الفجيرة ابنة الجبال تغسل ضفائرها بمياه البحر

لم تختر، كشأن شقيقاتها الست ضمن اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، أن تضع قدميها على ساحل خليج، بل أرادت، كما شاءت الأقدار لها، أن تتشكّل كأيقونة جبلية على ساحل بحر، فكأنها هبطت على الساحل من تلك السفوح الشاهقة، فانحاز بعضها للجلوس على الرمال مسافة نحو 70 كيلومترًا، كيما تغسل ضفائرها من الموج المتدافع عبر سيرورة الزمان، بينما أبقت جانبًا منها يأخذ من الجبال أمشاطه، فتلوّنت بين البنّي والأخضر، وتفجّرت من صخورها الينابيع، فلا عجب أن كان اسمها... الفجيرة.
ويبقى السؤال الدائم، كلّما أوغلنا في قلب بلد أو مدينة... لماذا حمل هذا المكان ذلك الاسم؟
وكعادتها، تتنوّع الإجابات وتتعدد، فهناك من يشير إلى أن أصل اسم إمارة الفجيرة يعود إلى جدول مائي يقع أسفل أحد جبالها، وهناك من يرى أنه إشارة إلى وقت الفجر، حينما وصلتها العائلة الحاكمة تسابق أشعة الشمس إليها، أو من تفجّر العيون، إذ لعيونها المتفجّرة ينابيع ماء... ورؤية.
وتواردت العديد من الأوصاف عليها، فهناك من يراها «أرض عمالقة البحار» كما عرفت قديمًا، إشارة إلى الوجود الفينيقي، ممّن هاجروا من جنوب شرق الجزيرة العربية إلى ساحل الشام، ومن سمّاها «جوهرة الشرق الأوسط»، وتبدو لمحبّيها الحورية الجميلة على البحر تتوسّد كل تلك الجبال من حولها، يتعاقب على سكناها الرعاة والصيادون منذ نحو ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، كما أنها الموطن الأول لقبائل «الشرقيين»، وهم ضمن القبائل العربية التي نزحت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، فاتجهوا إلى ساحل عمان، مع جدّهم الأكبر مالك بن فهم، أما جدّهم الشيخ محمد بن مطر فقد ولد في الفجيرة، وكان أبوه حاكمًا، ومن الشيخ محمد أصبح الحكم في هذه العائلة وراثيًا، علما بأن تاريخ الإمارة بدأ فعليًا في عام 1808م مع تشييده قلعة الفجيرة من جديد، وبنى حولها المدينة القديمة.
أمضى مع مدوّنات التاريخ عن هذه الإمارة، فمع تولّيه الحكم في عام 1942م ألحّ الشيخ محمد بن حمد الشرقي (1908 – 1974م) على البريطانيين لطلب الاعتراف بالفجيرة ككيان مستقل، وكان له ذلك بعد عشر سنوات، أي عام 1952م، وبدأت التنمية تأخذ مسارها منذ ذلك الحين، حسب الظروف والإمكانيات، لكن في عهده أنشئت أول محكمة شرعية، وكذلك افتتاح أول مستوصف طبي في عام 1969م، وأيضًا إقامة أول مدرسة ابتدائية ضمّت نحو 90 طالبًا، واللافت إنشاء أول مكتبة عامة، كما بدأ شقّ الطرق لتكون خطوط تواصل في وقت مبكر.
كان حضور قبائل الشرقيين كبيرًا، فمع بداية القرن التاسع عشر كانوا ثاني أكثر القبائل عددًا في المنطقة التي تسمى «الشميلية»، بعد قبيلة «بني ياس»، وأظهر إحصاء جرى في عام 1968م أن نحو 90 في المئة من سكان الفجيرة يعودون إلى «الشرقيين»، ومع حلول القرن العشرين وصل عددهم إلى نحو سبعة آلاف فرد.
إلى حيث الفجر
تأخذني هذه الإمارة إليها، بهدوئها، وبهويتها، وزرتها متأخرًا، ربما لأن الحياة تشاغبنا بعيدًا نحو الأمكنة الشهيرة ذات الضجيج الإعلامي، وننسى أن موج البحر، وهيبة الجبال، وعزيمة الإنسان، قادرة على أن تكبر بالمدن، وأن الإرادات القوية لأبنائها عملت على أن تضع الفجيرة على خارطة الكرة الأرضية بثبات وتمكّن، منطلقة من هوية المكان أولاً، فلا تغريد خارج سرب الماضي، ولكن البناء عليه ليتشكّل، وهو في تجلّيه، بقيادة واعية، عطاء يتناسل من عطاء.
