أدب المهجر خصائص وسمات
عاشت سورية ولبنان كأغلب بلدان الشرق العربي في أواخر القرن التاسع عشر ظروفًا سياسية واقتصادية واجتماعية قاسية. وتأثرت الحياة بذلك، وفقد الناس القدرة على التحمل، إذ نضبت موارد العيش وعمّ الفقر والمجاعة، وانتفت شروط العيش الكريم، وجثم الاضطهاد والاستبداد على رقاب العباد، وطال السجن والتعذيب كل من رام التعبير بحرية عن رأيه. وفي مثل هذه الظروف العصيبة عمدت الصفوة من الشباب إلى النزوح ومغادرة البلاد، والهجرة إلى أوطان أخرى تضمن لهم مصادر القوت وأجواء الحرية. وهذا ما فعله كثير من المثقفين، ومنهم الكتاب والشعراء المتوثبين إلى معانقة آفاق رحبة قوامها حرية التعبير والفكر النير والإبداع المنطلق.
اختار أغلب هؤلاء الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل، وهناك بدأوا حياتهم من جديد، وبحثوا عن وسائل عيشهم، وأسسوا حياة ثقافية وإبداعية أثرت إيجابًا على الأدب العربي الحديث. وقد استقر قسم منهم في الولايات المتحدة الأمريكية، بينما فضل آخرون التوجه إلى بلدان أمريكا الجنوبية، وبخاصة البرازيل. وأطلق على الفئة الأولى أدباء المهجر الشمالي وهم الذين أسسوا الرابطة القلمية، بينما أسّس المهجريون الجنوبيون العصبة الأندلسية. ورغم بعد المسافة الجغرافية بينهما فقد ظهرتا في أوقات متزامنة. وأسهمتا معًا في إغناء الأدب العربي الحديث، وكان إبداع أقطابها الشعري والنثري متميزًا بعدة خصائص وسمات ساعدت على تكوين المدرسة المهجرية الأدبية. رغم أن الرابطة القلمية كان لها كبير الأثر على الأدب العربي الحديث بسبب جرأتها على التجديد والابتكار.
الرابطة القلمية
تأسست الرابطة القلمية سنة 1920 بنيويورك، بمبادرة من الأدباء الشبان المتقدين حماسة وغيرة على الأدب العربي شعرًا ونثرًا، وآلوا على أنفسهم أن يتحملوا مسؤولية إخراجه من الجمود الذي طاله عبر قرون، وكان هذا الشعور الذي جمعهم ووحد أهدافهم محفزًا لهم على العمل، فأسسوا الرابطة القلمية في نيويورك. ومنهم جبران خليل جبران وهو عميد الرابطة، إلى جانب أعضاء آخرين منهم ميخائيل نعيمة، ووليم كاتسفليس، وإيليا أبو ماضي، ونسيب عريضة، وعبدالمسيح حداد، ورشيد أيوب، وندرة حداد، ووديع باحوط، وإلياس عطا الله. وكانت جريدة «السائح» التي يملكها عبدالمسيح حداد هي الناطقة بلسان حالهم، وفيها ينشرون إنتاجاتهم الأدبية، وقبلها كانت مجلة «الفنون»، لكنها احتجبت قبل نشوء الرابطة القلمية التي استمرت بأعضائها العشرة، نحو إحدى عشرة سنة، من سنة 1920 إلى سنة 1931، لتنفضّ بعد ذلك، مخلفة إرثاً أدبياً مهماً ومؤثرًا في الأدب العربي تأثيرًا عميقًا.
العصبة الأندلسية
تأسست العصبة الأندلسية سنة 1932 بمدينة ساو باولو بالبرازيل، وتتألف من عدة أعضاء، منهم ميشال معلوف، وداوود شكور، ونظير زيتون، وحبيب مسعود، وشكر الله الجر، وشفيق معلوف، والشاعر القروي رشيد سليم، وغيرهم... وكانت مجلة «العصبة»، منبرهم الذي ينشرون فيه إبداعاتهم، إلى أن توقفت نهائياً عن الصدور سنة 1954 لتخلفها مجلة «المراحل» التي تصدرها السيدة مريانا دعبول فاخوري.
