البيئة المعطبة للطفولة  (اغتيال موزار)

البيئة المعطبة للطفولة  (اغتيال موزار)

خلف بعض الأدباء أعمالًا أدبية رائعة مؤثرة في تاريخ الثقافة، حظيت منذ صدورها باحتفاء القراء والنقاد، هذه المصنفات المهمة عدت مصادر تربوية تعليمية للأخلاق والمعرفة، تسهم في نشر القيم الإنسانية النبيلة، وتعليـــم القـراء الحكمة وتهذيب ذوقهم الفني الجمالي.  ومن بين هذه الأعمال يرد اسم رواية «أرض البشر» التي ألفها أنطوان دي سانت إكزوبري، وصدرت عام 1939، وأهلته لنيل الجائزة الكبرى للرواية التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية، والرواية إضافة مهمة إلى رصيده الإبداعي الذي يضم كتبًا ثمينة جداً، منها قصته الفلسفية «الأمير الصغير» ورواية «طيران الليل»، و«رسالة إلى رهينة»، وأعمالاً أخرى يضيق المجال بذكرها، أنجزها خلال حياته القصيرة التي انتهت عام 1944م.

 

المؤلف أنطوان دي سانت إكزوبري: كاتب وطيار فرنسي. ولد في مدينة ليون في التاسع والعشرين من يونيو حزيران عام 1900، وفقد والده وهو في الرابعة من عمره، فنشأ في كنف عائلة أرستقراطية. ما مكنه من أن يعيش طفولة سعيدة على الرغم من يتمه المبكر. 
في 1926 تم تعيينه طيارا، مكلفا بنقل البريد الجوي بين دول العالم، الأمر الذي أتاح له فرصة ثمينة للرحلة إلى ربوع العالم واكتشاف كوكب الأرض. 
وفرت لـه الطائرة الفرصة لقراءة العالم الخارجي واكتشاف كوكب الأرض، والتأمل الانفرادي بالوجود الإنساني، ومكنته، في الوقت نفسه، من إقامة علاقات متينة، مع أناس من مختلف الأعراق والثقافات والقارات، حتى غيابه المفاجئ يوم 31 يوليو 1944.

أرض البشر
«أرض البشر» تعد من بين أفضل كتب المغامرات والرحلات في التاريخ، تتألف من مذكرات يوثق فيها المؤلف جانباً من حياته كطيار، والأحداث اليومية التي عاشها، مطبوعة بروح المغامرة، والرغبة في اكتشاف العالم، وعلاقاته برفاق المهنة، وبمواطنيه، وسائر الناس الذين التقاهم في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء وأميركا اللاتينية، فجاءت الرواية مجسدة للمشاعر الإنسانية في مواجهة الموت والضياع، واليأس والأمل، والمحبة والصداقة، والسعادة والشقاء، وغير ذلك من المشاعر القوية. مشيدا بقيمة العلاقات الإنسانية التي تتأسس في جو من الحرية والتقدير المتبادل.
وفي الرواية يلفت النظر إلى مخاطر تحقير الإنسان وتبخيسه، ولمساوئ حرمان الناس من أسباب الارتقاء الاجتماعي، ويخصص الفصل الأخير منها للحديث عن مخاطر إهمال مواهب وقدرات ومهارات الأطفال، هذا الحرمان، خاصة عندما يكون في فترة الطفولة، ويغلق في وجه الأطفال أبواب التعلم والتربية الملائمة، يخلق بيئة معطبة، تدمر كل عبقرية كامنة فيهم، شبهها المؤلف باغتيال «موزار».