بين مسقط والفجيرة مسافة لا تقاس بالوقت، بل بدقّات القلب الواحد، وإن بدت أقل من ثلاث ساعات، فلم أشعر أنني اجتزت حدودًا، بل فواصل جغرافية متشابهة، فالجوار العماني الإماراتي أعمق من «الفواصل السياسية» التي جاءت لتنظيم «حدود» كما تشاء نظم الخرائط، لكن العمق ممتد حتى الجذور، وتربط الشعبين علاقات اجتماعية فتجد على مراكز الحدود المشتركة مئات السيارات تعبر بين الجانبين، أما في المناسبات فلا مبالغة أن نقول بالآلاف.
أنظر إلى الخارطة لأقرأ أبجديات المكان بصورة أعمق، من الجنوب تجاور الفجيرة شقيقتها إمارة الشارقة، التي تجاورها أيضًا من الغرب مع إمارة «رأس الخيمة»، وتبلغ مساحتها نحو 1165 كليومترًا مربعًا، أي ما يعادل 1.5 في المئة من مساحة دولة الإمارات، بدون الجزر، وهي من حيث المساحة خامس إمارة.
ونظرة على جغرافية الإمارة فإنها تنقسم إلى جزأين، لكن كلاهما يطل على البحر، وهذا يعني في حسابات درجات الحرارة بأن الطقس يختلف قليلاً عن تلك الإطلالات على الخليج العربي، ويتميّز السهل الساحلي الشرقي بكونه أخصب مناطق دولة الإمارات، ففيه تكثر المزارع، والتي تتقاسم المكان مع السلاسل الجبلية، وكثبان الرمال التي تزرع جمالها في بعض المناطق، وبين تلك الصخور ينبثق الماء أحيانًا «كبريتيًا»، ومن أشهر عيونها تلك عين «غمور»، وعين «مضب»، وهذه العيون الكبريتية والمعدنية أضافت بعدًا علاجيًا بجوار «السياحي» فيأتيها الناس من مناطق شتى طلبًا للاستشفاء.
ولأنها الجبال الشاهقة فحتما تمرّ عبرها الأودية التي تجعل من مواسم الأمطار لوحة فنية تختال بلونها البني مجتازة الهضاب والسهول، مندفعة من تلك الشواهق إلى حيث البحر، ومن أشهرها وادي «سيجى» ووادي «حام»، هذه الجبال أثّرت إيجابيًا في حظوة الإمارة بالسحب المحمّلة بالمياه، حيث تجلبها الرياح من المحيط الهندي المعروف بدفئه، فكانت الفجيرة الأعلى في معدل هطول الأمطار بين شقيقاتها الست.
كان المرعى خصبًا عند سدّ وادي حام، نجتاز الأرض السبخة إلى اللون الأخضر الذي وجد ضالته في تلك التربة الخصبة فنما وترعرع، فوجدت فيه النوق بغيتها، نسأل الراعي عن بعض الحليب فاعتذر... لعدم توافر الناقة الحلوب، ولكن عرض علينا فسحة على ظهورها... فاعتذرنا... لأننا أبناء المدن تباعدنا عن تلك التفاصيل فنسينا، فخشينا أن نسقط من عل!
في إطلالتنا الأولى على ثراء المكان بمفردات الأمس كان متحف الفجيرة نافذة جميلة للتعرّف على بعض من تراث الإمارة، بما احتواه من لقى أثرية جاءت عبر آلاف السنوات كشاهدة على ما سار على هذه البقعة من تاريخ، فكان الماضون يستظلون بجبالها، حيث الماء والخضرة، ويمضون في مياهها الزرقاء، حيث البحر لغة العالم، قديمه وحديثه، في التواصل، مع حضارات الدنيا، وكان لافتًا وجود مدفن يدعى «مريشيد» من الألف الثاني قبل الميلاد، حيث عرضت بعض اللقى كالأواني الفخارية المهشّمة والأغطية المصنوعة من الحجر الصابوني والخرز، وكذلك شواهد من موقع أثري في قرية قدفع، تعود إلى الفترة الانتقالية ما بين العصرين البرونزي والحديدي، فيما تحتضن قاعة أخرى هدايا ابن الكويت الشيخ ناصر صباح الأحمد.
تحت سفوح قلاعها
يقودنا المساء إلى قلعة الفجيرة، والمكان يعود بنا زمنيًا إلى الوراء مئات السنين، فبجوار القلعة هناك المسجد القديم، وبيوت الحكام الشرقيين، كبيتي الشيخين محمد بن حمد الشرقي، وعبدالله بن حمدان الشرقي، وغيرهما من أفراد العائلة الحاكمة.
