان عدد السكان لا يزيد عن 2.5 مليار نسمة، ولم تكن هناك تهديدات للبيئة التي يعيش فيها الإنسان دون مخاطر تذكر، ولذلك خلا هذا الإعلان من نص صريح على حقوق الإنسان في البيئة، بل لم ترد البيئة أصلًا ضمن القضايا التي تناولها هذا الإعلان آنذاك، في الوقت الذي أكد فيه على حقوق أخرى، منها حق الإنسان في الحياة، والسلامة، والعيش في مستوى معيشي كاف، للمحافظة على صحته ورفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية، والملبس والمسكن، والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة.
غير أن العالم شهد بعد ذلك تطورًا تكنولوجيًا مذهلًا وتزايدًا كبيرًا في استخدام الطاقة، ونموًا مطردًا في أعداد السكان، وضغطًا متزايدًا على الموارد الطبيعية، وترتب على ذلك إحداث خلل واضح في التوازن البيئي في المجتمعات البشرية المختلفة، دل على ذلك كوارث بيئية جسيمة، ما أدى إلى الإحساس الدولي بالمخاطر التي يمكن أن تتعرض لها البيئة، وتؤدي بالتالي إلى الإضرار بالإنسان ليس في مناطق الكوارث فقط بل في أي مكان آخر في العالم، وبدأ العالم ينظر إلى تلك المخاطر بجدية فعقدت المؤتمرات الدولية والإقليمية، وبدأت كثير من دول العالم المتقدم في وضع تشريعات للمحافظة على البيئة وحقوق الإنسان فيها، والتعاون بين هذه الدول لتقليل المؤثرات السلبية وتعظيم الإيجابية منها.
وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا في يوليو 2011 يدعو الأعضاء إلى قياس مقدار السعادة بين شعوبهم من أجل العمل على تطوير السياسات الخاصه بكل دولة، والعمل على الارتقاء بأحوال مواطنيها ليصدر تقرير السعادة الأول في أبريل 2012، وهو يعد أول مسح للسعادة في العالم، حيث حدد التقرير حالة السعادة العالمية وأسباب السعادة، والبؤس، والنتائج المترتبة على السياسات المتبعة في الدول وأثرها على مستوى السعادة في شعوبها. وقد تضمن التقرير قرابة 150 دولة وأسهم في إعداده كبار الخبراء في العديد من المجالات مثل الاقتصاد، وعلم النفس، وتم تصنيف سعادة الشعوب في هذه الدول وفقًا لعدد من المعايير وضعتها الأمم المتحدة منها حجم الرعاية الاجتماعية، وتنوع الخيارات المتاحة، وتدني مستوى الفساد، ودرجة تراجع اللامساواة بين المواطنين ومقدار دخل الفرد من الناتج الإجمالي المحلي.
ولعل من أبرز فصول تقرير السعادة العالمية سنة 2015 فصل يحمل عنوان: جغرافية السعادة العالمية، وأعد هذا الفصل ثلاثة باحثين كرروا العوامل الستة التي سبق ذكرها والتي تؤثر في تحقيق السعادة في دول العالم، وهي: متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي في السنة، ثم أمد الحياة - أو توقع الحياة للفرد بصحة وعافية، والدعم المجتمعي وقت الحاجة، وحريه اتخاذ القرارات الحياتية، ومقاومة الفساد الحكومي وقطاع الأعمال، ثم الكرم generosity بصفة عامة.
ومن الواضح أن العوامل الثلاثة الأولى في هذه المنظومة لها التأثير الأكبر في تحقيق سعادة البشر، أما ما تتعرض له البيئة والمجتمع من كوارث طبيعية أو اقتصادية، وقيمة الحكومة أو الإدارة والحكم الرشيد، وكذلك الدعم المجتمعي - فهي عوامل مساعدة لتحقيق السعادة والعامل الأخير يتمثل في إحساس البشر أثناء الكوارث بالدعم المجتمعي في كل المجالات. (مثل الزلازل أو الفيضانات أو الحرائق وغيرها).
إضافة إلى ذلك فإن التركيب العمري النوعي له علاقة بالتباين في مستويات السعادة، ويأخذ منحنى على شكل U حسب السن في المحور الرأسي، والسعادة على المحور الأفقي وأدنى نقطة عند فئة السن الوسطى (45-50) لمعظم الدول، وأن الذكور يشعرون بالأمان أكثر من الإناث، ومؤشر السعادة العالمي Happy Planet Index يتم من خلاله قياس مدى شعور الأفراد بالرضا والسعادة في حياتهم، والدول الأكثر سعادة غالبًا ما تكون الدول الأكثر ثراءً إلى حد معين، إضافة إلى عوامل أخرى مساعدة مثل الدخل الإضافي، والدعم المجتمعي، وغياب الفساد، وارتفاع مستوى الحرية التي يتمتع بها الأفراد.
وقد بدأ الوعي يتزايد عن دور الدولة في تحقيق السعادة لمواطنيها، وأن الحكم على نجاح الدول في حياتها بعامة يحكمه مقدرتها على إسعاد شعوبها، وقد أصبحت السعادة القومية National Happiness - هدفًا عمليًا للحكومات وتصنيف الدول على أساس مقياس السعادة، ورغم تباين الآداء في العلاقة بين جغرافيه السعادة والتنمية البشرية المستدامة، فإن العلاقة بينهما تتجلى بوضوح في المقارنة بين أسعد دول العالم - وأتعسها من المنظور المادي البحت محكومًا عليه بمؤشرات التنمية وتباينها على خريطة العالم (جدول1)، و(جدول2).
هذا علمًا بأن المقياس يتراوح بين صفر (غير سعيد)، و10 (سعيد) وشمل التقرير نحو 150 دولة من دول العالم البالغ عددها 196 دولة، وجاء ترتيب مصر 129 – ومقياس السعادة بها 4.28، وتعد مملكة البحرين أولى الدول العربية في هذا المجال بمقياس وصل إلى 6.64 وترتيبها العالمي 21.
وفي ضوء ذلك يبرز سؤال حاسم هو ما الذي يجعل الإنسان سعيدًا في بيئته الجغرافية؟ أجاب عن ذلك السؤال «والدنجر Waldinger وشولز Schulz بكلمات بسيطة فحواها «أن الناس الأكثر ارتباطًا بالأسرة، وبالأصدقاء، وبالمجتمع بأكمله هم الأكثر سعادة من غيرهم، فهم الأكثر لياقة صحية، ويعمرون أطول من غيرهم، وهم في ذلك يتفوقون على غيرهم من البشر الذين تقل علاقتهم بالمجتمع أو بالأسرة، بل إن الوحدة التي يعيشون فيها تصبح قاتلة بالنسبة لهم، ويمكن أن يضاف إلى ذلك سيادة ثقافة التكافل الاجتماعي والتراحم بين أفراد المجتمع سواء بدافع وازع ديني أو أخلاقي أو تربوي. مما يسهم في النهاية في تحقيق الرضا والسعادة والسلام المجتمعي الذي ننشره اعتمادًا على المكونات الوظيفية للسعادة اجتماعيًا وماليًّا وجسديًا ومجتمعيًّا، وأن تحقيق السعادة يرتبط بتوفير الأعمال والوظائف المناسبة، وتقليل الضغوط المالية، وتحقيق التكامل المجتمعي، والعمل على ارتفاع المستوى الصحي، وخلق بنية مجتمعية مناسبة كالأندية والمراكز الثقافية والترفيهية والارتقاء بمنظومة الأخلاق السائدة عبر تعليم متطور وإعلام مستنير ■