لماذا ضد السياحة؟

لماذا ضد السياحة؟

تتزايد أعداد السياح في موسم الصيف في مختلف البقاع والبلدان، خصوصاً تلك التي تعتبر محاج سياحة جاذبة ومتميزة. خلال هذا الصيف برزت حركات معادية للسياح في بلدان عرفت بكونها من أهم المزارات السياحية في العالم مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان وعدد آخر من البلدان. هذه البلدان كانت، وما زالت، تجذب الملايين من السياح سنوياً وقد وصل عدد زوار إسبانيا، مثلاً، ما يقارب 85 مليونًا في عام 2023. تمثل إيرادات السياحة مساهمة مهمة في الناتج المحلي الإجمالي للبلدان المذكورة. 

 

فقد كان عدد من المهتمين بحماية البيئة ينتقدون تصرفات السياح، خصوصاً على الشواطىء البحرية ويوجهون لهم اتهامات بتخريب الشواطىء وتلويثها بما يتعارض مع الحفاظ على بيئة نظيفة. كما يشير المنتقدون بأن السياح لا يراعون أهمية نظافة الأمكنة التي يقطنون فيها وعدد كبير منهم يتصرفون دون مراعاة لمشاعر سكان المدن والقرى التي يزورنها ويخربون الحدائق والمراكز الحضرية باستخدامات لا تحترم القوانين  الوطنية أو الأنظمة المتبعة في هذه البلدان. برزت أهم مظاهر مناهضة السياحة خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي في جزر الكناري الإسبانية حيث كان الشعار «أيها السائح احترم أرضي». حيث أكد عدد من النشطاء بأن المطلوب من السائح أن يكون  راقياً في تصرفاته وليس مثل أولئك الذين يشربون الجعة الرخيصة ويتركون القناني ملقية على الشاطىء أو يتركون  أعقاب السجائر مدفونة في التراب.
إسبانيا، مثلاً، تستقطب سواحًا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والبلدان الاسكندافية وهولندا والولايات المتحدة. عدد كبير من هؤلاء السياح يعتمدون في ترتيب زياراتهم لإسبانيا على نظام الرحلة المتكاملة الشاملة «Package Tour» والتي تشمل  التذاكر والإقامة في الفنادق وربما عدداً من الوجبات اليومية ووسائل التنقل. معظم هؤلاء من محدودي الدخل الذين يحاولون أن يقتروا على إنفاقهم على السفر وهم ينتمون لطبقة العمال أو الطبقة المتوسطة الدنيا. وقد لا تكون سلوكيات  هؤلاء متوافقة مع توقعات المضيفين أو سكان إسبانيا. هناك ، أيضا، من يفضل الإقامة في الشقق  لتخفيض تكاليف الإقامة حيث تكون الفنادق مرتفعة الأسعار في المواسم. حيث أدى الطلب على الشقق من الزوار أو السياح إلى ارتفاع الإيجارات على مواطني المدن الإسبانية، خصوصاً برشلونة التي تتمتع بشعبية واسعة بين زوار إسبانيا. وقد حدثت خلال هذا الموسم تظاهرات واحتجاجات وتم الاعتداء على السياح ورشهم بمياه المسدسات ما دفع وزير السياحة الإسباني إلى توبيخ المحتجين ورفض المشاغبات التي بدرت من سكان عدد من المدن الإسبانية. لكن الازدحام وارتفاع أعداد السياح  واستخدامهم للشقق والمرافق الحيوية قد زاد من حدة التذمر. وما حدث في إسبانيا حدث، أيضا في إيطاليا خصوصاً في مدينة البندقية التي تستضيف 20 مليون سائح سنوياً. وقد استحدثت البلدية رسومًا على السياح، وهي رسوم رمزية لا تزيد عن 5 يورو للسائح في اليوم. معلوم أن البندقية بلغ عدد سكانها 150 ألف نسمة في عام 1970 تراجع إلى 50 ألفًا في الوقت الحاضر، وربما يعود ذلك إلى ارتفاع أعداد الزوار بغرض السياحة.
هناك دراسات بشأن السياحة الفائضة أو «Overtourism» ومن تلك الدراسات دراسة عنونت Impact of Overtourism on Residents تأثيرات السياحة الفائضة  على سكان البلدان المضيفة. وقد أعد الدراسة ثلاثة من الباحثين Sebastian Amrhein وJan Hospers وDirk Reiser ونشرت في صفحة Research Gate في عدد أبريل، (نيسان)، 2022 تم التطرق لعدد من المسائل المتعلقة بمسألة السياحة وتأثيراتها.حيث أكد الباحثون في دراستهم بأن الامتعاض من زيارات السياح ليس من الأمور الجديدة فقد لوحظ التذمر منذ فترة طويلة، قبل عدة عقود. وقد ارتفعت أعداد المواطنين في البلدان التي تجذب السياح والذين طالبوا حكوماتهم إلى إقرار أنظمة للحد من تدفق السياح والحد من نمو هذه الأعداد وقد عرف مصطلح «Overtourism» السياحة الفائضة بالتذمر الذي يبديه المضيفون أو حتى الزوار ذاتهم بأن أعداد الزوار قد فاقت الامكانيات وبأن هذه الأعداد أدت إلى تدهور جودة الحياة أو نوعيتها.