في الصباح التالي نعود إلى المكان لندلف إلى داخل القلعة، وهي حصن «الشرقيين»، بما يجدر به أن يكون، ليكون أهم وأكبر مبنى قديم في الإمارة، إذ يحتفظ بهيبة من عبروه كونه كان مقرًا للحكم حتى مطلع القرن العشرين.
تجلس القلعة على ربوة ترتفع نحو 20 مترًا تقريبًا عن سطح الأرض، ولكنها لا تبعد كثيرًا عن البحر، فكانت تعيش تحوّلات الدهر، فتنهض من جديد كلما عاث فيها الغزاة تدميرًا، أو تقادم الدهر عليها فتآكلت حيطانها، ومن بين حالات إعمارها حالة أعيد فيها بناؤها في الفترة ما بين 1650 و1700م، وعرفت المزيد من الإصلاحات في فترة حكم الشيخ محمد بن مطر الشرقي، والتي كانت بين عامي 1803 إلى 1808م.
تتضمن القلعة برجًا مستطيلاً، بجوار ثلاثة أبراج دائرية أخر، وفي أسفله تقع غرفة السجن، أما غرفه العليا فكانت مكاتب إدارية كونه مقر حكم، وفيه تدور الاجتماعات واللقاءات، مع الأخذ في الاعتبار أن القلعة لها مدخل رئيسي واحد فقط، يقع في الناحية الجنوبية، حيث يصعد الداخل لجلال المكان عبر درج لما يمكن أن يعدّ صالة استقبال، ليواجه صحن القلعة، فيرى غرفها الداخلية ومداخل الأبراج الثلاثة ببنائها الطيني مع الصاروج التي ارتفعت فوق قاعدة من الصخور، مع اكتمال منظومة البناء البيئي بوجود سقف من جذوع النخيل، علما بأن هذه الأبراج كانت تستخدم كسكن للجنود.
نهبط من علياء القلعة لنطوف في بقية تفاصيل المدينة القديمة/ الحاضرة، تتوزع المنازل الصغيرة فيما يشبه حوش كبير يضم سائر أطياف السكّان، ويقف بيت الشيخ محمد بن حمد الشرقي عنوانًا أصيلاً لما يمكن أن يكون قصرًا في تلك المرحلة، وبجواره القلعة الحارسة، وأمام بيته مسجد صغير آخر، فيما تطل البيوت بشكل سطحها الهرمي فيهبط السقف السعفي كصفحتي كتاب من أعلى كتف في معمار البيت، فيما ترتفع الجدران الطينية متكاملة نحو مترين عن الأرض ثم تبدأ بالتصاغر تدريجيًا لتتيح للسعف تكملة المطلوب، بما يتناسب مع طبيعة طقس المكان، صيفًا أو شتاءً، هذه «الحارة» أو النواة الأولى للإمارة، تجاور مزارع النخيل، كما هو معروف في غالبية القرى في منطقة الخليج، بيوت السكان تبدأ من حيث تنتهي آخر نخلة في محيط المزارع.
وحيث تكون الجبال فإنها تبقى حارسة المكان، فيقيم عليها البشر أبراجهم وقلاعهم، مستفيدين من إطلالاتها، والتحصّن داخل سواتر تقيهم رصاص الغزاة، كما أن هؤلاء المهاجمين يبقون تحت سطوة القابضين على القلاع والحصون.
وما أكثر ما عرفته المنطقة من غزاة، ومن أبطال دافعوا بشرف عن ترابها.
ومن سطوة حضور قلعة الفجيرة إلى معاقل أخرى، وقد بقيت علامات من الماضي، مع اختراع الإنسان لوسائل متقدمة أكثر في حروبه، لكن هذه الأبنية الطينية، وتلك المقامة بالجص، سجّلت يومًا ما ملاحم من شرف الدفاع عن الأرض، ودالّة على ما عبر المكان، من غزاة قذفت بهم البحار على الأغلب، وشجعان ذادوا عن حياض أوطانهم لينالوا الحرية.
مضينا نقتفي الطريق إلى «البدية»، وقد سبقتنا معلومة عن مسجدها الذي يشار إليه أنه يعدّ أقدم مسجد باق في دولة الإمارات، وفيها العديد من الأبراج التي تختلف عن طبيعة القلاع والحصون كونها تستخدم للتحذير في حالة وقوع أمر ما، خاصة في أوقات الحروب، حيث من على سطحها يمكنه رؤية القادم بما يسمح به البصر، وقد كانوا أصحاب بصر وبصيرة، اخترعوا إشاراتهم الخاصة للدلالة على نوع ما يعترضهم من أخطار، باللهب الصاعد من البرج، أو عدد طلقات الرصاص، ولم تبق الأبراج في عصرنا الحالي سوى كونها شواهد من الماضي، تركها الأجداد لتساعدنا على قراءة دفاتر حياتهم، وقد أصاب البلى أكثر صفحاتها، مع تقادم الدهر، وغياب التوثيق، إلا قليلا.