ثورة وتجديد
كان الأدب العربي يسير على خطى القدماء، وكان تقليد كبار الشعراء القدامى هو النهج المتبع، فيكفي تقليد المتنبي وغيره من القدامى لينال المقلِّد شهادة تزكي شاعريته، دون أن تكون له بصمة إبداعية متميزة في اللغة والأسلوب والشكل والمضمون. وقد جاء أدباء المهجر لينسفوا تلك المعادلة، فشقوا طريقهم بجرأة وقوة، وأبدعوا أدباً متحرراً من قيود القديم، فهم يعدون اللغة وسيلة لنقل الأفكار والمعاني، وليست في نظرهم غاية في حد ذاتها، وبذلك استطاعوا تجديد حياة الأدب العربي الحديث، ودفعه إلى التطور والنضج.
وفي هذا الصدد يقول جبران خليل جبران في مقالة نشرتها مجلة الهلال، ع. 1، نوفمبر 1923، ص 20 بعنوان «لكم لغتكم ولي لغتي»، وهو يرد فيها على منتقديه من أنصار القديم ودعاته:
«لكم من اللغة العربيّة ما شئتم، ولي منها ما يُوافق أفكاري وعواطفي.
لكم منها الألفاظ وترتيبها، ولي منها ما تُومئ إليه الألفاظ، ولا تلمسه، ويصبو إليه الترتيب ولا يبلغه.
لكم منها جُثث محنَّطة باردة جامدة، تحسبونها الكلّ بالكلّ، ولي منها أجساد لا قيمة لها بذاتها، بل كل قيمتها بالروح التي تحلّ فيها.
لكم منها محجَّة مقرَّرة مقصودة، ولي منها واسطة متقلِّبة لا أستكفي بها إلا إذا أوصلت ما يختبئ في قلبي إلى القلوب، وما يجول في ضميري إلى الضمائر.
لكم منها قواعدها الحاتمة، وقوانينها اليابسة المحدودة، ولي منها نغمة أُحوِّل رنّاتها ونبراتها وقراراتها إلى ما تثبته رنَّة في الفكر، ونبْرة في الميل، وقرار في الحاسّة.
لكم منها القواميس والمُعْجمات والمُطوَّلات، ولي منها ما غربلتْه الأذن وحفظتْه الذاكرة من كلام مألوف مأنوس، تتداوله ألسنة الناس في أفراحهم وأحزانهم».
الوطن طي الشغاف
وعلى الرغم من اشتراك أدباء المهجر في مكابدة الظروف نفسها، وما تحبل به من معاناة تسمهم جميعًا، فقد كان كل واحد منهم متميزًا بطابعه الشخصي الذي يسِمه ويتفرد به، وقد تجلى ذلك في تعبيرهم عن الحنين إلى الوطن، وهو موضوعة بارزة في شعرهم ونثرهم، يتساوى في ذلك مهجريو الشمال والجنوب، فهم نازحون عن ديارهم، ويحملون أوطانهم بين جوانحهم، بطبيعتها وبساطتها وروحانيتها. ويزداد ذلك الحنين وهم يصطدمون بالمادية الغربية القاسية والحياة الآلية التي لم يألفوها في الشرق، مما جعلهم يعانون من لواعج الغربة والضياع والفراغ، وعن هذا الواقع تعبر هذه الأبيات للشاعر رشيد الخوري:
نصحتك يا نفـــس لا تطعـــمي
وقلت حذار فـــلم تسمعــــــــي
خرجت أجرك جــــر الكـــسيح
تئنين في صـــدري المــــوجع
ولما غدونا بنصـــف الطـريق
رجعت وليتك لم ترجـــــــــعي
التأمل الفلسفي
لقد تميز أدباء المهجر بخاصية التأمل، وبخاصة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي ونسيب عريضة وأمين الريحاني، حيث نجد في أعمالهم انفساحاً للآفاق النفسية وامتداداً للخيال المجنح وتأملًا فلسفيًّا عميقًا للكون وأسراره، فالأدب المهجري يحاول اكتشاف المجهول واستنطاق الأشياء وتعليلها ليصل إلى الحقائق والجواهر. ونقرأ في قصيدة «أيهذا الشاكي» لشاعر التفاؤل إيليا أبي ماضي، وهي دعوة الإنسان إلى التأمل في جمال الوجود، وعتاب له على الشكوى والتذمر، وتجاهل بدائع الجمال ورحابة روعة الحياة:
أَيُّهَذا الشاكـــــــــــي وَما بِكَ داءٌ
كَيفَ تَغدو إِذا غَدَوتَ عَلـــــــــــيلا
إِنَّ شَرَّ الجُـــناةِ في الأَرضِ نَفسٌ
تَتَوَقّى قَبلَ الرَحــــــيلِ الرَحــــــيلا
وَتَرى الشَوكَ في الوُرودِ وَتَعمى
أَن تَرى فَوقَها النَـــــدى إِكليـــــــلا
وَالَّذي نَفسُهُ بِغَيرِ جَمــــــــــــــالٍ
لا يَرى في الوُجـــــودِ شَيئاً جَمـيلا
فَتَمَتَّع بِالصُبـــــــــحِ ما دُمتَ فيهِ
لا تَخَــــف أَن يَزولَ حَتـــــّى يَزولا
الإنسان والطبيعة
يتسم أدب المهجر برحابة نزعته الإنسانية. وفي هذا يقول جبران خليل جبران في كتابه «دمعة وابتسامة»: «أنت أخي، وكلانا ابن روح واحد قدوس كلي... وأنت رفيقي على طريق الحياة، ومسعفي في إدراك كنه الحقيقة المستترة وراء الغيوم.. أنت إنسان، وقد أحببتك، وأحبك يا أخي.. خذ مني ما شئت، فلست بسالب غير مالٍ لك الحق بقسم منه، وعقار استأثرت به لمطامعي، فأنت خليق ببعضه إن كان يرضيك بعضه. أنت أخي وأنا أحبك».
وتتماهى تلك النزعة الإنسانية في أدب المهجر مع الطبيعة التي يعدونها كائناً حياً يتمثلونه ويناجونه، ويبثونه آمالهم وآلامهم، فالطبيعة لديهم تفرح وتحزن، وتحب وتكره، وتسعد وتشقى.
والمطلع على الأدب المهجري سيلاحظ أن الطبيعة بكل مظاهرها حاضرة فيه بقوة. فلنتمعن في هذه الأبيات المقتطفة من قصيدة «النهر المتجمد» لميخائيل نعيمة التي يخاطب فيها نهرًا تجمدت مياهه بفعل صقيع الشتاء:
يا نهرُ، هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخرير؟
أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المــسير؟
بالأمسِ كنتَ مرنّماً بين الحدائــــــــــقِ والزهور
تتلو على الدنيا وما فيها أحــــــــــــاديثَ الدهور
ها حولكَ الصفـــــصافُ لا ورقٌ عليه ولا جمال
يجثو كئيباً كلما مرَّتْ بهِ ريحُ الشــــــــــــــــمال
والحَوْرُ يندُبُ فوق رأسِكَ ناثراً أغصــــــــــــانَه
لا يسرح الحسُّونُ فيهِ مردِّداً ألــــــــــــــــــحانَه
لكن سينصرف الشتا، وتعود أيامُ الربـــــــــــيع
فتفكّ جسمكَ من عِقَالٍ مَكَّنَتْهُ يدُ الصـــــــــــقيع
وتكرّ موجتُكَ النقيةُ حُرَّةً نحوَ البِحَــــــــــــــــار
حُبلى بأسرارِ الدجى، ثَــــمْلَى بأنوارِ النــــــــهار
وتعود تبسمُ إذ يلاطف وجهَكَ الصافي النـســيم
إن رقة اللغة والغنائية التي تطبع إنتاجات المهجريين، تقف في تحد صارم أمام تيار البعث والإحياء الذي يتنافس أدباؤه ويتبارون في مجال الجزالة اللفظية والقوالب الشعرية القديمة، واستعراض القدرات العروضية واللغوية، إذ كان شعراء المهجر يبدعون شعرًا رقيقًا بعيدًا عن التكلف والتصنع، فهم يرون أن البساطة والرقة والغنائية هي عماد الجمال في الشعر وفي الفن. وتتحقق لهم هذه الغاية باعتمادهم على جمال الوصف والتصوير، وبعنايتهم بالصورة الشعرية لإدهاش القارئ بعمق الإحساس وخصب الخيال ■