البوتكس الرقمي في فيلم «هُنا»
في الفيلم الجديد لروبرت زيمكس (هُنا Here 2024) يلعب الممثلان توم هانكس (67 عامًا) في دور رتشارد يونج، وروبن رايت (57 عامًا) في دور مارجريت، أدوارًا متعددة الأعمار من المراهقة وحتى شيخوخة أواخر العمر. قصة الفيلم مقتبسة من الرواية المصورة لرتشارد ماكجواير، وتدور في مكان واحد، هو منزل خاص بعينه، وتستعرض حيوات عدة أجيال من الذين قطنوا المكان عبر مئات السنين.
جامع المعاني
في الحقيقة، القصة نفسها لا تحمل معان تستحق مصارعتها، بل رأيناها تحاول ادعاء الحكمة التي نجدها في الحكايات الرعوية، أو أفلام والت دزني القديمة. ورغم ذلك، روج صناع الفيلم للمعاني التي يطرحها بأنها: المرح، والأمل، والفقد، والحب، والحياة، والسعادة. وهو ما يشجعنا على القول بإنه فيلم عن لا شيء يستحق، لأننا نعلم أن صانع الفيلم حين لا يكون لديه ما يقوله يحاول الهرب إلى الأمام وادعاء التعاطي مع العديد من القيم والمعاني الكبرى. غسيل سمعة. كان جرير مشهودًا له بالبراعة في الهجاء، وخصوصًا الهجاء الفاحش اللئيم، لكنه كان يسكت عن قوم يؤذونه من رعاة الغنم يُقال لهم التَيْم، فسأله ابنه حَجْناء ذات يوم: يا أبتِ، ما هجوت قومًا قط إلا فضحتهم إلا التَيْم! فرد جرير: يا بني، لم أجد بناءً أهدمه ولا شرفًا أضعه.
كان الدافع لدى صانع فيلم (هنا) هو استعراض التقنية الجديدة ليس إلا، ففصَّل لها موضوعًا يناسبها ويناسبه في التجول بحرية عبر الزمن واستباحته، ويحق لنا توقع أن أغلب الجمهور الذي سيدخل لمشاهدة الفيلم سيكون مدفوعًا بالتطلع لمشاهدة التقنية الرقمية الجديدة التي استطاعت تصغير عمري توم هانكس وروبن رايت، ولعل الكثيرين أيضًا سيكونون مدفوعين بمشاعر الحنين إلى استرجاع ذكرياتهم ومشاعرهم، حين شاهدوا نجميهما المحبوبين أيام شبابهما، ومن الجدير بالملاحظة أن صُناع الفيلم قد حرصوا على أن يتم تقييمه ضمن فئة PG-13، لكي يكون صالحًا للفرجة للأطفال أيضًا، فاستبعدوا الشتائم من الحوارات، والعري وخلافه، بل وحرصوا على عدم تدخين الشخصيات للسجائر إلا نادرًا، جلبًا للمزيد من الأطفال.
تثبيت أكتاف رقمي
لكن لعل أهم ما يستوجب الوقوف عنده في فيلم (هُنا) هو تقنية الذكاء الاصطناعي الجديدة التي استعان بها زيمكس في تصغير عمري توم هانكس وروبن رايت؛ هي تقنية تُسمى الميتافيزك MetaphysicLive، وهي من آخر ابتكارات الذكاء الاصطناعي التي تطبق في السينما لأول مرة، بالرغم من وجود بذور لها من أيام فيلم زيمكس نفسه (القطار القطبي السريع، 2004م)، وفيلم (رجال إكس: الوقفة الأخيرة، 2006م)، وفي الفيلم الأخير قام صانعو المؤثرات البصرية الرقمية بتصغير عمر كل من باترك ستيوارت وإيان ماكلين بطريقة رقمية يدوية؛ حيث قاموا بمجهود أسطوري في تعديل كل بكسل في وجهيهما، بكسلًا بكسلًا، في كل كادر من كادرات كل ثانية من لقطات الماضي (الثانية الواحدة على شاشة السينما = 24 كادرًا)، ولا ندري رأيك إن كنت قد شاهدت (رجال إكس)، لكن بالنسبة لنا كانت لقطات الممثلين في الماضي منفرة، أقرب إلى مظهر الآليين في أفلام الفضاء والمستقبل البعيد.
واستخدمت بذور هذه التقنية أيضًا في فيلم (الحالة المحيرة لبنجامِن بتن، 2008م)، ثم شاع استخدامها بعد ذلك في الأفلام في تصغير عمر الشخصيات رقميًا، بل واستعان بها مارتن سكوسيزي في فيلم (الأيرلندي، 2019م)، وبالرغم من الحرفية المطلقة لروبرت دينيرو في فن التمثيل، إلا أن ثقل حركته وبطئها كان واضحًا لنا في مشاهده وهو صغير، بسبب تقدمه في العمر، وهو الشيء الذي يستعصي على أي ممثل الهروب منه وإن بلغت حرفيته حد الكمال.