مدهش المسجد بمعماره، كأنما هي أربع قطع ركّبت بجوار بعضها البعض، فجاء السقف لوحة فنية وضعها صانع فخار متمرّس، وتشير المعلومات المثبتة بجواره أنه بني بمواد محلية، بالحجارة الكبيرة والصغيرة «البازلت» مع الطين المحروق كمادة رابطة للبناء، وجاء التسقيف بأربع قباب تستند على عمود وسطي واحد، وتوصّلت بعثة تنقيب أثرية، بعد أخذ عيّنات من أساسات جدران المسجد، وأجريت عليها تجارب كيميائية بواسطة كربون 14، إلى أن المسجد بني في حدود عام 1446م تقريبًا.
كان البرج يقف أعلاه مباشرة، فحدّثتني نفسي أن أصعد ذلك التل الحجري، لأرى سقف المسجد الصغير من عل كيف يبدو بتلك القباب الأربع، فلم يزد المشهد على أنه بناء متفرّد، وكان محرابه، كما هو مدخله الخارجي، مدعاة لطرح المزيد من الأسئلة عن هذا المعمار، مستدعيًا تلك الظروف التي أقيم فيها هذا البناء الديني بهكذا صورة، لكن مثل هذه السمات المعمارية تكشف عن أوجه تشابه مع المباني في مواقع مختلفة في جميع أنحاء شبكة التجارة في المحيط الهندي، من الخليج العربي إلى الساحل الشرقي لإفريقيا.
وإلى الغرب، حيث وادي «حام»، وحيث «البثنة»، المطلّة على ذلك الامتداد من مدينة الفجيرة وحتى وادي السيجي، تنتظم كحبات مسبحة في خيط سلسلة جبال الحجر، تقف قلعتها العتيدة متماسكة بقوة بنائها الذي يشير إلى أنه تمّ في عام 1735م، فيما تعود الشواهد الأثرية المكتشفة في محيطها إلى الألفيتين الأولى والثانية قبل الميلاد، إضافة إلى شواهد أخرى من العصور الإسلامية المختلفة.
يمضي برجاها بشموخ، فيما يبدو وسط القلعة مرتفعًا أكثر من بقية أجزائها، أحني رأسي قليلاً لأتّخذ دربي عبر ممر يمتد نحو ثلاثة أمتار يرتفع تدريجيًا ليصل إلى بابها الخشبي الصغير، ومنه إلى الأعلى مباشرة، حيث ما يعرف بصحن القلعة، وعلى الأسوار يبدو جليّا منافذ كانت تسند البنادق لترد كيد المهاجمين، لكننا، وإذ ننعم بالسلام النفسي التام، فإن أعيننا جالت ببهاء على مشهدية المكان، بنخيله وأشجاره وارفة الظلال، كأنما اخضرار الحدائق جيوش الجمال تزحف إلى قلوبنا.
إلى جنوب غرب الفجيرة نمضي، لنستكشف ما قد يقودنا المسير إليه هناك، وقد سمعنا أن المقصد «حصن ومربعة الحيل»، حتى إذا مضت بنا الدرب نحو 15 كيلومترًا وجدنا «الحيل» بواديها الشهير الذي يحمل اسمها، الطبيعة من حولك مزهرة بالصمت، كأنما تكاد تسمع، وأنت في تلك العزلة الاختيارية، دقات قلبك، ولا يحاصرك سوى تلك الأبعاد التاريخية للمكان، فيصعد من عمقه الحصن، المرتفع بضعة أمتار على أعلى قمة جبلية في ذلك المحيط، ومن علوّه يمكنك أن تقرأ ورقة المكان في صمت أحرفها، وإن كانت الكلمات تقول المعنى في صمتها.
يمتدّ الوادي في «الحيل»، كما هو تلاقي المسميات مع مثيلاتها في دول المنطقة، والمشهد يكون واحدًا، مزارع تتخللها منازل متفرقة، نقوش صنعتها الطبيعة بإبداع الخالق، وأخرى وضع لمساتها الإنسان وهو يبحث بين مسام الجبال عن مجتمع بشري يقيمه.