هناك تساؤلات حول هذه الظاهرة وما ستؤول إليه اقتصاديات النشاط السياحي في مختلف البلدان، خصوصاً تلك التي  يعتبر فيها القطاع السياحي موردًا أساسيًا للدخل القومي. بطبيعة الحال البلدان التي عانت من التدفق الكبير من الزوار عملت على تطوير بنيتها التحتية وقامت العديد من المنتجعات والفنادق والنزل. هل كان ذلك متوافقاً مع مقاييس التنمية المستدامة والارتقاء بنوعية الحياة للمواطنين سكان تلك البلدان؟ ربما أدت عمليات التطوير للوحدات السياحية إلى ارتفاع في أسعار الأراضي وتزايد أعداد المركبات على الطرق وزيادة القيمة الإيجارية للوحدات السكنية بما ألحق الضرر بالسكان في مدن عديدة. وكما سبق الإشارة فإن برشلونة في إسبانيا تمثل نموذجاً صارخاً «للسياحة الفائضة أو المفرطة». هذه المدينة هي من المدن الجميلة الواقعة على ساحل البحر وتتمتع بمناخ متميز. لا يزيد سكان برشلونة عن 1.6 مليون نسمة، لكن يزور المدينة سنوياً ما يقارب 32 مليون سائح يمكن للمرء أن يرى اليوم كتابات على الجدران في المدينة تقول  ما معناه «أيها السائح عد إلى بلادك ! «بدأت تعمير الفنادق والمنتجعات منذ عقود الستينات والسبعينات من القرن الماضي لكن المدينة وضعت بشكل واضح على الخريطة السياحية العالمية  في عام 1992 بعد إقامة الألعاب الأولمبية فيها. أصبح ميناء برشلونة مرفأ للسفن السياحية التي تنتقل في البحر الأبيض المتوسط ، ثم عملت إدارة المدينة على تطوير الشواطىء الملائمة للزوار وجلبت الرمال من الخارج لإقامة المزيد من الشواطىء. 
لابد أن تكون هناك اسباب موضوعية للحركة المناهضة للسياح. بتقديري أن الأعداد الكبيرة من الزوار أو السياح ربما أدت إلى حصر السكان في مدن عديدة حيث تزدحم شوارعهم وتكتظ الفنادق وتمتلىء المطاعم بالرواد، وينجم عن ذلك ارتفاع الأسعار للسلع والخدمات. يضاف إلى ذلك أن استخدام الشقق من السياح وقيام أصحابها بتأثيثها  بدلاً من توفيرها للمستأجرين من مواطني الدول المضيفة تزيد من الشعور بالغبن  بين سكان المدن. ربما أدى اهتمام الحكومات على مدى العقود الماضية لتطوير المنشآت السياحية وتحفيز السياح لزيارتها قد عزز التدفق السياحي وارتفعت الأعداد في مدن وبلدان إلى مستويات قياسية. الآن ، هناك بلدان تسعى لرفع أعداد زوارها، قد يكون ذلك من اجل رفع مساهمة القطاع السياحي في الناتج المحلي الإجمالي وزيادة الإيرادات من هذا القطاع، وهناك بلدان يمثل القطاع السياحي أهمية في تكوينها الاقتصادي، فمثلاً مصر تعمل على تعزيز الإيرادات السياحية نظراً لما يمثله ذلك من اهمية لتحسين الحساب الجاري ورفع قيمة الإصول المالية المقومة بالعملات الأجنبية لمواجهة استحقاقات ما يتم استيراده من الخارج وتأدية خدمة الديون الأجنبية. كذلك الحال في تونس والتي اعتمدت منذ الاستقلال على القطاع السياحي كمصدر أساسي للدخل الوطني. بيد أن التوسع في القطاع وزيادة أعداد الزائرين لابد أن يتم التقييم على أسس منهجية تأخذ بالاعتبار التأثيرات على البيئة وعلى معيشة المواطنين ونوعية الحياة.
ليس هناك من شك بأهمية القطاع السياحي للعديد من البلدان فهو ، كما سبق ذكره ، مولد للدخل ويوفر فرص عمل كثيرة لمواطني البلدان المضيفة ، كما أن هذا القطاع يعزز من حيوية قطاعات أخرى رديفة مثل قطاع النقل البري والجوي والبحري ويمكن المطاعم من توسيع رقعة أعمالها. بلغ عدد السياح حول العالم في عام 2023 ما يقارب 1.3 مليار أنفقوا 1.4 تريليون دولار. غني عن البيان أن تلك الأرقام تمثل أهمية للاقتصاد العالمي. لكن الأمور لا تؤخذ بالأرقام ، بالرغم من أهميتها، حيث هناك بشر يريد أن يتمتع بالحياة على أسس  ملائمة ويحمي البيئة من أي تأثيرات مضرة، قد تأتي عن طريق السياحة، ولذلك لابد أن تعمل منظمة السياحة الدولية بالتوافق مع البلدان المعنية  على ضبط شروط الزيارات السياحية وعدم تحميل البنية التحتية والمنشآت الأخرى في البلدان المضيفة فوق طاقتها وقدراتها الاستيعابية وتؤكد على حماية البحار والأنهار من التجاوزات. في ذات الوقت لابد أن تعي البلدان المضيفة أهمية تحديد الأعداد المناسبة  للزيارة سنوياً دون التوسع من أجل كسب المزيد من الإيرادات. هذه مهام يجب أن يتصدى لها اقتصاديون ورجال أعمال وصانعو سياسات من أجل التوصل إلى أوضاع متوازنة تتحكم بالنشاط السياحي ■