الزمن
هو إذن تطور في الشدة لا في النوعية؛ تسارع نحو الوصول إلى صنع فيلم كامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، أي تحقيق الحلم الذي راود هتشكوك، ملك الصنعة، بأن تخترع شركة IBM جهازًا يمكن أن ُندخل فيه السيناريو من جهة فيخرج لنا الفيلم كاملًا من الجهة الأخرى، وظننا أن هتشكوك كان يسخر في حواره الطويل الماراثوني مع تروفو، فهو لم يكن ملك الصنعة في السينما فقط، بل أيضًا ملك السخرية الباردة على الطريقة الإنجليزية.
ينتقل فيلم (هُنا) من الماضي البعيد إلى المستقبل البعيد وما بينهما، والانتقال عبر الزمن ليس جديدًا على هوليوود، ولا على زيمكس نفسه، وطالما تعامل كليهما مع الزمن باستخفاف لا يليق بالعنصر الذي يظل الأكثر غموضًا ومهابة لدى الإنسان، فزيمكس الذي صنع ثلاثية (العودة للمستقبل)، يستعطي على الزمن من جديد في (هُنا)، الذي يتضمن إعلانه الترويجي عبارة «روبرت زيمكس في رحلة سينمائية عبر الزمن».
البوتكس الرقمي
تقنية تصغير العمر رقميًا هذه أطلق عليها عدد من النقاد البصراء «البوتكس الرقمي» أو «البوتكس الإلكتروني». مع البوتكس الرقمي ستبدأ السينما في تجاوز الفن، تجاوزًا سيختفي معه حتى الفتات الفني الذي نراه في بعض الأحيان، وعلى استحياء، في الأفلام الشعبية التي تدخل في إطار صناعة التسلية. بتعبيرات الأقدمين: ستتجاوز السينما المطبوع (أي الذي على الفطرة ورأسماله الخيال الصرف) إلى المُوَّلد (أي المُتكلِّف المُعقَّد الذي يُصنع صناعة). ولعلها إشارة موحية حين قامت الشركة المنتجة للفيلم؛ سوني، بتعيين مبتكر تقنية الميتافيزك؛ كريس أوم، في وظيفة المشرف على الفيلم. أدلى كريس أوم أخيرًا بتصريح لصحيفة هوليوود ريبورتر قال فيه: «فيلم (هُنا) يوضح مقدرة تقنية ما فوق الواقع على إعادة تشكيل صناعة التسلية». الفيلم إذن يدشن مرحلة جديدة في صناعة السينما، ويحق لنا أن نردد شعار آل ستارك في (لعبة العروش): «الشتاء قادم»، بل لعل «الليلة الطويلة» قد بدأت بالفعل.
سيكون البوتكس الرقمي متاحًا للجميع عما قريب، وسيكون في سهولة اجراء عمليات البوتكس العادية، التي لم تعد تتطلب طبيبًا مؤهلًا لإجراء عملية الحقن، بل تتم حاليًا في أي مكان، حتى في الأقبية المظلمة، وعلى أيدي جهلة ومدعين، وسيصبح البوتكس الرقمي مثله مثل أي عنصر أو أداة أخرى في فن المكياج السينمائي؛ كالأصباغ وباروكات الشعر واللحى المستعارة، وحين يحدث هذا ستكون عواقبه وخيمة على السينما العربية، وخصوصًا المصرية، لأننا نعلم استبداد نجومنا وتوقهم للاستحواذ على الفيلم من قرنه إلى قدمه، وما كان يدعونا للضحك حين كنا نشاهد بعض النجوم وهم يؤدون أدوار طلبة الجامعات وهم في أربعينياتهم وخمسينياتهم، بات الآن متاحًا سهلًا وزال الحرج ورُفع العتب وانتفى سبب السخرية، بل وربما يتم تفصيل موضوعات على مقاس التقنية الجديدة تسمح للنجوم بلعب أدوار شخصيات متعددة الأعمار ما حلى لهم.