ويشار بكلمة «مربعة» إلى استراحة أو مصيف، وقد كان الشيخ، وهو ممثل الحاكم في المكان، يقيم في هذا البناء التاريخي العائد إلى عام 1830م، ساحة يحيط بها سور، والسور داخله برج مستطيل يشبه الحصن، اختار تلة في الأعلى ليجلس عليها بهيبة، أما غرفه فهي لسكنى الأسرة الحاكمة، ومكاتب إدارية تقتضيها طبيعة المكان، كان مجموعة من السياح، عرب وآخرون، تجمعهم اللغة الإنجليزية كلغة تواصل، يهبطون سلالم البرج مع أطفالهم، ومع فرحة التقاط الصور بجوار سطوة الماضي، ودروسه الفائقة.
نصيخ السمع لصوت الضحكات أمام عدسة آلة التصوير، فيتلاقى مع الغيم ابتهاجًا، وسموق النخيل كأنها تريد أن تطاول الجبال من حولها.
أسأل عن معنى «أوحلة»، إذ يبدو كأنه يوحي للوحل، فإذا التفسير لا يختلف كثيرًا، فهو صفة للمكان الرطب مع تزايد سقوط الأمطار في هذه البقعة، فيبقى المكان «موحلاً» لفترة طويلة يشقّ السير فيها، مع اختلاط الماء بالأرض ذات الطبيعة السبخة، ويجد العابرون صعوبة في عبورها، إلا أن الزمان تغيّر مع وجود وسائل نقل معاصرة فتحت للوصول إلى «أوحلة» مسارين، الأول من مركز المدينة إلى الحيل، والآخر عن طريق كلباء، وفيها قلعة أيضًا.
صباح آخر يأخذنا إلى موقع تاريخي لا يبعد كثيرًا عن مركز الإمارة، إنها قرية «سكمكم»، وقد تناثرت أسباب المسمى، وقد يبدو أنه إنجليزي، أعبر لأصل إلى باب القلعة، على اليسار غرفة أشبه بنقطة حراسة أولى، وبعده البرج المستدير بطبقاته الثلاث أشبه بقاعة استقبال على زاوية منها سلم خشبي يأخذني إلى السطح، وتبدو من إطلالاته بنايات الفجيرة الحديثة والميناء.
نحو دبا... ومسافي
من ذلك البهاء تأخذنا المسارات تحت ظلال قلاع الفجيرة إلى قرية «مسافي»، وإلى قلعتها التي يزيّن معصم سورها ذلك الفلج، والمسجد الذي يلاصق السور، بمدخل منفصل، كأنه امتداد لمعنى مفردة «القلعة» حيث تكتمل بركنها الديني.
يشار إلى أن عمر القلعة نحو خمسة عقود من الزمان، ويشار أيضًا إلى أن فلجها، كما هي حال المجاري المائية دومًا يمنحها عمرًا أقدم، فمكانها دال على أنها قامت لتحرس تلك الظلال الوارفة والبساتين من الطامعين في خيراتها، فتشرف على المكان عبر برجها الدائري الوحيد، فيما نمضي داخلها لنجد غرفتين تمتد حوائطهما ضمن نسق السورين، الخارجي والداخلي، كأنما بنيت لأغراض لوجيستية استدعتها ظروف ما، سكنًا للجنود، أو دفاعًا عن الماء، باعتباره شريان الحياة الأول والأخير... في مجتمع يبحث عن قطرة الماء أينما حلّت، ويرتحل عن المكان... إن ارتحلت.
مسافي تقع على مفترق طرق، للذاهب إلى البثنة أو إلى الفجيرة، أو نحو دبا الفجيرة، وإلى الشارقة ودبي، يأتيها من يقصد صيفها «اللطيف»، لوجود مزارع النخيل وسائر المزروعات كالحمضيات والمانجو، بما يلطّف جوّها.
ومن مسافي إلى دبا الفجيرة، ندخل إلى مدينة جميلة ترى فيها ملامح التطوير بيّنة، ومقصدنا قلعتها العتيدة، بعيدة بموقعها عن ساحل البحر، بما يمكّنها من اصطياد الغزاة، فتجبرهم على النزول على البر للوصول إليها، وتأمن من شرور مدافعهم المحمولة على ظهر السفن، ولذلك مثّلت نقطة استراتيجية في الحروب القديمة التي نشبت، خاصة بين العرب والفرس.
نتأمل تفاصيل المكان، كم عبرت هنا من سنابك خيل وصيحات فرسان، كم من غزاة قطعوا الفيافي والقفار ليحوزوا سلطة هذا المبنى، وكم من رجال دافعوا بأرواحهم عن شرف وطنهم، ونمضي بين الغرف والأقواس، نواجه الأسئلة بأجوبة تتخيّل ما حدث، تتشابه القلاع في أبجديات البناء والمواد الخام المستخدمة، وفي الأهداف من إقامتها، وتبقى الفوارق في سنة الإنشاء غالبًا.
