الطهي في العصر الرقمي
من محاسن عصرنا الرقمي ما ينعم به معظمنا من فرص تعلم طهي وتحضير أطباق لذيذة وصحية ومستدامة من مختلف الثقافات، على يد طهاة عالميين محترفين، ومن مؤثرين عاشقين للمطبخ، بل ومن أطباء متخصصين في طب الطهي - علم بيني جديد يجمع ما بين فنون الطبخ والطب - إضافة إلى ما تقدمه كتب الطهي الرقمية المزودة بصور ملونة جذابة وروابط معلومات وفيديوهات توضيحية مثيرة للحماس. وذلك بمساندة نظم تسوق رقمية، وتطبيقات متنوعة تمكننا من الحصول على جميع ما نحتاج من مكونات أطباقنا ووصفاتنا، في وقت قياسي، ودون مغادرة البيت.
وإن كنا من بين المحظوظين ستكون في مطابخنا أدوات وأجهزة ذكية تساعدنا على إنجاز مهام الطبخ بيسر وبسرعة وبمتعة كبرى، لتكون النتيجة فخر بالإنجاز، وتقليل من التكلفة، وصحة أفضل، لأن وجبات المنزل غالبًا ما تجعلنا نتناول سعرات حرارية أقل، ومكونات طازجة، ونكون أكثر قدرة على التحكم بما يدخل أجسامنا.
طب الطهي
يوجد على منصات التواصل الاجتماعي دروس من مطابخ تعليمية بمراكز طبية مرموقة يتبع بعضها جامعات، تشرح كيفية إعداد وجبات صحية لمخاطبة أمراض معينة، أو لعموم الناس ممن يحرصون على تحسين صحتهم. وذلك بعد أن استحدثت عديد من كليات الطب برامج لطب الطهي على أثر دراسات بينت دور الطعام في تحسين الصحة وعلاج الأمراض والوقاية منها. وساعدت عوامل على تعزيز هذه البرامج ونشرها، كالشعور بالإحباط من نتائج العلاجات التقليدية، وارتفاع تكلفة الرعاية الصحية، وظهور حركات وكيانات مناصرة للغذاء العضوي، والشراء من أسواق المزارعين، وتأسيس الحدائق المنزلية، في إطار التصدي لظاهرة تزايد أعداد من يتناولون الأطعمة غير الصحية، فعلى سبيل المثال، أشار تقرير لجمعية فرنسية معنية بالفاكهة والخضر الطازجة إلى انخفاض تناولهما وارتفاع الإقبال على الوجبات الجاهزة بين الفرنسيين في 2021.
هذا، وساهم هذا التخصص في مساعدة الأطباء والأفراد على اتخاذ قرارات طبية متصلة بنوع الطعام الذي يتعين تناوله، وفقًا لحالة كل شخص، وحسب سياق الثقافة التي يعيشها وما يفضله من مذاقات، وما يستمتع بتنفيذه من وصفات، حيث تدور المعلومات المقدمة حول أنماط تناول الغذاء الصحي، وكيفية شرائه، وتخزينه، وإعداده. وجميع ما يلزم لرعاية الشخص لصحته عن طريق التغذية، وتحضير الوجبات اللذيذة؛ إضافة إلى قائمة من النصائح والإرشادات ذات العلاقة، كتجنب الأطعمة الثقيلة المعالجة، وتناول الحبوب الكاملة، والملح الخفيف لمرضى ضغط الدم المرتفع. وتفضيل الأسماك المحتوية على مستويات مرتفعة من أوميغا 3 والأحماض الدهنية مثل السلمون لمرضى القلب والأوعية الدموية، أو تناول زيت الزيتون مع الطماطم لزيادة معدل امتصاص المغذيات، أو تناول الحليب والعسل للمصابين بالسعال.