أنواع البدل
لماذا نقول عواقب وخيمة ولا نقول فرصة متاحة؟ لأننا لم نشهد حتى الآن استخدام تقنيات تصغير العمر الرقمية كعنصر فعال في السرد الدرامي (باستثناء فيلم «الحالة المحيرة لبنجامِن بتن»)، بل ما رأيناه هو كيف تقوم الأداة الرقمية باستخدام صانع السينما لا العكس، فلو أحببنا إسناد دور شخصية وهي صغيرة لممثل آخر أصغر فعلًا لربما كانت النتيجة الفنية أقوى جماليًا؛ دليلنا على هذا الأداء العظيم لروبرت دينيرو في (الأب الروحي، الجزء الثاني، 1974م) حين لعب دور فيتو كورليوني شابًا (أدى الشخصية كهلًا مارلون براندو). والأداء الممتاز لسكوت تايلر عندما لعب دور نودلز في سن المراهقة (أدى الشخصية روبرت دينيرو) في فيلم (حدث ذات مرة في أميركا، 1984م). وريفر فينكس في دور إنديانا جونز صغيرًا (لعب الشخصية هاريسون فورد) في فيلم (إنديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة، 1989م). وخوان منويخن في دور البابا فرانسيس وهو صغير (لعب جوناثان برايس دور البابا فرانسيس) في فيلم (الباباوان، 2019م). ومسلسل (التاج، 2016-2023م) الذي لعبت فيه دور الملكة إليزابث الثانية كشابة كلير فوي، ثم أوليفيا كولمان في السن الأكبر، ثم إيميلدا ستونتون في مرحلة الشيخوخة. وكذا، وكذا، وكثير غيرها.
ابتزاز حالة الحنين لدى أهل الفرجة لا يقتصر على استدعاء الحالة الشبابية لدى النجوم الذين أحبهم العامة على مدار عقود ونشأوا على مشاهدة أعمالهم، بل هو واضح ظاهر بين حتى في الإعلان الترويجي للفيلم https://www.youtube.com/watchv=s36jgUrZiLY، الذي يستدعي صراحة فيلم (فورست جَمب، 1994م) الذي جمع قبل ثلاثة عقود بين زيمكس وهانكس ورايت.
المفعول لأجله
في منتصف يوليو 2023م، انضمت نقابة الممثلين الأميركيين (ساج أفترا) إلى الاضراب الذي بدأه كتاب السيناريو في هوليوود في مايو من نفس العام، والذي شل هوليوود لعدة أشهر وكبدها خسائر بالمليارات، وفي حين كانت مطالب كتاب السيناريو تتركز على زيادة أجورهم، خصوصًا في منصات العرض الكوكبية مثل نتفلكس وأمازون وهولو وآبل، كان أحد الأسباب الأساسية لإضراب الممثلين هي خشيتهم من أن يتم استنساخ صورهم وأصواتهم بتقنية الذكاء الاصطناعي في مساعي استديوهات هوليوود لإنتاج أعمال فنية يظهر فيها الفنانون بعد موتهم.
كان توم هانكس من أشد المتحمسين من النجوم الكبار للاضراب، وصرح لعدة صحف وقنوات إخبارية برفضه أن تقوم شركات الإنتاج باستغلال صورته أو صوته في صنع أفلام ومسلسلات بعد موته، ثم وجدناه اليوم يصرح بما يناقض هذا مناقضة تامة؛ إذ أبدى في الفترة الأخيرة سعادته بأن تقوم استديوهات هوليوود باستغلال صورته وصوته في صنع أعمال فنية بعد وفاته، حتى إنه قال حرفيًا في بودكاست للممثل آدم باكستون في 13 مايو 2024م:
- «يمكن لأي شخص الآن أن يعيد خلق نفسه في أي عمر باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي أو التزييف العميق، قد يصدمني باص غدًا وتنتهي حياتي، ومع هذا يمكن أن تستمر الأعمال الفنية الجديدة التي أظهر بها إلى الأبد، يمكنني الظهور في أفلام بعد وفاتي بتقنية الذكاء الاصطناعي، أثناء العمل في فيلم (هنا) أدركنا، زيمكس وأنا، أن هذه الحيل الرقمية لا يوجد ما لا يمكن أن تفعله».
بعد التوصل إلى تسويات مالية مرضية للنجوم المعارضين لاستنساخ صورهم بعد وفاتهم، أصدر العديد منهم تصريحات من قبيل: «المثابرة تؤتي ثمارها»، أو «نحن سعداء لأننا توصلنا جميعًا إلى اتفاق عادل»؛ والقصد بالثمار وبالاتفاق العادل اتفاق التسوية الذي توصلت إليه نقابة الممثلين مع تحالف منتجي الأعمال السينمائية والتلفزيونية (AMPTP) الذي مثل الاستديوهات الكبرى في هوليوود، والذي يتضمن في بنوده نصًا يحدد الأجور المالية المستحقة لورثة النجوم في حال استنساخ صورهم بعد وفاتهم، فالمسألة إذن لم تكن رفضًا للمبدأ، لكنها كانت مساومة على المال ورغبة في حصة من كعكة الاستنساخ الرقمي، ولعله لهذا انتقل توم هانكس، في أقل من عام واحد، من أقصى معسكر الرافضين إلى أقصى معسكر المؤيدين، فنحن نعلم أنه لا توجد مشكلة في عالم اليوم لا يستطيع بنجامين فرانكلين حلها ■