يطلّ مسمى «وادي الوريعة» على أذهاننا، تلك المحميّة الطبيعية المغلقة، وقد أخذ الوادي اسمه من نبات «الورع» كما يسمّي السكان المحليون نبات القصب، ذلك العاشق الماء، بما يتركه جريان السيل أوقاتًا قد تطول أحيانًا، وحينما ينحبس فإن أعواده تجفّ، ريثما يهطل المزن من جديد... لكن ورع «الوريعة» يبقى مخضرًا بما عرف عن المنطقة من أنها خزان مياه كبير تحرسه الجبال، فيكتب شلالها أغنيته على تلك البرك المائية الطبيعية، ولا تزيده الأمطار إلا قوة.
كل ما حولنا جبال، ونحن الباحثون عن «العيون»، لكن هذه الشوامخ الصخرية تدسّ حيوات بينها، فحدّدت المنطقة بأنها محمية طبيعية، ليأمن ما فيها من مخلوقات مطاردات البشر، فتكاثرت في تلك البقعة حيوانات برية وطيور وبرمائيات وحشرات مائية، فيما تمنحها النباتات البرية قيمة أجمل، وأدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم بالشبكة العالمية لمحميات المحيط الحيوي.
يحدّثنا مرافقنا عن عيون «الفجيرة»، وعيونها لا تصيب من يقترب منها، بل تمنحه الأمل في الشفاء، فنعبر على سيرة عين «مضب» بما عرف عنها من تركيبة معدنية وكبريتية، فنكاد من الوصف نلمس بأصابعنا أشجار النخيل والسدر والأراك، ونشمّ في عين «الغمور»ّ رائحة الكبريت يخرج من الماء، مع درجة حرارة المياه التي تكاد تقترب من الستين درجة مئوية، فيأتيها الناس استئناسًا بما يقال عن فائدة مثل هذا الماء، وقد أعيتهم العلاجات لأمراض مثل الروماتيزم والمفاصل، وما يصيب الجلود من جريان الزمن والتعب عليها.
مفردات اليوم والغد
من فجيرة الماضي، إلى تلك التي تعيش حاضرها، وترسم الخطوات لغدها، وبعد تجوال بين قلاع وحصون وأودية وواحات نخيل آن الأوان لنجلس إلى فجيرة اليوم والمستقبل، فكان لا بد من التعرّف على ركنين ثقافيين مهمّين يحظيان بمتابعة لافتة من سمو الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الإمارة، وهما بيت الفلسفة وأكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة.
أدخل باب مبنى أنيقًا يحمل ذلك الاسم اللافت، بيت الفلسفة، قفزة هائلة إلى المستقبل، كيف تضع القيادة في إمارة الفجيرة اهتمامًا بهكذا علم!!
إنه سر النهضة التي تقوم عليها الإمارة، فلا تقدّم بدون فكر، والفلسفة تمثل الفكر في أسمى تجلياته، كونها تلقي بحجر التساؤلات في بحيرة التفكير الراكد، فتقودني الخطوات إلى قاعات المكان، ومكتبته المتخصصة في كل ما يتعلق بعلم «حب الحكمة»، آلاف الكتب المتناثرة على مكتبة من طابقين، مع مساحات للقراءة عامرة بالهدوء، عدا جلسات خارجية تحفّز على الاستغراق في الجلوس مع خير جليس، ومع علم يعدّ سنام العلوم.
يقيم «البيت» فعاليات على مدار العام، وله مؤتمر سنوي يدعو إليه ثلّة من العلماء والمتخصصين لمناقشة قضايا فلسفية ترتبط بالحياة المعاصرة، برعاية ولي العهد، كما أن له عشرات الإصدارات الفلسفية، بينها المخصصة للأطفال والناشئة.
المفردة الثاني هي أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة، وقد تلقّفتنا بجمال معروضاتها منذ بابها الأول، لتأخذنا في رحلة عبر مفردات الإبداع الفني، من الموسيقى، وقد أسست فرقة موسيقية عالية المستوى تقيم حفلات فنية مستمرة... ومن الفن التشكيلي، فتجلّى الإبداع في مجموعة من اللوحات موقعة بأسماء فنانين متحققين، وأخرى بأيدي هواة يأتون لمتابعة ورش التدريب المقامة باستمرار، إضافة إلى منحوتات بديعة، وهناك مجال للخط العربي أيضًا، حتى ترتبط الفنون ببعديها الجمالي والإبداعي، المستمدّين روحهما من عمق المكان وهويته.