ووفقًا لدراسة ألمانية استهدفت دارسين لمقرر اختياري في طب الطهي من طلاب طب جامعات غوتنغن وجيسن وبراندنبورغ، حسن حضور المقرر من قدرات المشاركين على تقديم الإرشاد الخاص بالتغذية، وعمق معرفة موضوعات طبية متصلة بالتغذية وعادات تناول الطعام، وأساليب الحياة، والسلامة العقلية، بعد مقدمة قصيرة في الموضوع، وطهي تفاعلي عملي ركز على أهمية النظام الغذائي لكل فئة من فئات المرضى، سواء بالنسبة للحاضرين بصورة مباشرة في المطبخ التعليمي، أو افتراضيًا باستخدام تقنية الفيديو كونفرنس، والتطبيق في مطابخ المنازل.
مؤثرون وتكنولوجيا
تتجاوز منصات ومواقع أخرى تقديم الوصفات وشرح طرق تحضير الأطباق الصحية وعرض صورها المبهرة، إلى الترويج لكل ذلك عبر حكايات ورحلات ومغامرات في أماكن ذات تضاريس طبيعية خلابة ولقاءات مع متخصصين وأشخاص محليين وعالميين يكشفون للمتابعين أسرار براعتهم في الطهي. ويساعدون الناس على تخطيط وجباتهم بلا هدر للموارد، حيث يمكن اقتراح أطباق مما يتوفر من المكونات، أو من بقايا مكونات وجبات سابقة. ويستثار الحماس من خلال التواصل والتفاعل وعرض التجارب الناجحة والدروس المستفادة، وتقديم عروض ترويجية لسلع وخدمات لمكافئة المشاركين. كما يشجع البعض الممارسات المستدامة كالشراء الرقمي لفائض وجبات المطاعم والمحلات بتخفيضات كبيرة للتقليل من الهدر، والتسوق المجتمعي، كأن يشتري المستخدم مكونات وجباته من محل قريب، ويشارك وصفاته على الخط ليشجع الآخرين في المجتمع على محاكاته. ولا يعزز هذا التجديد خبرة التسوق فحسب، بل يصيغ وعيًا خاصًا بطريقة التعامل مع الطعام بشكل يحترم الذوق والكوكب في الوقت نفسه، تحت شعارات مستدامة مثل «من المزرعة إلى المائدة». فحسب مسح أجري مؤخرًا، 97 في المئة من المشاركين جربوا وصفات شاهدوها عبر الإنترنت، و77 في المئة قالوا إنها حسنت من مهاراتهم في الطبخ والخبز. وأكدت غالبية المشاركين في مسح آخر أنهم قد استخدموا مكونات جديدة لتنفيذ بعض الوصفات، وتعلموا عبر الإنترنت ما لم يتعلموا في بيوتهم من مهارات الطبخ.
من ناحية أخرى، يسعى المطورون في مجال تكنولوجيا المطابخ إلى التجديد والتحديث لتسهيل مهمة الطهي ورفع كفاءتها والتقليل من أخطاء العمل اليدوي وتأكيد سبل السلامة وسبل ترشيد استهلاك الطاقة والماء وخفض البصمة الكربونية؛ إلى جانب تعزيز المهارات وتغيير سلوكيات الشراء، وذلك عبر شخصنة عملية التسوق بمساعدة الذكاء الاصطناعي، الذي يمكن أن يعد قوائم التسوق وفقًا للمشتريات السابقة والتفضيلات الغذائية والتحليلات التنبؤية فيقترح العناصر التي يحتمل أن يحتاجها المرء. فتستطيع الثلاجات الذكية، كمثال، تتبع تواريخ انتهاء الصلاحية على المكونات الموجودة فيها، وتقترح وصفات تقوم عليها لتفادي هدرها، ثم تعيد طلب المواد الغذائية الأساسية - كالحليب والجبن والبيض والخضراوات - عبر تطبيق ما بشكل تلقائي قبل نفاذها. وتلوح في الأفق سبل توصيل مبتكرة وفائقة السرعة كالطائرات دون طيار، والمركبات ذاتية القيادة - وتتولى أجهزة أخرى- أو الروبوت المساعد - عمليات العجن، والخبز، والتقطيع، والخلط، والطبخ، وغسل الأواني، وصناعة القهوة، وسواها، باستخدام تقنيات مثل الواي فاي، والبلوتوث، وتقنية الاتصالات القريبة من المجال NFC، التي تسمح بنقل جزء من البيانات من جهاز لآخر عن قرب، كما هي الحال بالنسبة للبطاقات اللاتلامسية.