اغتيال موزار
ختم المؤلف روايته بتأمل إنساني جميل سجل فيه مشاهدته أثناء امتطائه القطار، رفقة عدد من المهاجرين البولونيين البؤساء العائدين إلى بلادهم، في ظل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا في الثلاثينيات من القرن العشرين.
فعلى متن القطار، الذي يختلط بالمهاجرين البولنديين الذين يتجمعون في الدرجة الثالثة الرخيصة، في طريقهم إلى مصير مجهول ينتظرهم  بعد تسريحهم من العمل، يلفت انتباه المؤلف  طفل جميل فقير ممتلئ بالوعود: كان الطفل يرضع من أمه المنهكة الغافية، أما الأب فكان لا يبدو منه سوى جمجمة ثقيلة مثل صخرة، فوق جسد شوهته النتوءات والحفر، مثقل بلباس العمل الخشن، فكان شبيهًا بكومة صلصال.
يضيف المؤلف موضحا بأن المشكل ليس في فقرهما ولا في القذارة التي يعيشان فيها، ولا في البشاعة التي يبدوان عليها، لاشك أن الرجل التقى ذات يوم في شبابه بالمرأة، فأعجب بها وتعارفا، وكانا مفعمين بالحياة، مليئين بالأمل، ينطقان بمحبة الحياة، فما هو يا ترى السبب الذي جعل هذين الشخصين أصبحا اليوم مثل صرتين من الصلصال، وفي أي قالب شنيع مرّ جسداهما حتى ترك فيهما هذه الآثار؟ فلماذا يفسد هذا الصلصال البشري الجميل؟
الطفل خلال سباته، استدار بوجهه، فكشف ضوء المصباح عن وجه آسر بسحر جماله، فهذان الزوجان الصلصاليان الجامدان المتلفعان بأسمالهما الخشنة أنجبا ثمرة ذهبية تنتصر للجمال والفتنة والإشراق. رنا المؤلف نحو جبين الصبي الناعم، فلمح فيه وجه الموسيقي موزار حين كان طفلا، فعده أجمل هدية تقدمها الحياة، وتساءل، عما سيؤول إليه مصير هذا الطفل لو وجد العناية، وحظي بالرعاية، وتلقى الحماية والتثقيف؟
يضرب المؤلف مثلا لذلك بميلاد زهرة في حديقة ما، فما أن يتفتح البرعم حتى يهرع نحوه كل البستانيين، فيعزلون الزهرة لحمايتها، ويعنون بها، ويخصونها بالرعاية حتى تنمو وتنضج وتضفي بهاءها على الحديقة. لكن يستدرك متأسفا بأنه ليس كل الناس يحظون بالبستاني الذي يرعاهم. فالمجتمع الفقير الموبوء سوف يقولب موزار الكامن في هذا الطفل، كما يفعل بكل الناس، وبدل الإبداع الموسيقي فإن الطفل الذي كان مشروع موزار، سيجد متعته كسائر الناس في الموسيقى الرتيبة المنتشرة في المقاهي الشعبية السيئة، إن موزار الذي يولد في مثل هذه الأوساط محكوم عليه بالموت.
يتأسف المؤلف معربا أن قلقه الوجودي بسبب هذا الإهمال، والظروف السيئة، فالأمر لا يهدد أشخاصا بذاتهم، بل يهدد ويضر الجنس البشري بأكمله، فالناس قد اعتادوا على ظروف حياتهم، فلا يعون بؤسهم، ولا القبح الذي يعيشون فيه، وقتل موزار الكامن في الأطفال يديم هذا الوضع السيء، ولا يسمح للناس بالتحرر منه. وختم الفصل والرواية بقوله: «وحدها الروح إذا نفخت في الصلصال، تستطيع أن تخلق إنسانا».