ومن هذين الركنين الثقافيين يلوح أمامنا معلمان يعدّان من الصروح الكبرى في الإمارة، صرح ديني: مسجد الشيخ زايد، وصرح صحّي: مستشفى الشيخ خليفة، وقادتنا تكبيرات صلاة المغرب لدخول المسجد، تحفة فنية بنيت على الطراز العثماني، نتأمل جمال معمارها، زواياها، سقفها، فخامة كل شيء تطاله روحك قراءة وتأملاً.
أصالة الفجيرة وعصريّتها
تسند إمارة الفجيرة نهضتها إلى مفهومي الأصالة والمعاصرة، يمكن قراءة نهجها في الكثير من الأمكنة، والإشارة واجبة إلى احتفالية الإمارة هذا العام باليوبيل الذهبي بمناسبة مرور خمسين عامًا على ذكرى تولّي الشيخ حمد بن محمد الشرقي الحكم فيها عام 1974م، والذي يولي الثقافة اهتمامًا كبيرًا، ويعرف عنه أنه يرتبط بعلاقة وثيقة مع مجلة العربي، وحريص على متابعتها، ويمتلك جميع أعدادها، علما بأنه زار دولا كثيرة في مطلع السبعينيات، ومع توليه حكم الإمارة انطلقت نهضة واسعة في جميع المجالات، خاصة تعليم الشباب وتمكينهم ورعايتهم، وبفضل حكمته يشار اليوم إلى الإمارة بالبنان، بما فيها من نهضة اقتصادية واجتماعية وفعاليات متنوعة ومتواصلة، وأصبحت الفجيرة مركزًا استراتيجيًا مهمًا ليس لدولة الإمارات بل للإقليم من حولها، فميناؤها يعدّ ثاني أهم ميناء نفطي في العالم، وخزّان ضخم لتخزين الوقود تحت الأرض، ويربطها قطار مع إمارة أبوظبي، كما تربط الساحل الشرقي بشرق آسيا.
إضافة إلى هذه التنمية العصرية، فإن إمارة الفجيرة تزخر بمفردات التراث، والمتوافرة بعمق، سواء على مستوى القلاع والحصون، أو الفنون الشعبية، ألقي الضوء على جزء منها، وستتواصل المبادرات لتقديم مفردات التاريخ بشكل مشرّف، ولا ينسى الحديث عن الدور الكويتي في التنمية التعليمية التي نهضت بالفجيرة، ففي الستينيات طلبت الإمارة من جامعة الدول العربية إمدادها بمعلمين للتدريس فيها، فتعاونت دولة الكويت بإرسال مجموعة منهم، وكانت هناك المدرسة الصباحية، وأيضًا مسجد «الغرفة» الذي بني بتمويل كويتي حينئذ.
يشار إلى أن أسرة الشرقي من الأسر العريقة في المنطقة، وكان لأبنائها دور في تنمية المنطقة مع مجيء الشيخ محمد بن حمد الشرقي رحمه الله، والذي ساهم إسهامًا كبيرًا في تطوّر الإمارة وجعلها منطقة مهمة في الساحل، وكان من المؤسسين الأوائل للاتحاد بما له من دور كبير في تمكين قيامه، ثم جاء من بعده ابنه الشيخ حمد بن حمد الشرقي، وكانت له مساهمة مشهودة كونه كان وزيرًا للزراعة والثروة السمكية في أول تشكيل وزاري مع قيام الاتحاد.
الاستفادة من التضاريس
استفادت «الفجيرة» من تلك التضاريس في العديد من الرياضات، فأصبحت وجهة مميزة لمحبّي رياضة الدراجات الجبلية وتسلق الجبال، ولا أجمل من التقاء هذه الأوابد الصخرية، حيث صلابتها وقممها العالية، بذلك الأزرق الممتد كأنه لا نهاية له، وكأنما عمقه يتفجّر جمالاً في حوضه المائي العظيم، والذي يصبح جاذبًا لهواة صيد الأسماك، وسائر الرياضات البحرية كسباقات القوارب والتزلج على الماء... يأتونها من دول المنطقة، ومن سائر أنحاء المعمورة.
هذا المعنى لا يكتمل بدون زيارة نادي الفجيرة الدولي للرياضات البحرية، وضمن نشاطاته العالمية استضافته للجولة الافتتاحية لبطولة العالم للموتوسيرف، بوجود مشاركين من جنسيات مختلفة، علمًا بأن الفجيرة وقعت عقدًا لاستضافة وتنظيم مونديال الموتوسيرف لمدة ثلاث سنوات، فعرفت مياه الإمارة هذا الزخم الدولي الذي يقام للمرة الأولى فيها على مستوى الشرق الأوسط، لكن مكان النادي قطعة فنية على الساحل، وقد استفاد من تلك الشرفات الجميلة المطلة على البحر بوجود مطاعم عدّة.