وتراقب أجهزة الاستشعار والإنذار الذكية المطبخ، فتميز أجهزة الكشف عن أدخنة بين بخار الطبخ ودخان الحريق؛ وترصد أجهزة تسرب الغاز، إن وجد، وتغلق النظم في حالات الطوارئ. وتشغل أنظمة الرش لإخماد الحريق - لا قدر الله - تلقائيًا، وغير ذلك من الإجراءات الاستباقية. ولتفادي تلف الطعام، أو أخطار أخرى محتملة، تنبه بعض الأجهزة أصحاب المنزل إلى وجود أبواب أفران غير محكمة الإغلاق، أو ثلاجات مفتوحة، حتى عندما يكونون في الخارج، عبر تطبيق على الهاتف المحمول. ومن الأدوات الدقيقة ما يتحكم بدرجة حرارة الطبخ المطلوبة، ويقوم بتقطيع الموارد بالحجم المناسب، بحيث لا يكون هناك محروق أو فائض.
ومن مكونات المطبخ الرقمي، صندوق التسميد الذي يحول فضلات المطبخ - كبقايا القهوة وقشور الخضر والفاكهة - إلى مغذيات غنية للتربة، فيغلق حلقة المخلفات بلمسة زر. وغير ذلك الكثير من أواني الطبخ المعجلة لتوصيل الحرارة والمانعة للالتصاق، ومتعددة الاستخدام، كتلك القابلة للاستخدام داخل الفرن وعلى المائدة، وللتخزين في الثلاجة. وتجهيزات الاستماع للموسيقى ومتابعة الأخبار أو الدراما أثناء تناول الوجبات مع أفراد العائلة والأصدقاء.
المطابخ السحابية
ساهم التطور التكنولوجي في تغيير جوانب عديدة من المجتمع، فغير عادات الاستهلاك، ومكن صناعات غذائية بما في ذلك خدمات الطعام، ولا سيما أثناء مرور العالم بجائحة كورونا، حيث ظهر مفهوم المطابخ السحابية أو الافتراضية، التي غيرت نماذج الأعمال في قطاع المطاعم وخلقت فرصًا قدرت بتريليون دولار عالميًا حتى 2023. فهي
مطابخ مصممة لتحضير الطعام وبيعه للمستهلكين عبر مواقع إلكترونية وتطبيقات على الهواتف الذكية أو مكالمات، بمساعدة طرف ثالث يقوم بخدمة التوصيل؛ بينما تتفاعل المطابخ الافتراضية مع الناس عن طريق وسائل للتواصل الاجتماعي يقدم بعضها معلومات حول مفهوم هذا النوع من المطابخ المبتكرة، ويعرض صورًا وتسجيلات مباشرة وغير مباشرة لكيفية إعداد الوجبات الصحية، ثم تتلقى التعليقات والمقترحات التي تبين احتياجات المستخدمين. ويمكن لمشغلي المطبخ استخدام أدوات ذكية وقائمة على التعلم الآلي لاقتراح خيارات على قائمة المطبخ وفقًا لسلوك شراء المستهلكين السابق.
وقد أتاحت هذه المطابخ مزيدًا من فرص العمل لرواد الأعمال من شباب الطهاة والهواة، المتخصص بعضهم في الوجبات الصحية، والمصورين المبدعين، والمسوقين، والمروجين للعلامات التجارية، وغيرهم ممن يعملون على مضاعفة ثقة المستهلكين، ولعب دور في توسيع مجال المشاركة بين مختلف الأجيال. فوفقًا لمسح بريطاني، أجري منذ سنوات، شارك شخص من كل خمسة بصور طعام له في الشهر السابق للمسح.
وفي خاتمة المطاف، يبقى تناول الطعام أمرًا ضروريًا لنا جميعًا، ويبقى الطهي فنًا رائعًا. ونحن من نقرر هل نكتفي بالمتابعة والاستهلاك كيفما اتفق، أم نصبح فنانين أنفسنا، ونتمتع بوعي ومهارات، ونبحث بشغف عن الجديد المفيد، ونمتع الآخرين بأفضل وألذ المتاح في عالم الطهي ■