أزهار تحتاج الرعاية
انطلق أنطوان من الحديث عن العمال البولنديين الفقراء، الذين يعانون فقرا مزدوجا، ماديا وروحيا، أجسادهم تشوهها النتوءات والحفر حتى فقدت إنسانيتها وأصبحت مجرد كومة من الصلصال. يتساءل المؤلف عن سبب فساد الصلصال البشري الجميل، وأعاده إلى طبيعته الأولى: كتلة جامدة فاقدة كل روح إنسانية.
يلمح المؤلف إلى المسؤولية المباشرة للرأسمالية  المتوحشة التي سلعت كل شيء، أسرت الإنسانية، وكبلتها، وأفقدتها صفتها وأعادتها إلى أصلها الصلصالي الميت، ومحت كل أثر لنفخة الروح فيه، فلم يعد الإنسان اليوم «سوى آلة للحفر أو الطرق». فالإغراق في الآلية، وطغيان المادية  حالت دون أن يكون الإنسان مبدعا جميلا، ومنعتهم من أن يصبحوا ما كان يمكن أن يكونوا. كما منعتهم من تقديم الرعاية لأنفسهم ولصغارهم أيضا.
فالمشكلة، كما يقول المؤلف، ليست في الحرب والفقر والظلم الاجتماعي فقط. المشكلة في تدمير إنسانية الإنسان، لم يعد يجد من ينصت إليه، أو يعتني به. أو بتعبير أدق، لم يعد مسموحًا لهذا الإنسان أن يصبح هو نفسه، وأن هذا الأخير لم يعد يعتبر كذلك. فعناية البستاني بالأزهار التي تولد في الحديقة، هو الذي ينضجها ويبرز جمالها وتميزها، إلا أن كل الناس لا يحظون بالبستاني الذي يرعى مواهبهم ويسقيها، فتضيع آلاف الأزهار وتذبل وتموت. فالذي يقضى على أحلام الشعوب في التقدم والتحرر والقضاء على الحروب والظلم الاجتماعي هو اغتيال طموحات ومواهب وقدرات الأجيال، أي حرمان الناس من فرص تحقيق إمكاناتهم، الأمر الذي يعيد إنتاج الفقر والتخلف ويديم الأزمات والبؤس.
إن الله جعل قطعة الصلصال إنسانا بعدما نفخ فيه الروح. وكذلك الرعاية الوالدية، تستطيع أن تجعل من الطفل يحمل روحا مبدعة. إن الفقر وغياب الرعاية الوالدية يعدان أمرين معطبين للطفولة، قد يكون الفقر قدرا حتميا أحيانا، لا يمكن التخلص منه، لكن الرعاية الوالدية، تظل ممكنة دوما، وقد تملأ الفراغ الذي يخلقه الفقر، فموزار ولد لأسرة فقيرة، لكن عناية والده به، هي التي خلقت منه مبدعا كبيرا.
إن الأطفال وعد الحياة، ولكل  واحد منهم مستقبل مشرق، لكن يجب أن يحظى بالتقدير المستحق حتى يمكن للرعاية أن تحقق غايتها وتطور إمكاناته وقدراته وتبعث مواهبه من رقادها وينبعث في كل طفل المبدع الكامن فيه، إلا أن ذلك ليس متاحا لكل الأطفال، لأنهم لا يتطورون في ظل  ظروف واحدة، فالفقر يحرمهم من حقهم في المساواة، ولا يتيح لهم الفرصة لتحقيق كل إمكاناتهم، ويعلق المؤلف أمله في الرعاية الوالدية، التي يمكنها أن تملأ الفراغ الذي يخلفه الفقر، وأن تبرز الجمال  الذي يميز كل طفل، وتحول دون القولبة الجماعية للأطفال التي تمارسها الحضارة الرأسمالية والإغراق ففي التقنية المعاصرة.

البيئة المعطبة
يعد الفقر بيئة معطبة، وأحد أهم أسباب ضعف الرعاية الوالدية، ففي ظل الفقر لا تستطيع الأسر أن توفر المقومات البنيوية للبناء النفسي السليم للطفل، فالأسرة الفقيرة وهي المجموعة الأولى الأساسية في تكوين المنظومة الفكرية للفرد، لا تستطيع أن توفر المناخ النفسي الملائم لإشاعة مناخ الاحترام والمبادرة والابتكار، والأسرة الفقيرة بالكاد تستطيع توفير الطعام أو الكساء وشروط البقاء على قيد الحياة في حدودها الدنيا. 
هذه البيئة المناوئة أو المعطبة يكون تأثيرها قويا خلال فترة الطفولة المبكرة، أي السنوات الخمس الأولى من عمر الإنسان، وهي الفترة المهمة التي يمكن أن تصاغ فيها الثروة البشرية للأفراد، وفيها برز ولوع موزار بالموسيقى، وفيها تلقى دروسه على يد والده الذي اعتنى به. وهو خلاصة ما أشار إليه المؤلف أنطوان دي سانت إكزوبري، والذي ألهم العديد من الكتاب الروائيين والمسرحيين وحتى القادة السياسيين إلى الاحتجاج بجملة المؤلف وجعلها عنوانا لمصنفاتهم ونداءاتهم، ولعل آخرها الشهادة الذي قدم بها الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، خطته لمحاربة الفقر في فرنسا، يوم 18 شتنبر 2018، حيث قال: «في كل طفل يولد لعائلة فقيرة هناك موزار يقتل. إنه أمر لا يطاق من الظلم والتبذير».
إن تأثيرات الظروف المعطبة في صحة الأفراد العقلية والنفسية والبدنية والثروة البشرية بعيدة المدى، بل وتتعدى ذلك إلى صياغة المآلات على مستوى الشعوب كاملة، حين يتم إهمال هذه الظروف ولا تعالج في الإبان، ولا تستبدل بظروف جيدة ملائمة. بل قد يؤدي إهمالها إلى نمو قدرات هدامة،  تسهم في إدامة التنمية القاصرة التي تؤدي إلى إعطاب قدرات الأفراد. هذا الفقر يعد من أهم الظروف المعطبة، وهو ما أشار إليه المؤلف بقوله: «وسوف يترك القالب في موزارت الطفل آثاره كما يفعل ببقية الناس. وسوف يجد موزارت متعته الكبرى في سماع الموسيقى الكريهة في المقاهي الفاسدة». وهو الأمر الذي تعانيه مجتمعاتنا المتخلفة ■