ولأنها بلد البحر والجبال فإن هناك ما استفادت منه من علاقتها بكل تلك الشوامخ، فعبر ممر جبلي كأنما آلة سكين ضخمة اجتثّت من تلك الصخور الهائلة قطعة تسمح بمرور السيارات، اجتزنا الدرب إلى مركز آخر للمغامرات، مدينة ألعاب استفادت من الطبيعة الصلبة، فأخذت من مناخاتها لتضع فيها ألعابًا تشبهها.
أخذتنا نسائم الشتاء نحو البحر، ممنّين النفس بالجلوس مع أبناء المكان، ممن يتحدثون عن علاقتهم بكل هذه الزرقة، على الساحل كان أحد الصيّادين «يعمّر» مجموعة من «الجراجير» ببقايا الخبز والأسماك الصغيرة، ويحمّلها على متن قارب، يقول إنه يحمل نحو ستة منها على ظهر القارب، ويمضي بها إلى عمق البحر لاصطياد أسماك القاع، ويعود بعد أسبوعين ليستخرجها، فيجمع ما احتوته من رزق مكتوب، وفيها «الزبيدي» و«الصال»، و«الكوفر».
وعلى نحو غير متوقع أصادف زحامًا، ومجموعة كبيرة من الثيران، أشار مرافقي إلى أنها جولة أشبه ما تكون تدريبية للشباب على رياضة «مناطحة الثيران» والتي تقام منافساتها كل سبت، فأمضي على فوري لمتابعة ما تخيّلته منافسة حقيقية، فالثيران متأهبة، وكأنها لم تدرك أنه يوم جمعة، للنزال، وهو يبدو سلميًا، حيث تتلاقى قرونها بضع وقت، ليتنادى بعدها على «الشباب» لفك اللحام بين «الثورين»، فلا دماء تسيل، كما يحدث على حلبات هذه الرياضة في إسبانيا، علمًا بأنها من بقايا الاحتلال البرتغالي للمنطقة، وما زالت تقام أيضًا في بعض المناطق الساحلية لسلطنة عمان.
وسلامًا... حتى مطلع الفجيرة
في المساء لا أجمل من شاطئ المظلات، حيث البحر يلقي هواءه الدافئ في عز الشتاء، وحيث عشرات الأسر تتوزع على تلك المساحة المدهشة من الجمال، وكل مظلة تتخذ لونًا فرائحيًا، فيجد الأطفال متعتهم في أشياء عدة، كما أن الفنون الشعبية تحضر أحيانًا لتذكر العابرين بهذا الموروث العذب.
من الجبال، إلى البحر، إلى الصحراء، إلى الأودية، وواحات النخيل والاخضرار، يبدو المشهد متكاملًا أمام أعين الزائرين، أولئك المصابون بدهشة الاختلاف، فهذا التعدّد والتنوّع في لوحة الجمال، أو الجذب السياحي، يمنح الزائر متعة تعطيها له الطبيعة، بدون تدخل الإنسان، أو الشعور بأن هنا ثمة ما هو مصطنع، فيد الخالق جلّ وعلا وضعت هذه الفسيفساء، شاهدة على عظمته، وأن الحضارة مهما بلغت من معمار فتبقى عاجزة أن تمنحنا هذا الشعور كالذي تزرعه فينا الطبيعة ■
صورة تعكس ما تريده الإمارة من نهوض عصري مستفيد من مفردات الماضي
الصورة إذ تحوّل المكان إلى ما يشبه لوحة عامرة بالجمال
...والقلعة إذ نهض الضوء ليشكّلها بألوان الأرض، وتربطها مع مفردات العصر الحديث
الساحة الداخلية للقلعة حيث كانت مركز الحكم، وقلب المدينة
حقول النخيل تكمّل المشهد في البدية، مع لقائها بالجبال المتدرجة لونًا وشموخًا
قلعة دبا الفجيرة، وحوار مع أبجديات الأمس ليسمعها جيل اليوم
متحف الفجيرة... إطلالة الأمس بمفرداته الحميمة
قاعة تضم جانبًا من تفاصيل المكان كما عرفه الإنسان قديمًا وحديثًا
صعودا إلى منطقة «العليين» حيث الشارع المدهش بهندسته
المظلات تتشكل بألوان مختلفة على امتداد مسافة من الشاطئ
يحمل طعومًا ليضعها في «الجرجور» مع بدايات يوم جديد
مفردة الفلسفة كما كتبتها إمارة الفجيرة بحروف بيّنة دالة على ترسيخ حضور الفكر
جامع الشيخ زايد في الفجيرة، تكبيرات الصلوات الخمس بفخامة المعمار